بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

مقال بعنوان: نطاح الكباش في دولة الأوباش (الحلقة الأولى)

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحقلة الأولى: النطاح - الكباش - الأوباش

قد يعترضُ البعض على استخدامنا مثل هذه التعابير (النطاح والكباش والأوباش) عنوانًا لسلسلةِ هذه الحلقات التي تعالجُ ما يجري في الساحة السياسيّة "الإسرائيليّة"، من ناحية عدم ملاءمتها للّغة العلميّة التحليليّة، وأنّها قد تحملُ في طيّاتها قدرًا من الحدّة والتطرّف والتحيّز. لكن إصرارنا على استخدام مثل هذه التعبيرات ينبعُ أساسًا من الحالة التي وصلتْ إليها دولة الكيان الصهيوني، التي يمكننا أن نطلق عليها (مرحلة الانحطاط).

وتتّسم هذه المرحلةُ التي بدأت فعليًّا في عهد حكومة نتنياهو الرابعة (2015-2019) بعددٍ من السمات؛ أوّلها: دخول الدولة والمجتمع "الإسرائيلي" في حالةٍ غير مسبوقةٍ من الانحطاط القيمي والأخلاقي، وجد تعبيره بعددٍ من المظاهر؛ أبرزها الاعتداءات الجنسيّة المتفشّية، وتزايد معدلات العنف الأسري والمجتمعي، وتفشّي الجريمة بمعدلاتٍ لم تعرفها الدولة من قبل، وتزايد قوّة العصابات الإجراميّة المافويّة وتأثيرها، التي باتت تثير الرعب في المجتمع، وتهيمن على قطاعاتٍ اقتصاديّةٍ حيويّة.. وهو ما يشيرُ إلى ارتفاع حدّة التناقضات الاجتماعيّة الطبقيّة والإثنيّة والتهميش الاقتصادي، خاصّةً في المدن والبلدات العربيّة، ومدن المتدينين وأحيائهم ومدى التطوير، وامتدّت مثل هذه المظاهر الانحلاليّة إلى مختلف مؤسسات الدولة والجيش والشرطة. وثانيها: ازدهر الفساد الاجتماعي والحكومي والسياسي، الذي تُوّج باتّهام نتنياهو بثلاثةِ ملفّات فساد، وسلوكه وسلوك حزبه ومعسكره في تحدي الدولة ومؤسّساتها، وإعلانه براءته بصورةٍ فجّةٍ متّهمًا مؤسّسات الدولة بالفساد والتحيّز.

وبذلك دشّن نتنياهو عهدًا جديدًا بشرعنة الفساد، وتحدّي مؤسّسة القضاء، وإصراره على تغيير بعض القوانين التي تسمح بإفلاته من إمكانيّة المحاكمة. وثالثها: التطاول غير المسبوق على مؤسسات الدولة؛ الجيش ومؤسسة القضاء وجهاز الشاباك...الخ من قبل أحزاب الائتلاف اليميني الحاكم، ورابعها: الرغبة الجامحة لدى الائتلاف الحكومي بتقليص مساحة "الديمقراطيّة"، وإضعاف مؤسّسة القضاء لغاياتٍ وحساباتٍ شخصيّةٍ وحزبيّة. وخامسها، وهي الأهم: دخول أحزاب الفاشيّة اليهوديّة إلى الحكومة و"الكنيست" وإعلانها صراحةً رغبتَها في تغيير هُويّة الدولة وقشورها الليبراليّة، ودعوتها لممارسة التمييز العنصري ضدّ العرب، وصولًا إلى طردهم من "أرض إسرائيل".

وهذه المرحلة الانحطاطيّة التي تشهدها "إسرائيل" في الوقت الراهن عنوانها "أزمة الإصلاحات القضائيّة" حيث تتصارع مختلف الأحزاب والقوى والمكوّنات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والأمنيّة، على تحديد شكل الدولة ومضمونها، وتجري عملية تراشق الاتّهامات المتبادلة التي تتحدّث عن دمار الدولة، والحرب الأهليّة، حيث وصلت حدّة التراشق عبر الإعلام ومواقع التواصل، إلى مستوى غير مألوفٍ في اللغة السياسيّة الدارجة، تنطوي على الانحدار إلى مستوى اللغة السوقيّة المبتذلة والشتائم والردح والتخوين الشخصي. فقد باتت الحلبة السياسيّة تشهد صراعًا أشبه بنطاح الكباش - كما وصفه بعض المحللين - وتجري عمليّة استخدام ألفاظ غير معهودة (كالفوضويين، الأوباش، المخربين، الإرهابيين، العنصريين، الفاشيين، اللصوص، الفاسدين، الكلاب، الأنذال) إلى جانب تعبيراتٍ تنطوي على التناقضات الإثنيّة: (الأشكناز - الشرقيين - الفلاشا) وبهذا فإنّنا نستعير تعبير "الأوباش" من اللغة الدارجة في الخطاب السياسي الراهن في الحلبة السياسيّة "الإسرائيليّة".

وتعودُ هذه الظواهر المعبّرة عن عهد الانحطاط في "إسرائيل" إلى الأزمات الكامنة في بنية الدولة والمجتمع، وأبرز هذه الأزمات هي أزمة الهُويّة، وهي أزمةٌ عميقة. وما الصراع/ النطاح السياسي الحالي، إلا انعكاسٌ لهذه الأزمة المستفحلة.

غير أنّ الأزمة العميقة التي تشهدها الدولة العبريّة، لا تعني البتة وصولها إلى حافة الهاوية، أو أنّها قاب قوسين أو أدنى من الزوال؛ فالدولة لا تزال قويّةً ولديها من الآليّات ما يجعلها تقلّص أضرار هذه الأزمة، كالتسويات السياسيّة والبرلمانيّة، والانتخابات المبكّرة، وتغيير مكوّنات الائتلافات الحكوميّة، أو تصدير الأزمة إلى الخارج، أو نشوب حربٍ تستدعي تخفيض حدّة التناقضات والجدالات السياسيّة، أو الضغط الشعبي والمظاهرات، أو تدخّلات الأخيرة الأمنيّة والعسكريّة في الضغط على السياسيين للوصول إلى تسويات.. الخ.

فلا يمكننا التعويل على تفكّك "إسرائيل" من الداخل، مع أنّه عاملٌ واردٌ، ولكنّه غير كافٍ لسقوطها؛ لأن عوامل وجود هذه الدولة كانت ولا تزال عوامل خارجية، وعوامل زوالها قطعًا ستكون عوامل خارجيّة، ولا يعني ذلك ركون الفلسطيني إلى الهدوء، والكف عن المقاومة؛ فالصراعُ بشروطه الفادحة المنطوية على اختلافٍ في موازين القوى لصالح "إسرائيل"، تستدعي استمرار المقاومة الفلسطينيّة، وكذلك المقاومة العربيّة والإقليميّة، إلى جانب تغيّراتٍ في الرأي العام العالمي لصالح الفلسطيني، وكذلك تقلّص الدعم السياسي والعسكري والمالي الذي تتلقّاه "إسرائيل" من الخارج، كلّها عوامل - إلى جانب الأزمة الداخليّة المتفاقمة - تسهمُ في إضعاف "إسرائيل" وصولًا إلى هزيمتها الشاملة.

إنّ هذه السلسلة من الحلقات، التي تبلغ اثنتين وعشرين حلقة، ستعالج أوضاع الدولة العبريّة وأزماتها الكامنة والظاهرة التي أوصلت مكوّناتها السياسيّة إلى حدّ التناطح كالكباش؛ فالحلبةُ السياسيّةُ التي كانت تتباهى "إسرائيل" بديمقراطيتها ونضجها، أصبحت اليوم ساحةً لصراع الديوك أو الثيران أو الكباش، ولم تعد تراعي حدود اللياقة الأدبيّة والسياسيّة.

ومن أبرز مظاهر هذه الأزمة دخول "إسرائيل" في عهد "الصبيانيّة السياسيّة" ويعبّر عنها بالسلوك الصبياني لدى عددٍ من قادة النخبة السياسيّة (بن غفير، سموتريش، ريفين، بينت، شاكيد، روتمان، أردان، ليفين..) أدّى إلى ما يُسمى بصبيانية السياسة والقرارات والخطاب، بحيث يتسم عهد الصبيان بالاندفاع والشعبويّة والسلوك الذاتي والرعونة والسطحيّة والتطاول على مؤسّسات الدولة، ومن ناحيةٍ ثانية سوف تعرج هذه الحلقات إلى الدور البارز الذي أدّاه نتنياهو في قيادة الدولة، بوصفه صاحب أطول فترةٍ في البقاء على كرسي الحكم من بني رؤساء الحكومات السابقين، وفي عهده وصل المشروع الصهيوني إلى ذروة تطوّره سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا وعلميًّا وثقافيًّا. وفي الوقت ذاته يمثّل عهده في المرحلة الحالية بداية انحطاط الدولة وضعفها، ما يسمح باندلاع حروبٍ وانتفاضاتٍ قد تقود إلى نهاية الدولة الصهيونيّة. 

لذا سنجعل عددًا من الحلقات الخاصّة بنتنياهو: صعوده السياسي، إنجازاته وملفات فساده، وخطّته الشموليّة للهيمنة على الدولة.

كما وستعالج هذه الحلقات عددًا من الملفات المثيرة للجدل في الدولة، وإشكالية الوجود الفلسطيني التي وضعت حدًّا لحلم الدولة اليهوديّة، وعن طبيعة "إسرائيل" العدوانيّة، وعبثيّة الاستيطان، وتلاشي الأيديولوجيا الصهيونيّة، علاوةً على مصيدة التسوية التي علق بها الفلسطينيون والصهاينة على حدٍّ سواء من دون القدرة على كسر استعصائها.

كما وستعالج هذه الحلقات عددًا من العناوين الدالة على تآكل الدولة العبريّة من الداخل والخارج، وهذه العناوين (إفلاس الذخائر، انحسار اللحظة الإسرائيليّة، تآكل القلعة، اضمحلال الأساطير، الدولة الوظيفيّة، تساقط الأصنام، خفوت نجم الجنرالات...).

وفي هذه الحلقات سنتناول مفهوم "الكهانستيم" أو الفاشيّة اليهوديّة ومخاطرها على الدولة العبريّة قبل أن تكون مخاطرها على الفلسطينيين.

كما وستُخصّصُ حلقة تعالج ما يُسمى بـ"الثورة القضائيّة" حسب ما تزعم الحكومة، أو "الانقلاب القضائي" حسبما تزعم المعارضة، وسنبحث أسباب هذه الأزمة ومظاهرها وإسقاطاتها.

وتجدر الإشارة أخيرًا إلى أنّ موضوعات هذه الحلقات قابلةٌ للنقاش، وتوجيه الملاحظات النقديّة، كما يُتاح لكاتبها الأسير إجراء أي تعديلٍ أو إضافة من الممكن أن تخدم مثل هذه المادة البحثيّة.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش