بقلم الأسير المحرر اللبناني: نبيه عواضة

أبو ميلاد فاز بحرّيته مرتين

أبو ميلاد.png

مركز حنظلة_بيروت

ما إن ينتهي السجّان من تعداد الأسرى في غرفة 26 في قسم 8 في معتقل عسقلان حتى يتجه وليد صوب الباب. ينتظر اكتمال "السفيرا" (العدد) ومن ثم يقرع على الجزء السفلي الحديدي من الباب، طالباً الخروج إلى الباحة لممارسة الرياضة الصباحية. يأتي السجّان غاضباً، منزعجاً، ينهال عليه وليد بلغة عبرية يتقنها بشكل ممتاز، بالكاد يفهم عليه الجلاد القادم حديثاً إلى السجن والبلاد. ينزل إلى الساحة مهرولاً، يتصدّر طابور الرياضة الصباحية جرياً سريعاً كعادته.

ومن ثم يستريح قبل أن ينتهي نصف الساعة المخصص للركض. يلف عنقه بمنشفة صغيرة ويتأبط أحد الأسرى ويتابع النصف الثاني من الوقت محدثاً. تلك كانت انعطافة في الحياة الاعتقالية لوليد. فقد قرّر بين ليلة وضحاها أن يصير رياضياً. شيء ما حصل لوليد جعله يرمي جانباً كراسات عبرية وصلت إليه من الجامعة العبرية المفتوحة كي يتابع تحصيله العلمي عن طريق المراسلة.

يومها، لم يكن قد نال بعد شهادة الماستر في العلوم السياسية، ولم يكن قد تفرّغ لإغناء أدب السجون بـ"حكاية سر الزيت"، و"حكاية سر السيف".

في الزيارة الأخيرة قبل الطفرة تلك، عاد وليد أسيراً بحلة جديدة. زي السجن البني وعليه الأحرف الثلاثة التي تختصر كلمة إدارة مصلحة السجون "شباص". بدت كأنها أزيلت عن الجانب الأيمن من قميصه. شعره القصير جداً الذي لم يكن يطيق أن يكبر سنتيمتراً واحداً، صار كما لو أن الهواء يداعبه.

في حين أن لا هواء يصل إلى باحة السجن وقد ارتفعت حولها كتل إسمنتية ضخمة هي أقسام الزنازين، ولا شعر وليد صار طويلاً.

باحت له بسرّها. قالت له سناء (سلامة) إنها تحبّه. لم تهده وردة، لم تضعها على الشبك الحديدي الذي يفصل بين الأسرى وذويهم في غرفة زيارة الأهل. بالأساس، غير مسموح أن تدخل سناء، أو أي شخص آخر، للقاء الأسرى ومعها وردة.

الأسرى الذين كانوا معه على الزيارة لم يلاحظوا شيئاً، ربما السجان الذي كان يقف وراءه منصتاً متجسّساً متطفّلاً استطاع التقاط الكلمة. هو بالتأكيد لن يكتشف تلك النظرات التي تحملها الفتاة التي عاشت في الطيرة في منطقة المثلث الفلسطيني وتنحدر من عائلتها من مدينة اللد، وقد منحت وليد حرّيةً من نوع آخر.

العطر الوحيد المسموح إدخاله إلى السجن، والذي يقتصد الأسرى في استخدامه ومخصّص فقط للقاء الأهل، صار ملازماً لوليد على الرغم من أنه كان يشكو دائماً من حساسية جلدية منه.

عندما أصبح يقود النقاشات مع الأسرى، يأخذ وقته في الإقناع، كان يحرص أن يزرع بذرة التفكير والتشكيك في عقل محاوره لأنه كان يقول إن السجن "أكثر من واحة للتأمل"، إنه "مشروع حياة".

ولأنها كذلك، فيجب أن نعيشها كبشر، كآدميين، وبذلك نتغلّب على مشروع الجلاد لجعلنا أرقاماً داخل الأكياس الحجرية الرطبة، فارغين من المحتوى الوطني والنضالي والإنساني. هذا الإدراك هو ما دفع وليد لتبوّؤ عمادة الفكر في الحركة الأسيرة، على الرغم من تنديده أكثر من مرة بتوزيع الرتب على الأسرى، فبالنسبة إليه "نحن كلنا جنود لأجل فلسطين".

معمودية الحب التي خاضها مع سناء، كترجمة لحقه الإنساني الوجودي، أثمرت "ميلاد": نطفة محررة من السجن جعلته بالكامل حرّاً. تحققت لديه بدون الحاجة إلى انتظار مذياع السجن ينادي عليه للإفراج قائلاً: "وليد نمر أسعد دقة، كل أغراضك والتوجه فوراً إلى غرفة الانتظار".

الخصم الأكثر شراسة في محاجّة ضباط أجهزة الأمن والاستخبارات الذين تعاقبوا على مهامهم، صارت مسؤوليته تجاه رفاقه "الغرر" أكثر اتصالاً بالأهداف التي يتطلعون لتحقيقها. "الرفاهية" الاعتقالية عند وليد يجب أن يحصل عليها الأسرى وأن ينتزعوها من فم الجلاد، هي بالنسبة إليه تضاهي تطبيق الاتفاقية الرابعة لجنيف بالفقرة التي تنطبق معاييرها على اعتبار أسرى فلسطين هم "أسرى حرب" ومطلب التعامل معهم على هذا الأساس، وهو مطلب يضعه وليد على رأس المطالب التي ينادي بها الأسرى. فـ"الرفاهية" هنا قناعة أكثر منها تسجيل موقف على إدارة السجن، فلا ضرر في إطالة مدة الإضراب يوماً إضافياً، بعد أسبوعين من الجوع والوجع والأمراض، من أجل استبدال "قطعة اللحمة الحمراء بقطعة لحم بيضاء" على الرغم من أن الأولى أكثر فائدة أمّا الثانية فهي أكبر حجماً.

لاحقاً، كبرت بقعة الزيت التي صاغها وليد على شكل حكاية. كبرت وكبرت معها ميلاد. تفرّق طابور الأسرى؛ منهم من صار تحت التراب له اسمه وتاريخ ميلاده وتاريخ استشهاده، ومنهم من لا يزال يهرول حول نخلة شهيرة تتوسط باحة السجن. عاد وليد يطرق باب الزنزانة، يطرقها بعنف هذا العشق الفلسطيني الساحر. وحتى لو لم يتمكّن من الركض فقد سبق الجميع في الجريان.