بقلم الأسير: قسام البرغوثي

مقال بعنوان: قبل الحرف الأخير

الأسير قسام البرغوثي.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

1/ 6
نسمات أيلول التي أنعشتها، ربما ذاتها كانت كابوسًا لورقة شجرة تحاول التشبث والبقاء دون أن تسقط مع أول رياح الخريف.

قالت في نفسها: الهروب يحولني لورقة تستجدي الريح، أنا التي كنت الشجرة، تلك الورقه المتشبثه طغت على مشهد الغروب الممتد بعيدًا.

راحت تشبه حال الورقة بموقف لا تدري كيف قفز من خبايا الذاكرة تذكرته حين كان يمسك بيدها ذات يوم، تخاف الا يعود إن ذهب. أخذت تتساءل بحزن:هل كانت الريح أقوى أم هي تركته ليسقط مثل ورقة أم.. أم.. يقطع تساؤلاتها صوت الطبيب يدعوها للدخول.

كم عذبتها تلك التساؤلات !كم كانت تمزقها!

كانت قد حسمت أمرها، تيقنت مما تريد تماما مثل سهم لا يخطئ هدفه، لم يخفَ على طبيب نفسي يفهم لغة الجسد ومن نظراتها وصمتها أنها ستبادر بالحديث.

احترم صمتها للحظة ثم أومأ لها بإشارة تنم عن استعداده للسماع وبالفعل بادرت:

أذكر حين جئت لهذا المكان أول مرة كيف كنت متعبًة لا أستطيع البدء مجددًا، فأردت أن تعينني على النسيان، وها قد مر ما يقارب العامين، لا أخفيك، بدأت من جديد وتغيرت اهتماماتي، تغير أصدقائي، بيئتي، عملي، مكاني، سكني، قراءاتي.

حتى الطرق التي كنت أمشيها، الأماكن التي أرتادها حتى الأغنية.. صمتت قليلًا، تناولت زجاجة الماء من حقيبتها شربت رشفة وأكملت: تغيرت، تغيرت لدرجة لم أعد فيها أنا.

كل ما كان من محاولات للنسيان، من أساليب، من مضادات للاكتئاب، كلها كانت سبل هروب من القوة للضعف من المواجهة للانكسار، من الحب إلى النسيان. وبالفعل هربت، لكنني بدأت أدرك الآن أن المرء لا يستطيع أن يهرب من ذاكرته ولا يستطيع أن يهرب من ذاته إلا لذات أقرب إلى المرء منها. وأنا لهذه

2/ 6

اللحظة لم أجد تلك الذات. باختصار أريد أن أعود، أن أعود ليلى، فقررت إلا تعود لطبيبها النفسي فكرت بالكتابة، فكرت أن تعود لتعيش أحداثًا كابدت لتنساها.

قررت أن تكتب قصة أشعرتها بالذنب، هي قصة شعرت فيها أنها قتلت أكثر من كانت تحب بأقل من كلمة.

*

خلال أيام العطلة التي تأتي بين الفصلين الدراسيين، كانت تتحرق للقائه، تشتاقه كما لم تشعر بالشوق يومًا لأحد تريد احتضانه، تقبيله، ومداعبة وجنتيه.

تلك الأيام القليلة التي غابتها عنه أحست أنها أطول أيام عمرها.لم تكن ليلة تتخيل أنها ستحب هذا المكان الذي شعرت بأنها نفيت إليه حيث نقلت اضطراريًا لمدرسة من مدارس الأغوار، ظنت أنها لن تستطيع العيش هناك، لكن حين رأته في يومها الأول ينظر إليها بغرابه من عينين عسليتين.

لم يغب عن عينيها طوال الوقت الذي قضته في التعرف على المكان وقبل أن تذهب الى مكان مبيتها سألته عن اسمه فأجابها: مطلق. احتضنته وقبلته، شعر بالخجل. فقالت له: أنا ليلى. وضحكت أول ضحكة لها في المكان.

أنهى مطلق فترته التمهيدية والتحق بالصف الأول، وقد أصبح من طلاب ليلى ذلك الطفل الذي كانت تنتظره ليكبر ويبقى أمام عينيها دائمًا ها هو الآن من طلابه، أصغر طلابها وأحبهم إلى قلبها، لم يكن عدد طلاب الصف الأول عددهم كبيرًا فلم يتجاوز العشرين.

لكن أعمارهم تتفاوت بسبب هدم المدرسة سابقًا من قبل الاحتلال تأخر عدد من الطلاب عامًا كاملًا دون دراسة، وكان مطلق أصغر هم عمرًا لكنه كان فطنًا وذكيًا، وكان يبادلها ذلك الحب فلا يطيق أن يفارقها حتى بعد انتهاء الدوام المدرسي.

فظل يرافقها في الطريق إلى أن تخرج والدته لتأخذه كان يتشبث بيدها وينظر إليها بعينين متوسلتين فظل يستجديها لتبقى. يخاف أن يفلت يدها يخاف ألا تعود إن ذهبت.

وبعد وقت من البكاء تعده بالعودة وتقسم له، وفي الصباح تأتي لأخذه معها إلى المدرسه أحبته كابن لها، أحبت جميع تلاميذها ولم

3/ 6

تكن تريد أن يشعروا بأنها تميزه عنهم. لكنها فور أن تراه لا تستطيع السيطره على مشاعرها.

*

راته ذات مره يخبئ شيئًا اقتربت منه لترى. فكان قد كسر ممحاة قلم الرصاص. لم يكسرها متعمدًا، فسألته: لماذا كسرتها ؟صدمت يومها من اجابته. لم يقل بالخطأ او سقط مني قال لها: لأني لا أريد محو شيء أكتبه، فإذا كتبت شيئًا فلماذا أكتبه إن كنت أريد محوه. وهي لا تزال تحت تأثير الدهشه من إجابته العميقه قال لها: أيضا ولا يحق لي أن أمحو شيئًا كتبه غيري. قالت في نفسها: كم سيكون صادقًا! كم سيكون وفيا! كم سيؤمن بما كتب! وكيف لن يقطع وعدًا لا يستطيع الوفاء به! وراحت تتخيله حين يكبر.

توشحت السهول والتلال الصغيرة بالربيع، ووضعت الزهور الملونه بالأحمر والأبيض والأصفر كآخر اللمسات على ذلك المشهد. كانت ستبدو لوحة فنية بامتياز لو لم تشق جنازير الدبابات الصهيونيه طرقًا بالوحل أضافت على المشهد الفني لطخةة بشرية قذرة، ستكون لوحة بديعة لو لم تسحق الجرافات العسكريه ذلك الكم الهائل من الزهور. يتدرب جيش الاحتلال بشكل دائم في مناطق الاغوار يخوض معاركه الوهمية ويحقق انتصاراته على الزهور.

تلك الانتصارات التي صارت شغله الشاغل بعد هزيمته في معارك الحقيقية الاخيرة. هزم في لبنان وجاء ليحقق انتصارًا على بيوت الصفيح في الأغوار. هزم في غزة وجاء لينتصر على بيوت الصفيح والماشية كان يخوض معارك مع الأرض، مع السهول والتلال، مع القريه التي تلفظه. وقد اعتاد أهل المنطقه هذه المعارك واعتادوا أيضا وجود وزراء وسياسيين يأتون لدعم أهل الأغوار لدقائق، أولئك السياسيين الذين لم يعد لديهم أي رصيد لدى شعبهم. فلم يتبق لهم إلا أن يتصوروا في حظائر الماشية التي ربما تعيد لهم بعض ما فقدوه من رصيد سياسي يعدون تقاريرهم ثم يعودون للأحياء الفخمه والقصور.

4/ 6

أطلت شمس الربيع بخجل فوق التلال الصغيره ناشره ضوءها على النباتات النديه التي أخذت تلمع بعيون من ذهب. وصل الطلاب إلى غرفة الصف كانت الغرفة باردة، ولم تكن أشعة الشمس بعد قادرة على انتزاع البرد من داخل الغرفة. كان المحرك الكهربائي الذي من المفترض أن يشغل المدفأة الكهربائية الصغيرة قد وقع أسيرا في آخر معركة للجيش أو لنقل كان غنيمة من غنائم الحرب ولم يات بعد الوزراء بمحرك ظل معلقًا على سلم أولوياتهم الذي يرتفع لدرجة لا يستطيع أحد من أهل هذه المنطقه الوصول إليه وإنزاله.

رأت ليلى طلابها ينكمشون من البرد فأشفقت عليهم. تمعنت في وجوههم وقالت لهم اتبعوني. وخرجت بهم أعادت الدفء إلى أجسادهم الصغيرة بعد أن تركتهم تحت خيوط الشمس الذهبية الدافئة الفرح الذي رسمه الدفء على وجوههم حفزها لكي تسعدهم مرة أخرى. أرادت أن تكسر رتابة الحصص، أرادت من البداية أن تحببهم بالبحث مرة أخرى أن يفكروا خارج صندوق الكتب المدرسية، فقالت لهم: أريد أن نلعب لعبة، اللعبة هي أن تجمع أشياء على حروف أسمائكم، مثلًا: طالب اسمه قيس أريد أن يحضر لي على حرف القاف قلمًا وعلى حرف الياء يرغول وعلى حرف السين سلة.

قال: مطلق، ما هو اليرغول؟ أجابته وأكملت: بشرط ألا تكرر الأشياء التي تحضرونها أي أن يختلف كل واحد بما يحضره عن الآخر. وقد أرادت أن تصعّب عليهم الأمر ليظلوا تحت الشمس وقتًا أطول. راحت تراقبهم ينتشرون مثل النحل، يبحثون عن أشياء تشبه في حروفها أسماءهم. مر بعض الوقت. أول الواصلين كان صاحب الاسم الثلاثي حمد، فوضع حجرا ومسطرة ودفترًا، وبعد دقائق وضعت منى ممحاة ونعنعًا وإبرة وجاء طارق بأشيائه وحسن وسلمى وخالد وقسم، كلهم عادوا إلا مطلق فقد شعر أن الأمور سهلة وكان قريبا من بيته، رائحة خبز الطابون أشعرته بالجوع فطلب من والدته أن تعد له رغيفًا باللبنة.

بدأت أمه بالإعداد فرأى الملعقه أخذها بعد أن قضم لقمته الأولى، ملعقه على حرف الميم امتص اللبنة التي لونت شفته العليا بالأبيض فقال: لبنة على حرف اللام ومشى عائدًا تناول طينا خلفته جنازير الدبابات، بقي حرف القاف تذكر القلم،

5/ 6

فأخذ يركض نحو المعلمة وصل يلهث وضع اشياءه تناول قلما من حقيبته، قدم أشياءه للمعلمة، لكنه كان آخر من وصل وقد وجد أن أشياءه تكررت. فهناك من أحضر طينًا ولبنًا وقلمًا تاكد أنه بقي ثلاثة حروف. نظر لمعلمته نظرة استجداء لتعفيه من البحث مرة أخرى كي لا يبتعد عنها ويبقى حولها على غرار زملائه، لكنها أرادت ان تستفز ذكاءه فأمرته بالبحث مرة أخرى.

كان صوت طنين النحل الذي يتنقل بين الزهور يملأ المكان ود لو أنه يستطيع أخذ الطنين لكن كثيره هي الأشياء التي تسمعها وتحب صوتها ولا تستطيع أن تاخذها تذكر أن أخته الكبرى كانت تصنع له لعبة من القش فحاول أن يصنع لعبة على حرف اللام. فأخذ يصنع واحدة ولو أن قسم لم يحضر قشًا لكان قد أراحه من البحث عن حرف القاف انتهى من صنع لعبته ذهب إلى البيت شقيقه الصغير كان يبكي نظر الى الطابون تأمله، لو يستطيع حمله، اقترب شقيقه ليأخذ اللعبه فتذكر أن طفل طفله على حرف الطاء ناوله اللعبه ومضى به للمعلمه وصلها متعبا قال لها احضرت حرفين وبقي حرف واحد حرف القاف نادته ليعود، لأن الحصة الثانية ستبدأ فقال لديك طفل على حرف الطاء واللعبة على حرف اللام سأحضر حرف القاف سريعًا راحت تتمعن بلعبته وتراقبه إلى أن اختفى خلف تلة صغيرة.

تمسك بلعبته وتقول هذا الذكاء الذي كنت أريد أن أستفزه فيك تناول اللعبة للصغير فيضحك فتعود وتقول هذا الذكاء الذي يرسم البسمة على وجوه الناس شعر مطلق بالتعب، لم توفر له السهول شيئا في قاموسها يبدأ بحرف القاف ينظر للاشياء ويقول لو كان اسمي كذا لوجدته بسرعة تمنى لو ان هناك قارة بحجم اليد أو قرية صغيرة كلعبته يستطيع أن يحملها لمعلمته.

شعر بالإحباط والتعب، اقترب من شجره صغيره فوجد بجانبها شيئا يراه لأول مرة، لم يكن الشيء كبيرًا، كان بحجم رأسه حاول ان يعرف ما هو فلم يستطع ففكر بأخذه للمعلمه فربما يبدأ هذا الشيء بحرف القاف مد يديه نحو ذلك الجسم وفجأة دوى صوت انفجار هائل خلف التلة. ركضت ليلى نحو مصدر الصوت، وهي تنادي عليه، تبكي وهي ترى سحابة الدخان تعلو من خلف التلة. كان

6 / 6

ذلك الجسم قنبلة خلفها جيش الاحتلال. كانت تبدأ بحرف القاف مزقته، حولت جسده الصغير لاشلاء تناثرت ملء السهل بكل الحروف الابجديه

*

انتهت ليلى من كتابة القصة كان الحبر يتفشى على أوراقها بفعل الدموع وعادت مجددًا لتساؤلها أكانت الريح أقوى أم أنا تركته ليسقط كورقة؟ أم أنا تركته ليسقط قبل ان يبلغ حروف اسمه الأربعة ؟

14 ايلول 2023

 

عن الكاتب: بقلم الأسير قسام عبد الكريم شلبي البرغوثي (29 عامًا) من قرية كوبر في رام الله اعتقل بعد محاصرة ومداهمة منزل عائلته في كوبر، بتاريخ 26/8/2019 بتهمة الانتماء للخلية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي نفذت عملية "عين بوبين" البطولية غرب رام الله، والتي وقعت في تاريخ 23/8/2019، أسفرت في حينها عن مقتل مستوطِنة بتفجير عبوّة ناسفة، وإصابة والدها وشقيقها.