بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

مقال بعنوان: نطاح الكباش في دولة الأوباش (الحلقة الثانية)

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحقلة الثانية: حلبة النطاح السياسي

لم يَدُر في خلد تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية وزعيمها أنه سيكون لدولته المنشودة عمرٌ افتراضي، إذ كان يتصور أن الاستعمار الأوروبي في العالم سيدوم إلى الأبد.

فقد ركز هرتسل على الفكرة، ولم يعبأ بالتفاصيل، وكان جُلّ همه منصبًا على إخراج فكرة الدولة إلى الحيز الواقعي، على أن تكون هذه الدولة مستعمرة أوروبية أو تابعة للتشكيل الاستعماري الحضاري الغربي.

وبهذا المعنى كان هرتزل رجلًا استراتيجيًا حاذقًا في تصوراته العامة لهذه الدولة، مفسحًا المجال لخلفائه، وتلامذته ليكملوا عملية تجسيد هذه الدولة.

كان بن غوريون هو الرجل الأكثر حذاقة ومهارة من بين القادة الصهاينة، ويُعد هو المهندس والبَنّاء للدولة ومؤسساتها وطريقة الحكم فيها، والقواعد والمعايير التي يجب أن تحكم الدولة.

فمنذ هجرته إلى فلسطين في بدايات القرن العشرين، كان نشاطه الحزبي والنقابي والسياسي مُكرسًا لهدف بناء الدولة وتجسيدها، وتمكن من اكتساب خبرة طويلة في إدارة التفاصيل والسيطرة عليها، وفهم ما يجري على الأرض، وأدرك قبل غيره، أن تجسيد الدولة بأيدي العناصر اليهودية المتنافرة لن يكون سهلًا في ظل وجود فلسطيني معادٍ للمشروع الصهيوني، علاوةً على المحيط العربي الذي لن يسمح بوجود مثل هذه الدولة. كما أدرك عقم الأفكار الصهيونية المجردة والمتخيلة كالشعب اليهودي والقومية اليهودية.

إذ أنه واجه تحدي الخلافات العميقة بين المهاجرين اليهود القادمين من مختلف بقاع العالم.

كان ين غوريون يدرك حجم المهمة التاريخية، والأعباء التي ينبغي حملها. وربما راوده هاجس، وهو مزمع على بناء الدولة، أنها ستكون آيلة للسقوط، بحكم التناقضات الكامنة والظاهرة بين المستوطنين ما لم تبنى على أسسٍ وقواعد تمُكنّها من الصمود لسنواتٍ طويلة.وذلك في ضوء الصراع الذي كان قائمًا في ذلك الحين بين مختلف الأحزاب الصهيونية بتشكيلاتها: العمالية، واليمينية، والدينية، ولاحقًا صراع الميلشيات الصهيونية المسلحة التي تتنافس على الهيمنة على مجتمع المستوطنين المتشكل، فهذه التناقضات ستمثل جذورًا للصراع المستقبلي الذي قد ينفجر بأية لحظة، ما لم تحدد الضوابط والمعايير والتقاليد والسياسات والكوابح التي ستضبط إيقاع الحياة السياسية والاجتماعية.

لذا لم يسعى بن غوريون لاسترضاء الأحزاب والقوى والاتفاق معها على شكل بناء الدولة، وإنما قام وحده مع حفنة من المقربين بالتخطيط لهذه الدولة، لتكون أكبر من أي حزب أو معسكر، فكانت فكرة الجيش وطريقة بنائه والأجهزة الأمنية، والقضاء، والكنيست، والحكومة، وقوانين الأساس والتقاليد الحكومية والسياسية وشكل إدارة الدولة والمجتمع والاقتصاد، ومركزية الأمن في حياة الدولة.

هي أبرز ما رسخّه بن غوريون في مرحلة التأسيس، حتى غدت مؤسسات الدولة القائمة أصلًا قبل الإعلان عنها، أعمق وأقوى وأكثر فعالية من أي حزبٍ أو معسكر، أو حتى من أية تجمعات اثنية أو عرقية.

وطوال أكثر من (75 عامًا) كانت مؤسسات الدولة العبرية هي الأكثر قوة، ولم يُسمح بتسييسها، وظلت تزاول مهامها وأنشطتها بعيدًا عن التجاذبات والصراعات السياسية، وتطورت هذه المؤسسات مع الوقت حتى غدت مؤسسات حديثة غير مرتبطة بشخص أو حزب أو معسكر أو حكومة.

أما الحلبة السياسية فقد كانت ميدانًا لصراعات القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والاثنية، وهذه القوى كانت تتنافس لتشكيل الحكومة التي ستدير الدولة القوية.

وهذه الأحزاب والقوى صُممت لتنشأ وتقوى وتضعف وتتلاشى وينشأ مكانها قوىً وأحزاباً أخرى، أما الدولة فستظل باقية، ولن يرتبط وجودها بشخص أو حزب.

لقد كانت هذه الحلبة تاريخيًا تعج بالتناقضات والصراعات، وساهمت الحياة الحزبية بتعدديتها، بإضفاء شكل من الحيوية على العملية السياسية وإبقاء المجتمع في حالة حراك دائمة.

وتطور شكل من أشكال "الديمقراطية" تسمح بتعددية حزبية، وبفصل السلطات واستقلال القضاء وحرية الصحافة والرأي والتعبير، وحماية الحقوق المدنية والسياسية، والتداول السلمي للسلطة ودورية الانتخابات غير أنها ديمقراطية يعتريها عيوبٍ قاتلة.

فهي ديمقراطية تسمح باحتلال أرض الغير بالقوة، واستعباد شعب آخر، وانتهاك حقوقه الأساسية، وممارسة التمييز العنصري بحق السكان الأصليين (الفلسطينيين)، وبحق بعض فئات المجتمع اليهودي الصهيوني (الشرقيين، الاثيوبيين).

وقد أسماها البعض (ديمقراطية القبيلة) أو "الاثنوقراطية" أو "الديمقراطية الكولنيالية".

ومن الملاحظ أن المجتمع الصهيوني، يعُد مجتمعًا حيويًا ومسيسًا، ويكاد هذا المجتمع بأحزابه وقواه السياسية وفعالياته البرلمانية والإعلامية، يتفوق على كثير من المجتمعات، وما الأحداث التي تشهدها "اسرائيل" منذ قرابة العام، إلا دليل على حيوية هذا المجتمع، وتشبعه بالسياسة وفعالياتها.

كانت الحلبة السياسية "الإسرائيلية" حافلة بالصراعات والنطاحات الحزبية السياسية.

فمنذ الإعلان عن دولة "إسرائيل" نشب صراع حاد بين بن غوريون الذي أصبح مع ثلة من الصهاينة المستوطنين الحكام الفعليين للدولة الوليدة، وبين قادة الحركة الصهيونية الذين جرى تهميشهم وتحجيم أدوارهم، حيث صمم منصب رئيس الدولة الشكلي، على مقاس زعيم الحركة الصهيونية في ذلك الحين "حاييم وايزمان" في إشارة إلى هامشية الحركة الصهيونية بعد تجسيد الدولة، واستمر الصراع فيما بعد بين بن غوريون وبين (ناحوم غولدمان) زعيم الحركة الصهيونية، وجرى ترسيم حدود الفعل السياسي للحركة الصهيونية، واقتصارها على مهمة جمع التبرعات للدولة الوليدة وتنظيم الهجرات إليها. 

وتاريخيًا مثلت الصراعات بين ما يُسمى "أحزاب اليسار" التي كان يقودها حزب الماباي (ولاحقًا حزب العمل) وبين أحزاب وقوى اليمين التي كان يقودها حزب حيروت (ولاحقًا حزب الليكود) والشكل السائد في الصراع السياسي، جرى التعبير عنها بثنائية ا ليسار - اليمين، وشكلت عناوين مثل هوية الدولة وإدارتها والأمن والعلاقات الخارجية والاقتصاد والتناقضات الاثنية، كذخائر في الاشتباكات السياسية، غير أن النطاحات التي كانت محتدمة في أروقة حزب ماباي الحاكم، كانت أشد ضراوة فيها مع الخصوم من خارج الحزب، حيث أدت هذه الخلافات إلى اعتزال بن غوريون عام 1963، واستقالة غولدا مائير من الحكومة عام 1974، ونشوب تناقض طويل بين اسحق رابين وبين شمعون بيرس استمر منذ أواسط السبعينيات، وحتى اغتيال رابين عام 1995.

واستمرت هذه الحالة من النطاحات حتى العام 1977 وهو عام فوز حزب الليكود برئاسة الحكومة لأول مرة منذ العام 1948.

