ابراهيم الراعي " الاعتراف خيانة"

ابراهيم الراعي
المصدر / فلسطين المحتلة_وكالات

إن صلبوك في ظلام الليل البارد فلا تخف

سيكون رمزا للرفاق من تعذب وما اعترف[/size]

في العتمة نحتاج النور ... وفي زمن الارتباك حيث توهن عزائم البعض ... وتصبح قوة المثل مرجلا يغلي الدماء وتشيع فينا القوة ... والراعي نور وقوة مثل لأنه واحد من القلائل الذين انتزعوا من العدو قبل الصديق لقب البطل ... تعمد بالنار، بالوعي، من رحم الشعب انبثق واليه انتمى، كان الكلمة الصادقة الشجاعة، والطلقة الجريئة ... اكتسب مناعة القوة من الجماعة وضاعف قوة الجماعة ... وإلى كل من تسر بالوهن إلى عزيمته من زمن الإرتداد واختلال الموازين ... نعيد وصل شريط الذاكرة مع الأبطال الذين انصهروا في الكل ... تحدوا الموت فهزموه ... ورصفوا الطريق ليعبروا رفاقهم ... أطفال ونساء وشبيبة شعبهم.

وقائع التحقيق الأخير مع الشهيد إبراهيم الراعي

29/1/1986م تم اعتقاله على خلفية اعتراف عليه من قبل مجموعة اتهموا بقتل إسرائيليين، وقد صمد 58 يوماً في زنازين التحقيق في سجن جنين حيث عذب بطريقة وحشية، وحكم بالسجن الفعلي لمدة سبع سنوات ونصف.

14/6/1987م نقل إلى زنازين التحقيق في سجن نابلس القديم.

24/6/1987 نقل إلى زنازين التحقيق في المسكوبية، كما تم نقله بين زنازين رام الله والمسكوبية خلال فترة التحقيق، وبقى قابعاً في زنازين التحقيق لغاية 29/11/1987م، وتم التحقيق معه بصورة وحشية كما واعتقلت أخته لمدة أسبوعين في سجن المسكوبية لمحاولة الضغط عليه للحصول على اعترافات منه، كما وكان هناك محاولات لاعتقال والدته المريضة بالسكري، وقد تهربت من ذلك.

كان مضرباً عن الطعام طيلة فترة وجوده في المسكوبية مما عرض حياته للخطر.

6/7/1987 اتصل مكتب المحامية ليئا تسيمل مع مسؤول التحقيق في سجن نابلس (فكتور)الذي أخبرهم بدوره أن لإبراهيم علاقة بمقتل ظافر المصري، وانه وجه أوامره لمن نفذ العملية خلال وجوده في السجن.

18/6/1987 – 12/8/1987 لم يسمح لمحاميته ليئا تسيمل بمقابلته.

10/8/1987 قدمت المحامية دعوى بخصوص عدم السماح لها بزيارته، بعد زيارة المحامية له كان في هذه الأثناء قابعا في زنازين التحقيق في رام الله وقد استمر التحقيق معه بعد ذلك.

30/8/1987 نقل إلى قسم التحقيق في سجن نابلس، وبقى خاضعاً للتحقيق لغاية 29/11/1987.

سمح لأهله بزيارته مرة واحدة خلال هذه الفترة، وذلك في غرفة المخابرات في سجن نابلس، وبحضور أحد رجال المخابرات، فرفض أهله الزيارة تحت هذه الشروط وبقى بدون زيارات حتى تاريخ استشهاده.

29/9/1987 منذ ذلك التاريخ بدأ بإحضاره مرتين بالأسبوع للتحقيق وسؤاله عما إذا كان لديه أقوال أخرى يدلي بها وكان جوابه النفي باستمرار.

22/10/1987 م أخذته الشرطة العسكرية إلى المحكمة العسكرية، وتم تمديد فترة التحقيق أربعين يوماً أخرى.

18/6 – 29/11/1987 منع من أبسط حقوق السجناء، ملابس ... فوره ... الخ، وقد خاض إضرابات عن الطعام مطالباً بتحسين وضعه والسماح لمحاميته ولأهله بزيارته.

7/2/1988 نقل إلى سجن الرمله للرجال (أيلون) بعد قرار محكمة العدل العليا بالقدس بوضعه في السجن الإنفرادي لفترة غير محددة زمنياً، لأن وجوده خارج الإنفرادي يشكل خطراً على أمن الدولة حسب ادعائهم.

14/2/1988 خرج لأول مره من أقبية التحقيق بعد قضاء 8 شهور ومن قبلها أربعة أشهر أخرى.

لم يسمح له بالغيار أو الاستحمام أو الحلاقة خلال فترة وجوده في السجن الإنفرادي، حيث مكث هناك حتى تاريخ استشهاده في 11/4/1988، خلال هذه الفترة كتب رسالتين لأهله، الأولى المؤرخة في 1/4/1988 والثانية 8/4/1988 واستلم أهله الرسالتين بعد استشهاده في بيت العزاء يوم 14/4/1988.

ظروف الاستشهاد

بعد سماع العائلة نبأ الاستشهاد اتصلوا بالمحامية حيث أرسلتهم إلى سجن الرمله ومن ثم إلى محكمة الصلح حيث أجريت له محكمه فورية شكلية إدعى فيها الشرطي بأنه دق باب الزنزانة على إبراهيم ولما لم يسمع رداً فتح الباب ووجد إبراهيم معلقاً بحبل من صنع ملابسه، مدعين بأنه مات منتحراً، وأردفت الشرطة بأنه ليس لديها شك بنزاهة التحقيق في قضية إبراهيم.

طلبت العائلة من المحكمة فتح ملف تحقيق وتشريح الجثمان بحضور طبيب مختص تختاره العائلة وطالبت باستلام الجثمان، وافقت المحكمة على فتح ملف تحقيق وأعطتهم مكتوب تخويل باستلام الجثة في تمام الساعة العاشرة من مساء يوم الثلاثاء 13/4/1988 ولكنها قررت أن يتم التشريح في معهد أبو كبير ونسقت معهم على حضور "الدكتور حسن عبد الفتاح متانة " من قلنسوة لعملية التشريح، وتم ترتيب موعد بهذا الشأن وعن ذهاب العائلة والطبيب إلى الموعد المحدد أخبرتهم السكرتيرة أن دكتور "خيس" غير مفوض بالتنسيق معهم وأنه غير مسموح للطبيب الذي اختاروه حضور التشريح ولكن بإمكانه رؤية وجه الجثة فقط، رفضت العائلة والطبيب ذلك لأنه غير كافي.

استدعى الحاكم العسكري العائلة واخبرهما بالسماح لعشرة أشخاص فقط حضور الدفن دون إجراء مراسيم، وأن نقل الجثة سيكون ليلاً من معهد أبو كبير إلى المقبرة رأساً دون السماح بغسل الجثة أو الصلاة عليها وحذرهم من محاولة القيام بأي ضجة خلال الدفن.

قامت قوات الاحتلال الصهيوني بمحاصرة بيت الشهيد والمقبرة منذ الساعة السابعة مساء ومنعت والدته وشقيقته من مغادرة المنزل، كما أغلقوا كافة شوارع المدينة وفي تمام الساعة التاسعة ليلاً أرسلت بلدية قلقيلية سيارة الإسعاف إلى معهد أبو كبير لإحضار الجثمان ولكن تم إحضاره في سياره للشرطة في تمام الساعة العاشرة والنصف وشارك في الجنازة خمسة عشر شخصاً فقط وقد استطاع أفراد العائلة الكشف عن الجثمان ووجدوا ما يلي:

ضربة بالرأس زرقاء متورمة مع كسر في الفك ودما ء نازفة في الأذن ولم يجدوا آثار تشريح للرأس.

ضربة في الخاصره بطول 6 سم.

علامة في أسفل الرقبة واضح أنها آثار جنزير.

لم يكن الوجه مزرقاً أو أسود وإنما ذا لون طبيعي واللسان في وضع سليم. (ويعتقد انه قد تم خنقه بجنزير بعد استشهاده).

تابعت العائلة القضية واستعدوا لإخراج الجثة للتشريح مرة أخرى لتأكدهم من استحالة إقدام ابنهم على الانتحار حيث كانت معنوياته عالية جداً كما يتضح من رسائله لهم إلا إن القضاء الإسرائيلي لم يستجب لطلبهم.

بطاقة الشهيد

نضالاته ومآثره تاريخ الانتماء للجبهة الشعبية 1978 حيث كان قبل ذلك قد انخرط في النضال الوطني لسنتين من خلال النشاط الوطني العفوي ومن ثم النشاط الوطني المنظم ولكن في إطار سياسي غير كفاحي لمده قصيرة لا تزيد عن الشهرين وسرعان ما تحرر الشهيد من دائرة الإطار المتداعي ليواصل كفاحه العفوي حتى قاده حسه الوطني وكفاحيته العالية إلى عالم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين النضالي، ومنذ ذلك التاريخ وحتى لحظة استشهاده ظل وفياً لانتمائه، كفاحياً كجبهته، متوثباً كجيفارا، شرساً في مواجهة الأعداء كجندي في جيش الجبهة الشعبية.

اعتقل الشهيد في آب 1978 وحكم عليه لمدة خمس سنوات، وداخل الأسر عاش الشهيد كرجل مكافح وصدامي وفي أحضان منظمة الجبهة الشعبية، تربى الشهيد فكرياً وسياسياً ونضالياً، وانصقلت شخصيته ككادر جبهاوي يتمتع بروح كفاحية عالية وصلابة عود وجرأه وشجاعة نادرتين وسلوك حياتي مفعم بحب الرفاق والمناضلين والشعب، حيث تميز بالحس المرهف والعاطفة الكبيرة تجاه الشعب والمناضلين وكان شعاره (" إذا كنا إمام الأعداء صلبين وشرسين فإننا مع شعبنا ورفاقنا واخوتنا اكثر الناس رقه وحنان وحب".

المبدأ والتضحية أولا

عندما أمضى الشهيد أربعة أعوام من مدة محكوميته أفرج عنه ضمن حملة افراجات واسعة أجرتها السلطات الصهيونية بالتنسيق مع روابط القرى العميلة وذلك لتلميع وجه الروابط الملطخ بالوحل والمقاطعة الجماهيرية الواسعة، وبينما كان رجالات وزلم الحكم العسكري والروابط في قاعة الحكم في مدينة جبل النار نابلس، دخل الأسرى المفرج عنهم ولديهم قرار يقضي بتكليف الشهيد بإلقاء كلمة وطنية.

وقد افتتحت الإدارة المدنية الاحتفال وتلاهم في الحديث عميل الروابط جودة صوالحة وتحدثوا عن ما يعتبروه سلاماً وتعايشاً في ظل الاحتلال والإشادة بالروابط العميلة ... الخ. في نهاية الكلمات طلب من رفيقنا الشهيد الكلام فارتسمت الابتسامات على شفاه الغاشمين الصهاينة وعملائهم وظنوا انهم سيسمعون حديث المديح والاستسلام وقد بدد شهيدنا الابتسامة بسرعة حيث انطلق في الحديث متدفقاً كالنهر الثائر والحصان المتألق وقال:

((في البداية أؤكد أنني أتحدث باسم زملائي الأسرى المفرج عنهم وزملائي الأسرى داخل السجون الصهيونية، يجب أن تعلموا إذا كنتم تعتقدون بأن الإفراج عنا هو ديمقراطية إسرئيلية وأن الروابط تمثلنا، فان شعبنا قد قال: بأن م.ت.ف هي الممثل الشرعي والوحيد وباعتراف اكثر من 120 دولة عالمية باستثناء أميركا وإسرائيل وما الروابط إلا عملاء منبوذين ولا يمثلون إلا أنفسهم، أما إذا كنتم تتباهون بالديمقراطية أقول لكم بأن السجون تغص بالمرضى وكبار السن ويمارس ضدهم القتل البطيء فلماذا لا تفرجون عنهم، إن تبجحكم بالديمقراطية ليس إلا خداع وأكاذيب ...)) وأثناء الحديث غضب رجالات الحكم الصهيوني وتبادلوا النظرات والهمسات وتدارك عريف الحفل الصهيوني الموقف وقطع حديث رفيقنا الشهيد قائلاً: "يبدوا انك أيها الشاب المثقف عدوا للسلام" فرد عليه شهيدنا "أنا وشعبي نحب السلام الحقيقي أما أنتم مجرد مخادعون" وهنا ترددت في أرجاء القاعة أصوات الأسرى هاتفة لـ م.ت.ف والثورة والنصر وعند باب الخروج كان بانتظار شهيدنا رجال الشرطة والمخابرات وتم اعتقاله مجدداً ليمضي مدة سنة كعقاب في معتقل الخليل وقد أمضاها وهو مرتاح الضمير عالي المعنويات، كيف لا وهو يلج الصعاب منذ الثواني الأولى لتحرره من الأسر، نعم لم يفكر في تلك اللحظات في الأهل والحرية الفردية وإنما تملك كيانه الواجب الوطني كرجل ينبغي أن يكون في العمل المناسب وباللحظات المناسبة لخدمة حزبه وشعبه وثورته مهما كلفه ذلك من ثمن وهذه الأصالة المبدئية العالية والإنصهار الكلي في قضية الثورة والشعب كلها سمات كانت تميز الشهيد بوضوح وتجعله دوما في مقدمة الصفوف وإيثاري إلى أبعد حد وتضحوي بلا حدود وشجاع وجريء. فاالمهم والأساسي لدى الشهيد هنا المبدأ، والقضية، والعمل الجاد في سبيلهما مهما كانت التضحيات.

