بقلم الاسير المناضل ابراهيم سالم (الداموني)

ابن الدامون

العودة
المصدر / بقلم الاسير المناضل ابراهيم سالم (الداموني)

لاجئ ابن مخيم، بداية ارتباطي بالماضي الحاضر، الحال بين الأزقة والبنيان المتراصة، هذا هو الحال في المخيم، هذا الحال في المدينة، واينما ذهب (لاجئ).

ابن مخيم عين بيت الماء، او مخيم العين القائم في الشمال الغربي وعلى سفح جبل عيبال في نابلس، جدي كان يعمل بصناعة الحصر في البلدة منذ عام 1948م مع اخوته وهي مهنة مهمة في حينه، من حيث الاستخدام وكثرة الطلب عليها بالأضافة لكونها تمثل احد ادوات الفن والتراث في ذات الوقت، الرابط بأرض فلسطين، فيربط هذا الحصير الأعوام بالذي كان يقوم به اهلنا قبل الهجرة.

حين اللجوء كانت عائلة جدي قد هُجرت كباقي الأهالي الذين هُجروا كانوا يسافرون عبر افواج مهاجرين على الأقدام، او يُدفعون عبر شاحنات توصلهم إلى خارج حدود المناطق التي تستولي عليها العصابات الصهيونية.

حنيني إليك

قرية الدامون التي تضم ما يقارب 800 نسمة سنة 48، تقع في الشرق من عكا، يوجد بها ثلاث ينابيع ومعظم السكان كانوا يهتمون بالزراعة، وبها معصرة مازالت حتى اليوم، وقد هُجرت بشكل كامل، ومن بينهم أهل جدي، وخرج مع اخوته واولاده وكان على الطريق لحظات صعبة على كل من شاهدها، وتدمع الأعين هناك على طريق الضياع، طريق الموت البطيء والجوع والفراق الذي كلف جدي اخوته حيث ذهب الاول إلى سوريا والثاني إلى قرية سخنين والآخر ذهب إلى كفر كنا، وجدي إلى نابلس، وهناك مشاهد لا حصر لها قد ضنوا انه لن تبقى منها سوى دموع تُذرف.

امتلك جدي بعض النقود من جراء عمله في مهنة الحصر والبساط وهو اول من عمل بها في مدينة نابلس ونشرها هنا، كان جدي قد استأجر منزل بالإضافة إلى الخيمة التي وزعتها الاونروا إلى الأهالي الذين وصلوا إلى منطقة مخيم العين اليوم، وهو المكان الواقع عليه المخيم، وهي أرض ملك عائلة سويسي، وبقي الحال لعدة سنوات على هذا، وتزوج أببي، كما وقامت الأونروا ببناء غرفتين لكل عائلة بدلاً من الخيم، وعُرفت بإسم (بناء الوكالة) لبنائها الضعيف مقارنة بالبناء القوي التي تستطيع بناءه.

فتنقل جدي بين المنزل والعمل هناك، والمخيم بغرفه الجديدة التي سكنها مع ابناءه، وقبل عدة سنوات قام ابي وأعمامي بالبناء بجانب الغرفتين بشكل يتيح للناظر شكل المنزل الواحد المتكامل، واضافوا طابق جديد مكون من غرفتين.

عام 1985 توفي جدي وأنجبت انا، لأحمل ذات الأسم (ابراهيم) وقال الجميع حينها، الرب اخذ والرب اعطى، وبدأت اسأل عن ذاتي منذ ادرت اسم العائلة (الداموني)، انها اسئلة طفولية، والمعاني لها كبيرة، لان آل (داموني) في المخيم يحملون اسم سالم، فداموني اسم جديد كان يبدو لي، او لقب ما.

عبر الطفولة وسنوات أخريات وعبر ذكريات طفولتي وما حملت من اسئلة، عبر طفولتي والأسماء التي سمعت عنها وحملتها، عبر طفولتي واحلامي، بدأت البحث عن كياني في اول مضمار سباق مع الحياة، وفهم حقيقتي كلاجئ، بدأت البحث عن المعنى والبحث عن الذكريات والركض خلفها، بدأ التنقيب عن ماضٍ لم احيا به، ماض مليء وسيبقى بذكريات لي اعرفها، اذكرها، ادرك معانيها، تفاصيلها، اتنفس عبقها، أتلمس ترابها، لم أكن حينها من الحياة موجود.

البحث عن الدامون، تلك القرية الواقعة خلف اسوار ومسافات الزمن الرمادي، خلف البحار والجبال البعيدة، كان يقولوا لي حين السؤال عنها، هناك بعيد, وكنت اظن ان هناك هو اللا مكان، ان هناك هو المجهول والخوف والرعب وكل شيء الا هناك، فهناك تجد الدامون.

مر العمر ومرت معه اسئلة منها من عرفت الاجابة عليه ومنها من مازلت ابحث عنها ومنها حييت لأرى ومنها ومنها؟

وكبرت المسافة بعمرنا وكبر العمر وشاخ الجرح، وترملت الدامون بأبنائها واحجارها واشجارها هناك، فهناك عام 1968 بقرية قريبة من الدامون تدعى طمرة، لا تبعد سوى كيلو عن قرية الدامون، تزوجت عمتي، كان المشهد الذي لازال في ذاكرتي، تحيا به عن هناك قطعاً من الاحجار واليابس المبعثرة وشبكا وسياج وضع عام 1948م، اشجارها الباقية يافعة رغم عدم الاعتناء بها، شامخة رغم الإنكسار الذي حل على اهلها هناك، كنت حينها ابن الثالثة عشر من عمري ورغم ذلك مازال عقلي هناك، بدأت اعلم حقيقتي هناك، فهناك الخير والجمال والبحر والبستان، هناك الاجداد والبلد، هناك كل شي ولا ينقصك شيء سوى البساطة والحضارة والرقي والتماسك، كان دليلاً على هناك، حتى اللجوء كان جماعي وفي لحظة تاريخية واحدة ولم يبقى احد في القرية، ولم يسكنها احد حتى اليوم هناك.

لماذا نشعر في لحظة ان اللجوء هو عار؟ لماذا نشعر ان حتى كلمة لاجئ هي اهانة، ولحقت بنا، ولدت في مخيم وحييت به طوال عمري وحتى اليوم يقولون عنك لاجئ، وكأن اللجوء اختياري، وكأن اللجوء خطيئتي، اشعر وكأنهم يحسدونني على هذه الذكرى وهذه الحياة بمعانيها في المخيم، لاجئ حين اسمعها وكأني اشعر ان ما يناديك بهذا الأسم يشعرك بأنك منقوص، ومحتاج وفقير وانك من تركت البلاد وانت وانت ،، بهذه الافكار التي تؤذي النفس وشكل ونمط الحياة.

اعلم يا من تقول لاجئ ان قادة الشعب لاجئون، وان اللجوء ضريبة القتال الذي دار ما بينهم وبين صهيون، أعلم يا من تزاود وابحث عن مكانك في التاريخ فلتجد ان صراعاً مثلل هذا بحاجة لإرادة قوية ونفس يتجلى ويتحلى به لاجئ، اعلم ان الحرية له ثمن عليك دائما، اعلم ان الكرامة لها ضريبة ومبدأ التمسك بها بحاجة إلى الثبات وموقف واضح تجاهها، اعلم ان اللجوء ليس خيار، اعلم ان احداث النكبة هو بداية لثورة قادمة وحت وإن طالت أكثر مما يجب ولكن هذا هو الحال.

ان شعب مثل الشعب الفلسطيني بأعدل قضية وأكرم قضية، لمس الحاجة إلى اعادة النظر لطبيعة المرحلة وبالتالي النضال والبحث عن بدائل للخروج من الازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، ونيل الحرية التي يسعى للوصول إليها، وعودة لاجئيه لا تتحقق إلا بمستوى هكذا فعل بالهدف المرحلي.

الأفضل لنا ان نقف تجاه مسؤولياتنا ومهماتنا تجاه قضينا وان نساهم للعودة التي طال انتظارها، اللاجئ لا يحتاج سوى للعودة كحاجة الطفل المحتاج إلى ضم امه، ان كان التشريد بمضمونه وشكله خيارهم ابناء صهيون، فالأفضل ان نقف امام خياراتنا وخيارنا العودة إلى الديار، خيارنا العودة للوطن، خيارنا الحرية كما هو حال خيارنا اليوم الصمود والتحدي والارادة الفولاذية في وجه آلة البطش والعدوان، ولن نقف مكتوفي الايدي كفلسطنيين سننفض غبار السنين وننهض ولن يبقى الحال على هذا الدوام ابداً فصبراً فلسطين، صبراً قرانا هناك، إننا قادمون.

 

ابراهيم سالم (الداموني)

سجن رامون