لكن أبرز ما ميز التناقضات السياسية في تلك المرحلة أنها كانت تتسم بالحرص والمسؤولية على الدولة واللياقة السياسية، وخلوها من الشتائم والشخصنة والاتهامات بالفساد، وكان قادة تلك المرحلة يتميزون بالتقشف والمسؤولية والاستقامة الشخصية والنزاهة الأخلاقية والسياسية والإدارية والمالية.

ومنذ صعود حزب الليكود بزعامة مناحيم بيغين إلى السلطة سنة 1977 بدأت مرحلة جديدة في "إسرائيل"، حيث شرعت الحكومة الجديدة بسلسلة من السياسات والاجراءات، أسست بعد سنوات قليلة لإحداث تَحوّلات جذرية في بنية الدولة والاقتصاد والعلاقات الخارجية. فمن ناحية الاستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967 أصبح سياسة حكومية رسمية، بعد أن كانت ترعاه مجموعات استيطانية مسيحانية.

أما مفهوم "السلام والتسوية مع العرب" فقد بات يحتل حيزًا مهمًا في الأجندة السياسية والإعلامية "الإسرائيلية" بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد مع مصر.

ومن ناحية عسكرية وأمنية تطورت "إسرائيل" كثيرًا على هذا الصعيد، ونجحت في القضاء على الوجود العسكري الفدائي في لبنان، واحتلال أجزاء من جنوب لبنان. ومن ناحية الاقتصاد فقد أخذت "إسرائيل" تنتهج منهج الليبرالية الاقتصادية، والتحلل التدريجي من أسلوب الإنتاج القائم على القطاع العام.

وأخذت تتراجع أهمية الكيبوتس والموشاف لصالح قطاع الخدمات والصناعات التكنولوجية ذات التقنية العالية، وبقيت ثنائية اليمين واليسار تتحكم بقواعد اللعبة السياسية على الأقل في العقدين المقبلين، وتصاعد الجدل أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وما أحدثته من أصداءٍ عالمية، وداخل المجتمع "الإسرائيلي" على نحوٍ خاص، وأدت إلى بروز دعوات علنية للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وإجراء مفاوضات معها تقود إلى عملية سلام مع الفلسطينيين، ولم تفلح حكومات الوحدة الوطنية التي كان يقودها في تلك الحقبة الثلاثي: اسحق شامير واسحق رابين وشمعون بيرس، في قمع الانتفاضة، إلى أن أفضى الجدل والصراع السياسي إلى فوز حزب العمل بالسلطة عام 1992، وتولي اسحق رابين رئاسة الحكومة، ولم يطل الوقت حتى جرى توقيع اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين، واتفاقية وادي عربة مع الأردن عامي 1993 -1994 على التوالي.

وتعد مرحلة أوسلو احدى المراحل المفصلية في تاريخ الدولة العبرية، حيث ادت إلى انقسامٍ عمودي حاد داخل المجتمع، فمنذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو ارتفعت حدة التناقضات في المجتمع وداخل الحلبة السياسية، واتُهم رابين بالخيانة، وأدت حدة الجدل السياسي إلى اغتيال رابين عام 1995. وبهذا دخلت "إسرائيل" في مرحلة من أخطر المراحل، وانبأت بإمكانية انفجار التناقضات الكبرى المؤجلة، والتي قد تؤدي إلى نشوب حربٍ أهلية.

وقد أدى فوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات عام 1996 وتشكيله للحكومة إلى تفاقم الأزمة السياسية، بسبب سياساته الهادفة إلى تعطيل التسوية، واحتدم التناقض والخلاف بين مكونات الحكومة، وبضغوطٍ خارجية، أدى إلى تبكير موعد الانتخابات والدعم العلني ليهود باراك في انتخابات عام 1999 بيد أن تولي باراك لم يحدث تَحوّلًا جذريًا في السياسة، وتصاعد الجدل السياسي في ضوء الإخفاق في كامب ديفيد الثانية مع الفلسطينيين.

ولم تطل ولاية باراك لأكثر من عام ونصف العام، حيث اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، مما مهد الطريق لعودة اليمين للسلطة بزعامة ارئيل شارون، وانهماك الحلبة السياسية بموضوع الأمن والتسوية، وما أحدثته الانتفاضة من تصدعاتٍ في المجتمع، وتأثيرها على الاقتصاد والأمن والعلاقة مع الفلسطينيين.