في آب 1983 تحرر الشهيد من القيد بعد انتهاء مدة حكمه وهو مرفوع الهامة ومكللاً بالفخر والوطنية الخالصة والتحق بجامعة النجاح - كلية الآداب، وهناك كان مثالاً للطالب الوطني المجتهد في علمه وانتماءه الوطني، في آن واحد، حيث لعب دوراً أساسياً في بناء وتنشيط الإطار النقابي على أسس جبهوية وديمقراطية وجماهيرية، فعمل على صياغة لائحة داخلية كانت الأولى في تاريخ جبهة العمل الطلابي التقدمية في الجامعة وساهم في القفز بالإطار من تجمع طلابي إلى واقع الإطار النقابي المنظم الذي لعب دوراً بارزاً على صعيد النشاط والفعل النقابي المطلبي والوطني العام داخل الجامعة ومدينة جبل النار في نفس الوقت وإلى جانب ذلك ساهم بالرقي بالعلاقات الوطنية بين الأطر الطلابية الشقيقة وصياغة برنامج وطني يرتكز على الأسس والثوابت الوطنية والمصلحة الطلابية النقابية والأكاديمية والاجتماعية لعموم الطلبة.

وهذا الدور المميز إلى جانب تمتعه بسلوك وسمعة وطنية واخلاقية حسنة جعلته محط احترام وتقدير وإعجاب ليس لرفاقه داخل الإطار وحسب وإنما كذلك إلى كافة القوى الطلابية الوطنية. وخلال تواجده في الجامعة كان في مقدمة الصفوف الوطنية في عملية التصدي للعصابات السوداء والمارقة في الجامعة وخارجها.

ورفيقنا لم يتوانى لحظة واحدة في الدفاع عن القوى الوطنية وردع المعتدين حيث قال حين ذاك "نحن لا ندافع ولا نقاتل لأسباب فئوية بل من اجل مبادئنا ووطننا والشرفاء، ولن نحني رؤوسنا لهذه العاصفة السوداء" وبهذا تصدت كافة القوى الوطنية وقد أصيب الشهيد في تلك الأحداث إصابة بالغة في عينه.

اذهب ولا تعد إلا بطلاً

رغم حبه الشديد للعلم وتمتعه بعقلية وفكر علمي إلا إن ظروفه النضالية فرضت عليه ترك الدراسة في الجامعة والعمل النقابي والتفرغ للغة الفكر والبارود وحب الوطن والشعب المناضل، وليعمل في المجال الذي عشقه ويتناسب مع طبيعته الكفاحية الصلبة لقد أدرك العدو الخطر الكامن في أعماق هذا الجندي المجهول السنوط، الخفيف كالظل في تحركاته وغزواته الجيفاريه، لذلك جند الكثير من العملاء لاصطياد الجندي الذكي ولكن هيهات فشهيدنا المتمرس في العمل السري كان على قدر من الذكاء بحيث لم يترك أثراً خلفه يمكن أن يشكل حجة أو إدانة كمدخل لضربات أمنية، كان العملاء المكلفون بمتابعته يهابونه ويخشون الوقوف أمامه أو متابعته لفترة طويلة لدرجة انهم باتوا يشكون ليس بقدرتهم على مراقبته وحسب بل كذلك بأن الشهيد قد كشفهم جميعاً فارتدعت فرائصهم وتباكوا لرجال المخابرات القذرين.

وعندما انهار أحد الأشخاص اعترف على شهيدنا البطل فكان قرار المخابرات يقضي بمداهمة منزله وخطفه والتحقيق معه، وفي حالة صموده يتم تصفيته كما فعلوا مع الشهيدين البطلين بلال النجار وحسني شحرور إلا أن الشهيد لم يكن في منزله وقت المداهمة وتم اعتقاله في 19/1/1986 من منزل عائلته على حين غرة.

وقد واجه الشهيد الموقف ببسالة مرتكزاً على مبادئه وإخلاصه للجبهة الشعبية والثورة والرفاق وقيم الصمود البطولي وعندما قالت له الأم الحنون وهو محاط بالأعداء "اذهب ولا تعد إلا بطلاً" خرج مرفوع الجبين يتحدى الجلادين والقتلة وهناك دافع عن خندقه ببسالة رغم كثرة الاعترافات عليه ففي معركة الاقبية مع القتلة، البطل يدافع عن خنادقه، يدافع عن أسرار رأسه، يدافع عن المنهارين ويستنهض الهمم ويدفعهم نحو الصمود وخلال شهرين من التعذيب القاسي خرج الجلادين بنتيجة واحدة مفادها: "صلب عنيد، لا يريد إن يتحدث".

الشخص المنهار عندما حضر للشهادة المباشرة عليه ثار على الجبن في داخله وتمرد من جديد أمام هيبة القائد الشهيد وسحب الاعتراف وكان من الممكن أن يتم الإفراج عنه أو أن ينتهي التحقيق معه عند هذه الحدود لولا تقادم اعترافات جديدة عليه جاءت على إثر اعتقال مجموعة عسكرية اعترفت عليه من خلال تشخيص الصورة بأنه مسؤولهم العسكري وهي مجموعه عاملة في فلسطين المحتلة 48 (باقة الغربية - عرابة) التي اختطفت الجندي الصهيوني (موشي تمام) وكانت المجموعة تعتزم إخراجه من الوطن لقواعد الثورة بهدف مبادلته بأسرى فلسطينيين يتواجدون داخل السجون الصهيونية. وعندما تعثرت محاولاتهم قاموا بتصفيته.

وهنا تم نقل الشهيد إلى معتقل جنين ومن ثم إلى مراكز تحقيق داخل فلسطين 48 واستخدموا معه كافة أساليب البطش والتحقيق الجسدي والنفسي دون طائل لدرجة أصبح أحد الضباط المهزومين يردد عن الشهيد "بقرة برأس إنسان"، للتدليل على رفضه للكلام والتزام الصمت التام وفي أحد جولات التحقيق في معتقل جنين استدعى الشهيد من قبل الضابط المناوب المدعو "الياس" والذي قام فيما بعد بقتل الشهيد عوض حمدان وقال له الضابط المغرور: اسمع يا إبراهيم سأحكي لك قصة عن كيفية تدريب رجل المخابرات الإسرائيلي، يمكث الشخص داخل غرفه مغلقة مع كرسي فقط ويظل يتحدث مع الكرسي لمدة ثلاث أيام ويحضر المسؤول وإذا وجد الكرسي يتحدث يقبل الشخص للعمل في جهاز المخابرات وإذا ظل صامتا مثلك يرفض من البداية، وأنا سأتفرغ لك عدة أيام وليس ورائي عمل وقد سبق وأن تحدث الكرسي معي.

ضحك الشهيد وسأل الضابط : هل حققت مع طاولة؟ أجاب كلا.

فقال له: أنا الآن طاولة إذهب وحقق مع الطاولة وعندما تعود ستجدني قد أصبحت جبلا ً فاغتاظ الضابط ولوح بيده "اذهب أريد أن أنام".

لقد أمضى الشهيد أكثر من أربعة أشهر في التحقيق دون أن يحصل الجلادين على النتيجة التي يتوخونها من أساليبهم البربرية المتبعة ضده، حيث عجزت العصي عن تحريك لسان القائد الجبهوي وعجزت محاولات القتل عن النيل من تصميمه على الصمود والصمت المقدس وتبددت عمليات العنف الجسدي والعصبي بفعل روحه المعنوية العالية وقدرته على تحمل الشدائد والعذاب، فوجد الجلادين أنفسهم أقزام وانسحبوا من أرض المعركة مهزومين وقدموه للمحاكمة وحكم عليه سبعة أعوام ونصف.

وخلال فترة توقيفه في معتقلي نابلس وجنين ظل حامل الراية الجبهاوية، يقظاً، ديناميكياً، شجاعاً وجريئاً، ومقداماً ولم يزده التحقيق إلا صلابة وإصرار للمضي قدماً في درب الجبهة الشعبية وبهذه الاستعدادات انخرط مباشرة بالعمل داخل منظمة الأسر الحزبية وركز جهوده في البناء الداخلي والثقافي والوطني والأمني وتميز في الجانب الأمني، وكان نقمة ساخطة على العدو والعملاء مما زاد من نقمة العدو عليه ودفع بأحد ضباطه لتهديد الشهيد بوضعه في السجن الإنفرادي ونقله إلى معتقل آخر إذا لم يتوقف عن نشاطه.

في شهر شباط 1987 حكم عليه الصهاينة ونقل إلى قلعة جنيد البطلة وفي قلب هذه القلعة الشامخة احتل الشهيد مركزاً قيادياً في منظمة الجبهة الشعبية ومارس نشاطه الحزبي في كافة أوجه نشاط المنظمة وكان طلائعياً ومثالاً في الصمود والتفاني وتحمل الألم وحب الرفاق والأخوة والشعب وكان لشخصيته الكفاحية أثراً كبيراً في نفوس المناضلين وتطورهم والاستفادة من تجاربه الغنية وممارساته اليومية والاجتماعية والنضالية لينال عن جدارة لقب "خلية النحل" العاملة بالمثابرة والإصرار.

ضربة جديدة وصمود جديد

خلال منتصف الثمانينات وحتى أيار 87 قامت مجموعة غوارية شجاعة في منطقة الشمال بنشاط وجرأة ودقة وتخطيط بارع لا نظير له وطالت ضرباتهم قلب جهاز المخابرات الصهيوني وحرس الحدود والمستوطنين وعملاء العدو وقلب التسوية على حد تعبير الصهيوني شمعون بيرس في وصفه لنتائج إحدى عمليات مجموعة الجبهويين البواسل وهي مجموعة لم تقلق راحة العدو وحسب وإنما كانت لها ضربات مميتة وخلفت له إزعاج عصبي ومعنوي كبير بحيث جند العدو طاقة كبير بهدف القضاء عليها والأمر القاسي بالنسبة للاحتلال كان تزامن نشاط المجموعة الجبهوية مع تصريحاته وتبجحاته بأن هذا العام عام تصفية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقرار من أعلى سلطة صهيونية في الكيان، مجلس الوزراء، ولجنة الداخلية والأمن التابعة للكنيست الصهيوني نظراً لما تمثله الجبهة الشعبية من مخاطر حقيقية على وجود العدو على أرضنا ووطنا الغالي ومسيرة التسوية الأمريكية والصهيونية.

لذا حاول العدو من خلال جهازه الاستخباري القضاء على الوحدة العسكرية بأية ثمن ولكنه كان يصطدم بذكاء أفرادها وصمود قائدها في أقبية التحقيق وفي آيار 1987 وقعت الوحدة العسكرية في كمين قسري قاد إلى اعتقال جنودها – مقاتلين فقط – ليتضح للعدو في سياق التحقيق بعد شهر بأن الشهيد إبراهيم هو قائد الوحدة الفدائية واقتادوه مجدداً من قلعة جنيد لمركز تحقيق المسكوبية الرهيب وهناك وجهوا له تهمة مسؤولية الوحدة الفدائية والكثير من التهم ومنها:

تصفية "البرب بوخاريس" ضابط الادارة المدنية وهو من مدينة العفولة بتاريخ 28/3/1985 وهو عضو في المنظمات الفاشية وكان على رأس المظاهرات المعادية للعرب هناك.

تصفية مستوطن مخابراتي في مدينة طولكرم بتاريخ 26/8/1985.

تصفية مستوطن في مدينة جنين بعد ساعة واحدة من عملية طولكرم.

تصفية ضابط حرس حدود "جميل فارس" في مدينة نابلس بتاريخ 1/1/1986 وكان معروف عنه بحقده الكبير وبطشه اليومي بسكان المدينة خلال 18 عاماً من مدة خدمته وقد أصيب في نفس العملية ضابط وجرح آخر بجراح خطيرة.

تصفية العميل ظافر المصري رئيس بلدية نابلس المعين من قبل السلطات الإسرائيلية بتاريخ 2/3/1986 نظراً لدخوله البلدية ضمن مؤامرة سياسية نسج خيوطها الاحتلال والنظام الأردني بالتعاون مع أزلام الأردن والاحتلال والتي كانت تعرف بمؤامرة التقاسم الوظيفي بين الأردن والاحتلال عبر شخصيات فلسطينية مزدوجة الولاء في مقدمتهم المقبور ظافر وعدداً آخر من المرشحين للتعيين وهذه العملية أدت إلى ردع المرشحين لاستلام بلديات رام الله والبيرة والخليل حيث أعلنوا عبر الإذاعة الصهيونية مباشرة عن عدم استعدادهم لتسلم البلديات بدل الرؤساء الشرعيين ودفع حياتهم ثمناً لذلك ومنهم من خرج خارج الوطن ليعلن من هناك براءته من مشروع التقاسم الوظيفي والتعيين وقد وصف بيرس هذه العملية بالقول بأن الرصاصات التي أصابت قلب ظافر قد أصابت قلب التسوية.

تصفية مستوطن صهيوني في مدينة نابلس بتاريخ 5/6/1986.

محاولة لتصفية رئيس بلدية جنين المعين العميل عبد الله اللحلوح بتاريخ 26/5/1987 وقد أصيب بهذه العملية عميل آخر من عائلة اللحلوح ويعمل حارس شخصي لرئيس البلدية.

إضافة إلى العديد من عمليات نصب الكمائن للدوريات الصهيونية والمستوطنين.

وفي المسكوبية قيل له "لقد انتهى كل شيء يا إبراهيم ألا ترى الاعترافات عليك" وقائمة التهم؟ اعترف، اعترف يا إبراهيم الاعتراف أو حياتك، لا نريد منك إقرار بمسؤولية الخلية والتهم فهذه كلها أمر ثابت عليك وتحكم عليها مؤبد بدون اعتراف حسب قانون تامير ولكننا نريد فقط أن نعرف المسؤول عنك، من هو الملثم؟ أين البيت؟! أين الملثم؟ لقد اعترفوا عليك لا يفيد الإنكار كل شيء انتهى اعترف ...".

ضربة جديدة، خسارة جديدة، أهذا ضباب أم حلم، لا، لا، إنه حقيقة البطل يا بطل انهض وثبت قدماك ودافع عن خندقك فالأعداء قادمون ... قادمون والهجوم عنيف وأنت الوطنية والعقائدية وحدك وهم كثر، انهض ودافع عن الخندق لا شيء الآن يفيدك إلا الدفاع عن الخندق والدفاع إذا استمر سيتحول إلى هجوم والهجوم إلى نصر، دافع يا إبراهيم فالأم تريد منك العودة بطلاً أو الموت بطلاً – الحزب يثق بك كبطل والرفاق يعرفون أنك تموت ولا تخون والكل معك وأنت معهم والجبل بينكم أقوى من الجلاد والضربات أصمد … اصمد ... يا بطل يا قوي، أنت جبل، أنت بركان، أنت جندي الجبهة الشعبية وهم أقزام.

أنت أيها المحقق لماذا تضربني بشدة؟

لكي تعترف بسرعة.

ومن قال لك أنني سأعترف بالضرب أو غيره؟ ألم يقل لك رؤسائك بأنني لا اعترف وأنهم جربوني قبل بضعة شهور لماذا تتعب نفسك أنا لا اعترف.

اخرس، اخرس سوف تعترف نحن هنا جهاز مركزي وطاقم مختار من أفضل قادة وجنرالات المخابرات الإسرائيلية وليس موظفي مراكز فرعية.

يضحك الشهيد ويحدق في عيني المحقق يتحدى ويسأل المحقق مستغرباً:

لماذا تنظر إلي هكذا؟

جميعكم تقولون في البداية هكذا، أنا أفهم شيء واحد جميعكم أعداء تريدون قتلنا وتصفية ثورتنا وشعبنا ولا فرق بينكم، ورأسي واحد ولساني واحد وعقيدتي واحدة، لن أعترف بشيء وسوف ترى شيء وتقنع.

الأيام تمر والتحقيق الجسدي لم يجد نفعاً والبطل ظل صامداً فما العمل؟ أحدهم قال إلى الشبح خذوه، عشرة أيام متواصلة من الشبح وجندي ومناوب يجلس على كرسي يحمل بيديه بكيت حمص يتناول منه حبة حمص ويضرب بها رأس البطل كل خمسة دقائق لكي لا يعطيه فرصة للنوم، تناول مرة أو مرتين القليل من الطعام، لم يسمحوا له بقضاء الحاجة سوى مرتين … طاقم التحقيق يراهن على الإنهيار العصبي والإرهاق كحد أدنى، في اليوم العاشر يأخذ البطل بالغناء وتحدى الحارس والجلادين، وهم محتارون في أمره، ترى هل سيفعل بنا ما فعله محمود فنون على نفس بسطة الشبح؟ نعم هو وفنون رفيقان، وسوف نغطي الهزيمة بإحضار شقيقته.

أوقفوه بالقرب من إحدى غرف التحقيق وهو يكابد الإرهاق والنعاس، عشرة ليالي لم ينم، الآن سيضحك في وجه المحقق ويقول له ألم أقل لك أنا لا اعترف ... هذا ما كان يفكر به البطل عندما تناهى إلى سمعه صوت شقيقته وهي تتحدى الجلاد بشجاعة وهي تكيل له الصاع صاعين، يضحك في سره رغم المفاجأة، "مساكين يريدون تغطية الهزيمة بفتح معركة جديدة، ألا تعرفون بأنكم أحضرتم مع شقيقتي عوامل صمود جديدة، حقد جديد وتحدي جديد، المعركة مستمرة أيها الجلاد ليس الآن فقط وإنما حتى فلسطين الديمقراطية الشعبية.

وجوه كثيرة تحدق به، أحدهم ويبدوا أنه رئيسهم يقول "أنظر ما فعلته بنفسك يا إبراهيم، الصمود لن يفيدك، ستقدم للمحاكمة بدون اعتراف، ما ذنب أختك حتى تعتقل من أجلك وغداً ستحضر والدتك وقد سلمناها طلب – لقد سلمت ولكنها لم تذهب – فكر بنفسك وبعائلتك نحن لا نريد منك سوى الاعتراف عن المسؤول وكيف تتصلون بدمشق ... لن نتركك حياً إذا لم تعترف، سنغتصب أختك وأمك ... سنفعل كذا وكذا".

يطرد البطل النعاس ويتفحص المتحدث ويقول ببرود أعصاب وكأنه حيادي مما يجري حوله:

بعد أن فشلتم في الشبح جربوا معها أو مع الوالدة ستلاقون نفس النتيجة السابقة، لن أعترف يجب أن تفهموا ذك مرة واحدة.

المحقق يصرخ "أنت مجنون".

وأنت غبي.

سأقتلك.

مش مهم المهم أن لا اعترف، لن أخون.

أقسم بشرفي أنك ستموت سنقتلك ببطئ، سنجعلك تنفجر من داخلك ثم نقتلك.

الشهادة نصر لي وهزيمة لكم وأنا لا أخاف الموت وسوف يتابع رفاقي الطريق.

أنت مجنون تظن أن حبش يتذكرك الآن لا أحد يتعذب معك.

وأنت واهم وتكذب على نفسك وليس علي، إن الرفيق الحكيم لا يكف عن التفكير بي وبرفاق شعبه وكل مقهوري العالم، كل ساعة يحضر إلى المسكوبية ويشد على يدي ويقبلني ويهمس، أصمد فالنصر قريب، أصمد وحارب ولا تنظر للخلف سوف تنتصر أنت، أنت نحن ونحن أنت.

ألم أقل لك أنك مجنون، فأنت تهذي وتقول هلوسات غريبة إذا أردت أن تنام إذهب وغدا تأتي للاعتراف، مسكين يا إبراهيم لقد فقدت عقلك من الشبح.

يضحك إبراهيم ويقول بتحدي وهدوء، أنا لا أهلوس ولكنك أنت تهلوس، حين تحاول أن تقنعني بأنني أهلوس ومجنون، فحالتي في علم النفس تسمى الانصهار الكلي في هموم الشعب والثورة، حالة توحد الذات بالمجموع وأنصحك أن تترك كتب ودراسات علم النفس البرجوازي وأن تدرس علم النفس المادي وفلسفة فوتشي وفنون وزكريا منصور الخواجا والشفيع الحر الأسمر، ربما تتعلم شيء يفيدك في فهم شعبنا ومناضليه.

المحقق يتصنع الهدوء ويقول "أنت صعب يا إبراهيم، ارحم نفسك، ستموت إذا صممت على تحدي المخابرات".

واجبي في هذا الوطن، أن أتحداكم وأقاتلكم حتى النصر.

المحقق يصرخ أحضروا أخته.

البطل يلتزم الصمت والهدوء ويظل هكذا واقفاً شامخاً كجبل، كمحارب جبار بعث في زمن البلشفية العالمية بثوب الفلسطينية الحقة ويختصر الاثنان المسافة، فثمة مبادئ وثقة بالنصر، فلم الخوف إذن ولم الاعتراف إذن؟ إنها تمثيلية قديمة يلجأ إليها العدو كلما عجز عن انتزاع الاعتراف من أحد الصامدين عسى ولعل أن يتحرك الشعور الشرقي وصوناً للعرض يهتك أشرف الأعراض، يهتك أسرار الحزب والثورة والشعب المقدسة ولأن العدو لا يمارس إلا بالتهديد والكلمات البذيئة ليدخل في روع المعتقل بأن الأمور قاربت على الانهيار. وهنا تلعب الأعصاب والمبدئية والصمود دور الفصل، فالتماسك لحظات على قاعة المبدأ تنهي المعركة بدون خسائر والعدو أدرك من البداية أنه الخاسر في معركة الشهيد الجديدة لهذا كف عن التهديد وفتح معركة الأعصاب.

لقد استمر الشهيد 4 شهور في معتقل المسكوبية وعندما أيقن الطاقم فشله النهائي وهزيمتهم أمام جبروت الشهيد نقلوه إلى زنازين معتقل رام الله ومن هناك بعد فترة وجيزة إلى زنازين معتقل نابلس القديم، حيث تخصص طاقم التحقيق العصبي مع الشهيد لمدة خمسة شهور على أمل أن يحطموا نفسيته وأعصابه جراء العزل والتعذيب العصبي المستمر وقيل له "نحن نعرف بأنك لن تعترف بشيء مهما فعلنا بك ولكننا سنبقيك في الزنازين سنوات معزولاً حتى تفقد عقلك وتتحطم ثم نقتلك بهدوء دون أن يشعر أحد.

وفي نابلس أدرك الشهيد أنه أصبح بحق على قدر الإسم الذي أطلقه عليه الرفاق – أبا المنتصر – فقد انتصر فعلاً وما العزل وحرب الأعصاب إلا دليلاً قاطعاً على هزيمة الأعداء وانتصار البطل مما ضاعف من صموده وتحديه للجلادين واتخذ على عاتقه التحريض على مستوى معتقلي الزنازين وبصوت مسموع ضد الاعتراف وفي سبيل الصمود والتحدي، فكان يقرأ أشعار الصمود لمظفر النواب وناظم حكمت ويغني للثورة والنصر وينظم بنفسه قصائد الصمود الشعرية والنثرية وظن الأعداء إنما يفعل ذلك لكي يجبرهم على إخراجه من العزلة، فوضعوه في الزنازين المأهولة بالمعتقلين فظل يغني ويردد الأشعار ويرفع الهمم ويحث المناضلين على الصمود وقد أقنع أكثر من مناضل على سحب اعترافه عن نفسه وعن الآخرين وفي إحدى المرات طلبه ضابط التحقيق وقال له:

أنت متهم بإقناع فلان بسحب اعترافه.

أمركم مضحك، ومرة تحققون معي على مجموعة عسكرية وأعمال عسكرية، ومرة تحققون معي على إقناع عميل بالتراجع عن العمالة ومرة ثالثة على إقناع معترف بسحب اعترافه ماذا تريدون بالضبط أنا هكذا فماذا تريدون.

لا تراوغ يا إبراهيم ولا تتدخل في عملنا.

لا أخاف التهديدات ولا أخاف الموت.

المحقق صارخاً – أيها الشرطي إذهب به إلى الزنزانة.

عاش الشهيد في تلك الأيام قناعته المطلقة ومارسها على صدر العدو رغم أنه كان يدرك بأن مصيره سيكون القتل وأن عزله انفرادياً سيكون طويلاً فقد رفضت المخابرات خلال تسعة شهور السماح لذويه بزياراته إلا في حجرة خاصة وبحضور شرطي وضابط مخابرات وهذا ما رفضه الشهيد وذويه بشدة.

لقد عرف عن الشهيد حبه الكبير لوالدته وأفراد أسرته ورفاقه، لقد أحبهم بلا حدود وتعلق كثيراً بوالدته المريضة لكنها القوية بروحها وصلابتها المعنوية، كما أن وضع الإنسان في عزلته تسعة شهور في زنازين وحرب جسدية ونفسية وعصبية متواصلة أمراً ليس بسيطاً ولكن رغم هذا وذاك فإن الشهيد نهض بحمله الثقيل من وسط الجراح والألم أطل علينا مبتسماً متفائلاً لا يشكو من شيء أو سوء الحظ والطالع والمصير الصعب، إنما راضياً عن نفسه متفائلاً مصمماً على خوض المعركة حتى النهاية الفاصلة.

محكمة العزل الانفرادي

لم يكتفي الشهيد في زنازين نابلس بالصمود وحماية أمن الرفاق والحزب وشرف الانتماء وثقة ذويه ورفاقه بل مارس سياسة هجومية ذكرنا إحدى جوانبها فيما سبق ونذكر تحديداً التحريض وإقناع المناضلين بالصمود ولكن أكثر عظمة هو إعلان الشهيد الإضراب المفتوح عن الطعام ضد الجلادين وسياسة العزل واستمر الإضراب 12 يوماً حيث تدخل محامي الشهيد ورفع قضية ضد المخابرات والعزل الانفرادي وفي هذه الأثناء أصدرت الحركة الوطنية الأسيرة في السجون الصهيونية نداءاً تدعو فيه العالم للتدخل السريع لإنقاذ حياة المناضل إبراهيم الراعي وقد وزع البيان مع صورة المناضل على نطاق واسع.

وبعد مماطلة بيروقراطية متعمدة عقدت المحكمة جلستها في مدينة نابلس بحضور البطل إبراهيم ووالدته ومحامي الدفاع وطالب المحامي بوقف التحقيق المستمر معه منذ تسعة شهور وإخراجه من الزنازين الانفرادية وإدخاله للسجن والسماح لذويه بزيارته بدون قيود ولكن المدعي الصهيوني طالب ببقاء رفيقنا ما لا يقل عن سنة في التحقيق لأنه كما قال عنيد ولا يتكلم ولدى المخابرات قناعة بأنه خطير وأن نزوله للسجن سيحل خطر على أمن السجن والخارج وقال أن عليه اعتراف بأنه كان يقود الخلية العسكرية وهو داخل السجن.

لم يسمحوا له بمصافحة والدته أثناء المحكمة، كان محاط بعدد كبير من الشرطة وحرس الحدود، يقف في وسطهم منتصب القامة مرفوع الرأس، صارماً في نظراته، ملابسه ممزقة ووسخة وشعره مسترسل على كتفيه، آه يا رفيق لم يسمحوا لك بتغيير ملابسك وحلاقة شعرك ومصافحة والدتك، لا بأس هكذا هم وهكذا أنت، بطل صارم مع الأعداء، إنسان رقيق القلب مع الأحبة والشعب وتوزع نظراتك بين الحقد على الأعداء والحب الكبير نحو الأم، وبعد أن حكموك عزلاً انفرادياً تدفع الشريط والحارس بيدك وتصرخ به "ابتعد" وتصافح يدك يد الوالدة بحرارة، لقد صافحتنا جميعاً فشكراً لك.

العزل الانفرادي في معتقل الرملة والقتل مع سبق الإصرار

تسنى للشهيد إبراهيم وهو في طريقه للعزل الإنفرادي من معتقل نابلس القديم لمعتقل الرملة أن يلتقي مع عدد من الرفاق ومن ضمنهم جنود وحدته الفدائية فقال له أحدهم: يا إبراهيم ألم تؤثر عليك الوحدة الطويلة، فرد عليه الشهيد مبتسماً "إذا رموني في البحر سأخرج من تحت الماء ومعي سمك".

أنت الآن ذاهب لوحدة جديدة لا يعلم أحد متى تنتهي، لقد جهزت نفسك من البداية بعدة الغوص، فاذهب عميقاً في جوف المحيطات، إذهب يا رفيق إذهب، فالماء ينادي السمك ينتظر الصياد الماهر، أينما تذهب فهناك معركة، أينما تذهب هناك وطنك، هناك خندقك، وأنت الآن في نفس زنزانة الثائر الأممي كوزو أكوموتو، احفر بأصابعك جدران الزنزانة وشيد عالم ثورتك فيها هم أجيالك وشعبك يفجرون الغضب المتراكم ويصنعون ثورة انتفاضة، وأنت انتفضت دوماً ولم تخبو نار انتفاضتك لحظة حتى وأنت بين جدران الزنزانة الصماء تصنع ثورة، تصنع حياتك، قتلت الوحدة وما قتلتك، ومضيت تواكب الانتفاضة وقالوا لآخرين "هذا قاتل فلان وفلان وهو شيوعي ملحد ويجب أن يموت" وأسيادهم قالوا "سترون قريباً ما سنفعله به، كنت تعرف وتحس بذلك ولكنك لم تبالي بهم ومضيت تدرس وتعيش قناعتك بلا خوف وبلا تردد وكأنك تمتلك مفتاح النصر، وعندما قتلوك ملكوك مفتاح النصر وانتصرت.

النداء الأخير

رفاقي الأحبة … رفاقي الجبهويون … رفاق الخواجا وغسان وقافلة الشهداء، اليوم في هذه اللحظة التي شرع فيها العدو في تنفيذ مخطط الاغتيال الذي سمعتم به، أقول لكم اليوم فقط شعرت أني قوي وأحمل قسمات وسمات مناضل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على الرغم من أنني حملت بطاقة العضوية منذ سنوات ولكن صدقوني فقد بقيت بيني وبين نفسي أعتبر نفسي مرشحاً وعضواً مع وقف التنفيذ رغم مروري برحلة التحدي القاسية وصمودي الذي جسدت فيه واجبي نحو رفاقي وجبهتي وشعبي لتبقى صورة المناضل الفذ مميزة. ومن يرتبط بتنظيمها الطليعي يحمل الوجه الحقيقي الذي اقتربت من تجسيد صورة عضو الجبهة حكماً أراه وحتى لا تعتقدون أنني أكابر أو أبالغ فيما أقول سأشرح لكم أسباب الشعور وسأكون علمياً ما أمكن:

لقد درست العلم الثوري وتعلمت أن التناقض بيننا وبين الأعداء تناقضاً تناحرياً لا يمكن حله سوى بانتهاء أحد النقيضين، كما تعلمت أن كلا من النقيضين سيعمل جاهداً من اجل تصفية الآخر وإنهائه. وتأسيساً على هذا المنطق العلمي فطالما لم يعمل العدو على تصفيتي فهذا يعني أنني لا أمثل بعد جزءاً طبيعياً من نقيضه الرئيسي ولأن الجبهة تشكل جوهر نقيض العدو الرئيسي وحربتها المشهورة في وجهه وكما عبر أكثر من مرة على لسان قادته وجنرالاته ومخابراته فهذا يعني أنني لم أمثل بعد سوى العضوية في هذا الجوهر، لكن عندما اقتحموا زنزانتي والغضب يتطاير من عيونهم والحقد تعكسه أيديهم المرتجفة وتقطيبات جباههم وصرير أسنانهم، كنت يا رفاق كمن ينتظر الرد من قيادة المنظمة، الرد الذي يحتوي قراراً بقبول عضويتي، وحتى أسترح بمزيد من البساطة أقول لكم أن العضو الطليعي يجب أن يكون طليعياً بوعيه العميق لبرامج الجبهة وترجمتها عبر الممارسة، يجب أن يكون صلباً صلابة العامل الذي يدرك أنه لن يتحرر من القيود والعبودية سوى بالنضال العنيد، صلباً بقناعته المبدأية ورسوخ مبادئ الجبهة والنضال لتشكيل زاد حياته وصلباً في الدفاع وصولاً إلى عدم التفكير بحياته خلال معركة الدفاع.

متواضعاً بسيطاً مندمجاً بين الشعب الذي تسعى الجبهة لقيادته، وذلك بعيداً عن الكسل والخمول والتراخي ومنطقياً يناضل بروح قرار الجبهة ويكرس علميته لتحقيق برامجها: يحب رفاقه ويعشقهم ويبذل روحه من أجل حمايتهم، يعمل دون أن يكثر من الكلام ويعتز بانتمائه للجبهة وهو يواجه الأعداء في الأماكن المحصورة التي تضع ضمن نطاق سيطرتهم الكاملة.

هذه السمات مجتمعة لا يمكن في تلاحمه سوى صورة العضو الحقيقي الذي يجسد الخطر الذي يخشاه الأعداء، ولهذا سيعملون على قتله دون تردد، هذه صورة العضو كما أراها، وكما يجب أن تكون وهذا ما يفسر شعوري بل وقناعتي الداخلية.

رفاقي الأعزاء … أحبائي الآن سأصف لكم كيف بدا لي الأعداء وهم ينفذون مؤامرة القتل، لقد رأيتهم أقزاماً وكنت عملاقاً وكانوا يصرخون ويتصايحون ترتجف أعصابهم وكنت ثابت ومستقر هادئ مبتسم وكانت عيونهم مترقبة ووجلة تخشى النظر والتحديق في وجهي وكانت عيناي ثابتتان تنظران بحدة وتركز لاكتشاف كافة مواطن الضعف والجبن التي اتسم بها القتلة، وهم يمتلكون كافة أسلحة القتل المتطورة، كانت وجوههم قبيحة وعندما حاولوا مساومتي شعرت بالحاجة للتقيؤ شعرت بالاشمئزاز، رأيت وجه شيلوك ووجه تاجر البندقية المقيت لكني شعرت أيضاً أنهم لا يزالون أغبياء لا يفرقون بين الصلابة والمبدئية وبين بخل التاجر ولهذا ضحكت وبقيت أضحك صدقوني رفاقي بأنني لم أسقط، سقطوا من فرط بؤسهم وقد أنهكهم التعب وبقيت مرتفعا أعلو وأعلو وهم يهبطون حتى التصقوا بالأرض تحت أقدامي تماماً ولهذا فإنني فخور بأنني أصبحت عضوا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقد تسألوني رفاقي بما أوصي؟؟

كونوا جبهويون في كل شيء ومجرم من سيحاول الغدر بالجبهة بقصد أو بدون قصد ومجرم من يفرط بأسرار الحزب ومجرم من يركع أمام الأعداء ومجرم من لا تظل قامته عمودية منتصبة ومجرم من يمشي إلى الخلف ويتطلع إلى الوراء صوبوا أنظاركم نحو العدو وتقدموا وتقدموا فالنصر لنا.

صوبوا أنظاركم نحو العدو

تقدموا وتقدموا فالنصر لنا

رفيقكم إبراهيم محمود زيد الراعي

عضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

كلمات حفرها الشهيد على جدران زنزانته

كيف أخسر إيماني بعدل الحياة وأنا أعرف أن أحلام الذين ينامون على الريش ليست أجمل من أحلام الذين ينامون على الأرض.

عندما يأتي الغد يصبح الأمس قد انطوى وتبقى ذكراه خالدة ترددها الأجيال كأغنية محفورة في ذاكرة التاريخ صنعناها نحن من تعذب وتشرد وتمرد ولحن الفخر والاعتزاز والأمل العظيم بالأمل المشرق.

إن الحياة لا قيمة لها إن لم تكن واقفاً قبالة الموت.

إن كتف الرجل لم تخلق إلا ليعلق عليها حزام البندقية.

لقلاع شهدائنا في لحن هذا الوطن المتخم بالنزيف دائماً يوجد في الأرض متسع لشهيد آخر.

إما عظماء فوق الأرض وإما عظاماً في جوفها.