بيد أن ما ميز تلك الحقبة، هو انقسام المجتمع والأحزاب السياسية بشأن خطة الانسحاب من غزة، واتهم شارون بالخيانة، وأدت إلى تصدع حزب الليكود الحاكم، مما حذا بشارون للانسحاب من الحزب وتأسيس حزب كاديما بتشكيلة من القادة من أوساط يمينية ويسارية ووسطية، في إشارة إلى نية الحزب إحداث تَحوّل في السياسة، لا سيما في موضوع التسوية.

وقد قاد الحزب الجديد، ايهود اولمرت، في انتخابات العام 2006، وتمكن من تشكيل الحكومة، لكن الحكومة أخفقت في معالجة فوز حماس بالسلطة عام 2006، وكذلك في الحرب على لبنان عام 2006، مما فاقم من أزمتها، علاوةً على اتهام أولمرت بملفات فساد أدت إلى الإطاحة به، مما هيأ عودة اليمين إلى الحكم بقيادة بنيامين نتنياهو.

أحدثت عودة نتنياهو للسلطة عام 2009 تحولًا مهمًا في الحياة السياسية في "اسرائيل"، فقد أظهر نتنياهو تشبثًا مرضيًا السلطة، ومحاولته الهيمنة على مؤسسات الدولة، واحداث تَحوّل جذري في بنيتها، مما زاد من حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي. وقد أدت سياساته الاقتصادية الليبرالية إلى إحداث توترات اجتماعية وطبقية.

ونجح في تجميد عملية التسوية وإزاحتها عن الأجندة السياسية اليومية. كما وأدت عملية فوزه في الانتخابات المتتالية أعوام (2009 -2013 - 2015) ونجاحه في تشكيل الحكومات، إلى جانب براعته السياسية وحنكته في إدارة الدولة، إلى تعزيز هيمنته المطلقة على حزب الليكود، ومعسكر اليمين.

غير أن تورطه بعددٍ من ملفات الفساد، وإصراره على الإفلات من المحاكمة وتحدي مؤسسات الدولة قادت إلى سلسلة من الاحتجاجات والتوترات السياسية، وإصرار حزب المعارضة، وكذلك أحزابًا يمينية كحزب "إسرائيل بيتنا" الذي يرأسه ليبرلمان، على إزاحته عن السلطة، وأدت حدة الجدل السياسي إلى انقسامٍ عمودي داخل المجتمع، بين المعسكر اليميني المؤيد لنتنياهو وبين المعسكر المناوئ له.

ومنذ نيسان عام 2019، تشهد "إسرائيل" أزمة سياسية غير مسبوقة في تاريخها، حيث ادى إخفاق نتنياهو بتشكيل حكومته الخامسة، إلى تنظيم سلسلة من الانتخابات في غضون ثلاث سنوات، وعكست هذه الأزمة إشكالية الأزمات الكامنة في الدولة الصهيونية.

فمنذ ذلك العام تطورت المبارزات والمناكفات السياسية، وتَحوّلت إلى ما يشبه النطاح بين الكباش، ووصلت إلى حد التشائم، وتبادل الاتهامات بطريقة مبتذلة لم تألفها الحلبة السياسية في "إسرائيل"، وانحدارها إلى مستوياتٍ هابطة.

لكن أغرب ما في هذه الأزمة القائمة منذ أربعة سنوات، والذي نجم عنها تنظيم خمسة انتخابات، هو التكتلات التي كانت تنشأ وتزول كحزب أزرق أبيض بقيادة ثلاثة جنرالات إلى جانب يائير لبيد، وكذلك تكتلات الصهيونية الدينية التي تناوب عليها بينيت وشاكيد وسموتريتش، وتميزت أيضًا بالانزياحات السياسية بين كلا المعسكرين، وتبدلات قادة الأحزاب في كل عملية انتخابية وهبوط وصعود الأحزاب، واختفاء بعضها كما جرى مع حزب ميرتس، وانفراط عقد التحالفات كحزب أزرق أبيض، وكذلك القائمة العربية المشتركة، ثم فقدان نتنياهو لرئاسة الحكومة لصالح بينيت ولبيد، وبعد عام جرى تنظيم انتخابات خامسة، وعودة نتنياهو للسلطة، لتصل حدة النطاح بين الكباش ذروتها بالإعلان عن خطة الإصلاح القضائي.

وتمثل خطة الإصلاح القضائي التي أسمتها الحكومة بالثورة القضائية الفتيل الذي فجر الأزمة الكامنة منذ عقود، والتي تتخلص بأزمة الهوية. وأظهرت هذه الخطة عزم اليمين على الهيمنة على مؤسسات الدولة، وإضعاف سلطة القضاء، وتغيير عددٍ من قوانين الأساس، بغية التحكم بمقاليد الحكم لسنواتٍ طويلةٍ قادمة.

غير أن المعارضة والقوى الاجتماعية والمدنية والسياسية، لم تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا التَحوّل الخطيرة حيث يجري عملية تنظيم تظاهرات أسبوعية حاشدة، كان من شأنها أن تلجم ولو قليلًا اندفاعة اليمين، لكنها أظهرت في ذات الوقت إمكانية الانتقال من مربع الصراع السياسي داخل الحلبة السياسية إلى مربع اندلاع العنف واستخدام السلاح بين مكونات المجتمع الصهيوني المتنافرة.

ومع أن الحياة السياسية في "إسرائيل"، تتسم بالحيوية والنشاط منذ قيام الدولة، غير أن السنوات الأربع الأخيرة كشفت عن عمق التناقضات في المجتمع الصهيوني، تداخل فيها الشخصي والحزبي والديني والقومي والاثني والطبقي والسياسي والأيديولوجي، حيث امتدت هذه الأزمة إلى مؤسسات الدولة وخاصة الجيش.

لقد أظهرت الأزمة المتفاقمة منذ أكثر من أربع سنوات هشاشة الدولة من جانب، وقوة المجتمع من جانبٍ آخر.فقد بدت مؤسسات الدولة عاجزة وفزعة أمام تغول قوى اليمين العامة على إحداث التَحوّل، وأنذرت حدة الصراع عن امكانية تفكك المنظومة السياسية في "اسرائيل"، وعن ضعف المناعة الوطنية، وإن من شأن هذه الأزمة أن تغري أعداء "إسرائيل" بمهاجمتها والانقضاض عليها، فكشفت عن الرعب الكامن في الدولة لكنها في المقابل كشفت عن قوة الشارع وتأثيره وحيويته، وعززه على مواجهة خطة الائتلاف الحكومي.

ومن ناحية ثالثة كشفت هذه الأزمة عن صلف اليمين الصهيوني، وإصراره على المضي قدمًا في تطبيق خطته الإصلاحية مهما كان الثمن، ولم يذعن قادة الأحزاب المشكلة للائتلاف أمام غضب الشارع المتفجر، ولا أمام تحذيرات الجيش والأذرع الأمنية الأخرى، كما أنها لم ترضخ لضغوطات وتحذيرات الحلفاء الأمريكيين والأوروبيين.

وهو ما يدلل على أن "اسرائيل" قد دخلت مرحلة جديدة بالفعل، وهذه المرحلة تنطوي على مخاطر وجودية، كما أسماها العديد من القادة فقد حذر قادة وجنرالات وساسة ورجال فكر وقانون واقتصاد من امكانية نشوب حرب أهلية في "اسرائيل"، قد تؤدي إلى تدمير الدولة من الداخل، مما سيغري أعدائها بالانقضاض عليها، وتوجيه ضربات قاصمة للدولة العبرية.

ورغم المحاولات الحثيثة للوصول إلى تسوية بين مختلف الأطراف، التي قد تفضي إلى إيجاد حل ما للأزمة. غير أن الشرخ السياسي والاجتماعي الذي كشفت عنه الأزمة، يُعتبر شرطًا كبيرًا لا يمكن جسره بسهولة، ومن المؤكد أننا إزاء مجتمعين لا مجتمع واحد، أو بلغة الصهاينة: شعبين وليس شعب واحد، وهو ما يعني أن أزمة الهوية التي تشهدها الدولة العبرية منذ قيامها، لا يمكن تفكيكها بتسوية سياسية بين الأحزاب، ولا بتوليفات حكومية غير مستقرة ولا متآلفة، وستظل هذه الأزمة (أزمة الهوية) ملازمة للدولة، ولن تجد لها حسمًا على الإطلاق.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش