بقلم الأسير: كميل أبو حنيش..

مقال بعنوان: "على صفيحٍ ساخن" الحلقة الثانية عشر

كميل أبو حنيش.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

الحلقة الثانية عشر: ثنائية فتح وحماس 

لا تنتقص التعددية السياسية والأيديولوجية والحزبية، من حضارية الشعب الفلسطيني وثوريته وجدارته بالحياة والدولة، ولا يُعاب حتى عليه، حدوث انقسامات وصراعات سياسية ودموية على السلطة، نتيجة لاحتدام التناقضات المختلفة، سواء أثناء مرحلة التحرر أو في مرحلة الدولة، فهذا يحدث في كل ِ مكانٍ، وفي كلِ زمانٍ، لأن التناقض والصراع السياسي سمةٌ من سماتِ المجتمعِ الإنساني، ولا يكادُ شعبٌ أو تجربة حضارية أو إنسانية، إلا وعرفت أشكالاً مختلفةً من الصراع، ولا تكادُ أمةٌ واجهت مرحلة تحررية، أو بناء للدولة، إلا وعرفت هذا النزاع الذي يقود في أحيانٍ كثيرةٍ إلى اقتتالٍ دموي، يفضي إلى نتائجٍ مختلفة. حتى أعداؤنا الصهاينة الذين نقاتلهم منذ مئة وثلاثين عاماً، واجهوا مثل هذه التحديات، وانقسموا منذ البداية إلى تياراتٍ وأحزابٍ، وحدثت بينهم انشقاقات واقتتالات قبل انجاز دولتهم، وبعد انجازها، ولا يزالوا مختلفين ومنقسمين، تسود بينهم الاختلافات والانشقاقات والقلق، وقد تؤدي حدة الصراعات الداخلية في المجتمع الصهيوني، إلى اقتتال بين مختلف المكونات المتصارعة، لأن الصراع ببساطة سمة من سمات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في حياة البشر.

وقد عرفت التجربة التحررية الفلسطينية، في تاريخها الطويل، أشكالٍ مختلفةٍ من الصراع الداخلي، في مختلفِ المحطاتِ التاريخية، وليست محطة الصراع على السلطة، التي أنتجت الانقسام عام 2007 إلا إحدى أوجه هذا الصراع، الذي وجد تعبيرات مختلفة في السياسة والمجتمع، وصولاً إلى حد الاقتتال الدموي.

إن ما سنتناوله بعد قليل، في مقاربتنا للصراع بين حركتي فتح وحماس، لا يعد انتقاصاً أو إساءةً لأيٍ من الحركتين، ولا من ثورية أيٍ منهما وما قَدمّته من تضحياتٍ جسامٍ على مذبحِ حرية الوطن. وإنما هي محاولة نقدية، لتجربة الحركتين السياسية والكفاحية، بوصفهما الفصيلين الأكبرين، وما ينطوي عليه هذا التوصيف من مسؤوليات وطنية وتاريخية كبرى. كما أن هذه المحاولة النقدية لا تُعفي بقية المكونات الأخرى، لا سيما المكونات اليسارية أو الديمقراطية من النقد (سنخصص لها حلقة خاصة)، وما هذه المقاربة النقدية الشاملة، إلا محاولة للكشف عن التناقضات الكامنة والظاهرة في أداء كلا الحركتين، وإشكالية المسار الذي تسلكه كل حركة منها، بما يتجاوز أو يهدد المشروع الوطني التحرري، أو إذا أخذ الصراع السياسي مساراً من شأنه أن يقضي على الجميع، أو إذا تجاوز حدود ما هو طبيعي أو مشروع في الصراعات الداخلية، بعبارةٍ أخرى ثمة معايير وحدود وقياسات يدركها كل مجتمع، وحركاته السياسية التي تتصارع في حدود المسموح، ولا يجوز انتهاك تلك المعايير والحدود، لأن من شأن ذلك، أن يُمثّل مخاطراً وجودية على الشعب الفلسطيني، في هذه المرحلة التاريخية القاسية.

 وقبل الشروع، في المقاربة النقدية، لكلا التجربتين، الفتحاوية والحمساوية يتعين علينا الاعتراف، وذلك من زاوية النظر الوطنية والموضوعية والتاريخية، بأن كلا الحركتين قدمتا نموذجين ثوريين انطويا على تضحياتٍ جسيمةٍ وفعلٍ ثوريٍ بطولي، ولم تتهرب أيٍ منهما من تَحمّل أعباء المسؤولية الوطنية والمواجهة، ودفعت كلا الحركتين خيرة قادتها وكوادرها على مذبح الحرية، وحتى في مرحلة الانقسام والصراع على السلطة، التزمتا بالحدود المقبولة في اللياقة السياسية والحرص على الحوار الوطني، والحدّ من تفاقم الصراع في كلا ساحتي الضفة والقطاع، وفوتت الحركتان الفرصة على عددٍ من المؤامرات والمشاريع السياسية التي كانت تستهدف المشروع الوطني التحرري، كمشروع الدولة في غزة، والدولة المؤقتة في الضفة، ومشروع صفقة القرن، وعَبّرت مواقف الحركتين تجاه هذه الصيغ من الحلول المبتذلة، عن مواقف وطنية مسؤولة.

غير أن ذلك لا يمنع من نقد تجربتي الحركتين على كافة الأصعدة لا سيما السياسية والكفاحية منها، في ضوء التباين والخلاف الحاد، بين مشروعي الحركتين المتوازيين والمختلفين، في التكتيك والاستراتيجية، والبيت السياسي الجامع، والسلطة، والمنهج، وتعريف طبيعة المرحلة، والتسوية، والعلاقة مع الاحتلال، والمقاومة والعلاقات الخارجية...الخ، أي بعبارةٍ أخرى نحن إزاء مشروعين مختلفين، لا يلتقيان إلا ليختلفا ويتصارعا، ولكن ليس على أساس مبدأ الوحدة والتناقض، وإنما على أساس الصراع الذي يتسم في أحيانٍ كثيرةٍ بمحاولات الطمس والإلغاء، والاستحواذ الكلي على القرار السياسي والوطني، والهيمنة الشاملة من خلال ممارساتٍ سياسيةٍ لدى الحركتين، تنطوي على مخاطر تحويل التناقضات الثانوية إلى تناقضات رئيسية تنذر بعواقب واضحة على المستقبل الفلسطيني، فيما كان  التناقض الرئيسي مقتصراً على الاحتلال، الذي يسعى إلى قلب المعادلة؛ أي تحويل التناقضات الثانوية الداخلية الفلسطينية إلى تناقضات رئيسية، والتناقض الرئيسي معه إلى تناقض ثانوي، بحكم إمساكه بزمامِ السيطرة الشاملة على الفلسطينيين، وسياسية الاحتواء المزدوج، لكلا السلطتين وبناء قواعد لعبة مع كل سلطةٍ على حدة، بما يسمح له الإبقاء على الانقسام، وترسيخه، والتحكم بآلياته.

إن ثنائية فتح وحماس، وما تنطوي عليه هذه القطبية الثنائية المتصارعة من تبايناتٍ تحملُ في طياتها إشكالية بنيوية في تكوين الحركتين، وتجربتهما التاريخية، وتنعكس في ممارستهما السياسية، وما ينجم عنها، من أخطاءٍ وأزمات، تصيب في الصميم، بعضاً من مركبات المشروع الوطني في مرحلته التحررية.

أولاً: حركة فتح:

مَثّلت حركة فتح، في سنواتها الأولى على الأقل، تجربةً ثوريةً مميزة، وحملت لواء الهوية الوطنية، وشقت درباً جديداً في طريق الكفاح والثورة، وبذل التضحيات عاقدة عزمها على دحر المشروع الصهيوني وتحرير الوطن، وهو ما مَكنّها منذ البداية من تبوأ القيادة الوطنية للمرحلة التحررية، والتَحوّل إلى القوة الرئيسية بين قوى وفصائل الثورة، بفعل عوامل مختلفة ساعدتها على هذا التحول، والهيمنة لاحقاً على مختلف المؤسسات الوطنية وعلى القرار الوطني والسياسي الفلسطيني.

غير أن الممارسة الثورية والسياسية لفتح، أوقعها في أخطاءٍ جسيمة، عكست نفسها على المشروع الوطني التحرري، وتنبع إشكالية فتح الرئيسية، من هيمنتها الشاملة على مرحلة التحرر الوطني والمؤسسات الوطنية الفلسطينية، وعلى القرار السياسي والوطني، فضلاً عن تكوينها التاريخي، والآليات الداخلية والتقاليد التي كانت ولا زالت تحكمها.

إن التشخيص الناقد لفتح وممارستها الثورية والسياسية لا ينتقص من تاريخها، ولا يعني البتة أنها حركةٌ خانت تاريخها ورسالتها الوطنية، لكن تجربة فتح انطوت على تعددٍ في الخيارات والمسارات والرؤى والتصورات والمناهج والبرامج، وذلك بحكم بنيتها وتكوينها، وقواعدها الحركية، أي أن فتح ليست حزباً له أيديولوجيا ورؤية فكرية وسياسية متماسكة، وإنما حركة تنطوي على كافة التيارات والأيديولوجيات والطبقات والفئات الاجتماعية والسياسية إلى حد يجد الباحث نفسه أمام حركات داخل الحركة الواحدة. وقد أحال قادتها سر هذا التنوع الغريب داخل الحركة إلى ما أسموه (عبقرية فتح) أو (الرقم الصعب) أو أن  فتح هي (حركة الشعب بفئاته وطبقاته المختلفة)، وبصرف النظر عن رؤية فتح لذاتها، أو رؤية الآخرين لها، إلا أن التفسير الأقرب للواقع، أن فتح منذ بداية عصفها الثوري، رأت بنفسها الحركة الوحيدة المُعبّرة عن تطلعات الشعب الفلسطيني التحررية، وأطلقت على نفسها (حركة التحرير الوطني الفلسطيني) حيث يحمل هذا العنوان الكبير نزعة فتح المبكرة في التَحوّل إلى القوة الكبرى الوحيدة والمهيمنة على الشعب الفلسطيني بمؤسساته وقواه الاجتماعية والطبقية والسياسية، حيث نأت بنفسها عن تبني أي خطاب قومي أو ديني أو أيديولوجي، وحملت لواء وخطاب الوطنية الفلسطينية وحسب، من دون الأخذ بالاعتبار امكانية انفجار تناقضات وصراعات داخل الحركة تُعبّر عن تباين مكوناتها السياسية والطبقية والاجتماعية؛ فَتحوّلت فتح، إلى حركة الشعب، وحركة الثورة، وحركة المؤسسات ولاحقاً حركة السلطة، حتى غدت تنوء بثقل المشروع الوطني، وما تحمله من مكونات كانت تتصارع في داخلها على الإمساك بزمامها، فمن يمسك بزمام فتح يمسك بزمام الثورة والسلطة والثروة والقرار، ومن دخل بيت فتح فهو آمن ومُؤمّن وغدت فتح أم الجميع: أم الثوار والشهداء والأبطال والساسة الطامحين والمسترزقين والمتسولين، وتفاقمت إشكالية فتح بعد أن تَحوّلت من ثورة إلى سلطةٍ من دون أن تنجز معركتها التحررية، وتَحوّلت من سلطةٍ إلى مراكز قوى متصارعة من دون أن يتسنى لها النجاح في تحويل السلطة إلى دولة، ومع الوقت تآكل مشروعها الوطني في ضوء استعصاء عملية التسوية، وتتلخص إشكالية حركة فتح بالتالي:

1. الشمولية:

لم تعلن فتح يوماً أنها حركة شمولية، غير أن ممارساتها في عهد الثورة والسلطة، انطوت على نزوع الحركة الحاد للتغلغل في كامل بنية المجتمع الفلسطيني: العشائر، الطبقات، الفئات، المؤسسات، المكونات السياسية والاجتماعية، والهيمنة على مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والكفاحية، وعلى المؤسسات الوطنية، وبالتالي على القرار الفلسطيني برمته. 

وقد نجحت فتح منذ البداية بالتَحوّل إلى القوةِ الكبرى والسائدة والمهيمنة من بين القوى السياسية والثورية الفلسطينية، وذلك بحكم تبنيها للهوية الوطنية الفلسطينية وتطويرها، حتى غدت الهوية الوطنية، هي أيديولوجيا فتح وخطابها الوحيد الذي بات يسبغ حياتها الداخلية وممارساتها الثورية والسياسية. وبهذا أصبحت فتح هي كلمة السر المعُبّرة عن الهوية الوطنية، بصيغتها المرنة والحادة، الصلبة والسائلة، العميقة والبسيطة، الشعبية والشعبوية، المغلقة والمنفتحة على مكونات أخرى، الثورية والتقليدية،.. وباتت الوطنية الفلسطينية بمثابة الروح التي حلت بالجسد الفلسطيني المنكوب والمخذول من أنظمة عربية وإسلامية تركته وحيداً يصارع قدره الوجودي، ولم تفلح حروبها في صد العدوان وتحرير الأرض، وأخفقت شعاراتها القومية والوحدوية، في توحيد ولو قطرين عربيين، ولا في معركة تمرغ أنف العدو، وكانت محطة النكسة وما تلاها من معارك فدائية، أبرزها معركة الكرامة بمثابة الانطلاقة الفعلية لحركة فتح، وخير دليل على صدق شعاراتها، حيث مهد هذا المناخ، لسردية فتح عن ذاتها، وما تحمله من مشروع تحرري أن تسعود وتهيمن على مرحلة بكاملها.

إن شمولية فتح، وقوة تنظيمها، وثوريتها، وإمكانياتها ومرونة خطابها الوطني، سمحت لها بالهيمنة على مؤسسات الثورة والمنظمة، وعلى القرار الوطني والسياسي، والاستحواذ على السلطة، والتفرد بالقرار، وبات ياسر عرفات هو فتح، وفتح هي الثورة والمنظمة والسلطة والشعب ومؤسساته، حتى باتت الصيغة الفردية/ الحزبية، سمة من سمات المرحلة التحررية، مع الإبقاء على هامشٍ لبقية فصائل الثورة، ولم تسمح فتح لمبدأ الشراكة الحقيقية في القرار أن يسود في المنظمة، وسعت إلى تحجيم الفصائل، وأمعنت في حرمان شركاؤها التاريخيين من المشاركة السياسية الجادة والمسؤولة والفاعلة، وانتهجت سياسة العقوبات للفصائل المعارضة لنهجها وإقصائها وحرمانها من مخصصاتها المالية من الصندوق القومي، ولم تراعِ مصالحها إلا بما يسمح لها بالسيطرة عليها، واكتفت بشعارات فضفاضة عن الوحدة الوطنية، وما كانت تصدره من خطابات في جلسات المجلس الوطني والمركزي والمناسبات الوطنية. من دون أن يُدر في خلد قادة فتح، أن التفرد في إدارة الهم الوطني، من شأنه أن يلحق ضرراً فادحاً بالمشروع الوطني، وأن هيمنتها الشاملة على القرار الوطني، ولما تنجح في مهمتها التحررية، ليس هو الغاية، ولا يعني البتة نجاحها، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إضعاف الفصائل الوطنية واليسارية. 

ومع ظهور حركة حماس كقوةٍ كبيرة، تنافس فتح على الهيمنة، لم تجد هذه الحركة مكاناً لها في البيت الفلسطيني الجامع (منظمة التحرير) المهيمن عليه كلياً من قبل فتح، والمتهتك من الداخل، بفعل تكلس بناه التنظيمية، وغياب الديمقراطية وتفشي البيروقراطية، حيث آثرت حماس البقاء خارج هذا البيت واشترطت مبدأ الشراكة أو المحاصصة مع فتح، لدخول منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي أسفر عن وجود، خطابين وبرنامجين، وسلطتين، متصارعتين، على الهيمنة الشاملة.

أما المصالحة وإنهاء الانقسام، فقد ابتعا منطق إدارة الأزمة، وليس السعي إلى حلها جذرياً.

وفي المحصلة، أخفقت فتح في التَحوّل إلى حركة الشعب بصورةٍ شاملة، مع أنها نجحت في البقاء بموقع الفصيل الأكبر على الساحة الفلسطينية.

2. العرفاتية:

وإذا كانت الهوية الوطنية الفلسطينية تقوم بمقام أيديولوجيا فتح، وإذا كانت الأخيرة قد نجحت في تحويل ذاتها إلى أيديولوجيا تطمح في الوصول إلى عقل ووجدان كل فلسطيني، فإن العرفاتية هي روح فتح وأكسير حياتها، ومنهج عملها السياسي والإداري والوطني والاجتماعي والثوري.

لقد هيمن ياسر عرفات على حركة فتح وعلى منظمة التحرير، وعلى السلطة الوطنية، وامتدت تلك الهيمنة في الزمن الفلسطيني لما يناهز الأربعون عاماً، وسبغ هذه المرحلة (1965-2004) بسماته وخصائصه ومواهبه الشخصية والسياسية والإدارية، ومنهجه وأسلوبه وطبيعته، حيث احتلت هذه الشخصية الوطنية والتاريخية مرحلةً بكاملها، ولا عجب أن سميت بـ (المرحلة العرفاتية) وتنطوي العرفاتية على: الوطنية الحيوية، الروح العملية، التوجس، الفردية، الثورية، البرغماتية، الأبوية، العفوية، البساطة، الارتجال، الذكاء السياسي الفطري، الشعبوية، الاختزال، الحكمة، حب السلطة، والكاريزما.

كان ياسر عرفات الذي قاد مرحلة كاملة، قائداً وطنياً يتسم بالروح العملية والتدفق، وصاحب طاقة كبيرة على الصبر والعمل والاحتمال، وكان رجلاً سياسياً مُحنكاً، يحمل كل مواصفات رجل السياسة من الفطنة والذكاء والبراعة في فن المناورة والدهاء والقدرة على نسجح التحالفات وإدارة الخصومات، ولم يسمح لأحدٍ من رفاقه في فتح من منافسته أو مقاسمته السلطة والنفوذ، وسعى بتصميم لإضعاف خصومه السياسيين من خارج فتح، واتسم حكمه وسياسته بالفردية واستخدام المؤسسات بما يضمن بقاء نفوذه السياسي، ولم يسمح بدمقرطتها وتطويرها، كما واتسمت سياسته وخطابه بالشعبوية والعفوية والارتجال والبساطة.

وفي ممارسته السياسية سواء داخل فتح أو خارجها، كان عرفات أبوياً وتقليدياً في توليفاته الحكومية والسياسية، وشمولياً بطريقة تفكيره، واسبغ على الوطنية الفلسطينية معانٍ أشبه بالقداسة بأسلوبٍ لم يعرف عن أحدٍ غيره، حتى صارت العرفاتية وجهاً آخراً من وجوه الوطنية الفلسطينية، حيث لم يسمح لأي نظامٍ عربيٍ أو إقليميٍ أو حتى فلسطيني بالاقتراب من القرار، وتوجس من كل سلوك أو موقفٍ سياسي يبديه أي نظام وشخصية عربية.

وأخيراً أتقن عرفات البراغماتية التي تلامس حدود المحرمات الوطنية، وهو ما كان يمنحه في أحيانٍ كثيرةٍ قدرة على اتخاذ مواقف غريبة وصعبة، ولكن من دون أن يصل إلى حد المساس بالثوابت الوطنية، ولعل أبرز ما يُسجل في صالح العرفاتية أنها لم تنتهج العنف والاغتيال السياسي، في سبيل الحفاظ على سلطته الفردية، ولم يلجأ إلى تصفية خصومه السياسيين سواء داخل فتح أو خارجها كما حدث ويحدث في العادة في مثل هكذا أنماط وظواهر سياسية وثورية في تجارب الثورات والأنظمة السياسية في العالم.

مَثّلت العرفاتية نموذجاً واستقت خصائصها وسماتها من خصائص وسمات ياسر عرفات وشخصيته المركزبة، وليس من أصول ومنابع أخرى في التجربة الكفاحية الفلسطينية. ونظراً لطول المرحلة العرفاتية في فتح والثورة والسلطة، طغت الشخصية العرفاتية على فتح ومؤسساتها وعلى مؤسسات المنظمة والسلطة بكل ما تنطوي عليه من منهج وأسلوب عمل وخصائي وإشكاليات، حتى غدت العرفاتية محرك فتح ومعيق تطورها في آنٍ واحد. حيث لا تزال التقاليد العرفاتية في فتح والمنظمة والسلطة هي السائدة، وهو ما عكس نفسه في ممارسة فتح السياسية في المجتمع والسلطة وفي استكمال مرحلة التحرر الوطني.

وتتلخص الإشكالية العرفاتية، في أنها أرست تقاليداً راسخةً في فتح والمنظمة والسلطة، تَتمثّل بالتفرد والروح السلطوية والاكتفاء بالشكلية الديمقراطية، والتهميش لدور المؤسسات علاوةً على هشاشة بنيتها الداخلية، الأمر الذي يعيق من تطور الحركة والمؤسسات الوطنية الميهمن عليها من قبل فتح، وهو ما يدفع إلى واحدٍ من أمرين: إما أن تبقى بآليات عملها محكومة بالصيغة الفردية، أو قد يؤدي إلى انفجار تناقضاتها الداخلية، واحتدام الصراع بين مراكز القوى في داخلها، إذا ما غابت الشخصية العرفاتية التي تحسن الامساك بزمام الأمور وإدارة تلك الصراعات.

3. السلطوية:

أما المركب الثالث لإشكالية فتح، فيتَمثّل بترسخ مفهوم السلطوية في ممارساتها السياسية والثورية منذ نشأتها وحتى اليوم. ويتلخص مفهوم السلطوية بالنزعة الحادة للهيمنة على القرار، وطمس مبدأ الشراكة، وينطوي على الفردية والاستئثار بالسلطة، ويجعل من الحزب/ الحركة غاية وليس وسيلة.

لقد دأبت فتح منذ نشأتها وحتى اليوم، وبحكم هيمنتها التاريخية على القرار الوطني والسياسي الفلسطيني، على انتهاج سياسات سلطوية، في مختلفِ الأنشطةِ والفعاليات التي تتمكن فيها فتح من الهيمنة عليها (الاتحاد، النقابة، الجامعة، الهيئة، المجلس البلدي، الأطر والهيئات السياسية والنقابية والاعلامية والكفاحية.. الخ) وهذه النزعة التي ميزت سلوك فتح، باتت جزءاً من تكوينها ومنهجها. وذلك من منطلق رؤيتها لذاتها على أنها قائدة المشروع الوطني، وحارسة ثوابته وأسسه وصانعة تاريخه، وبالتالي صاحبة السلطة في كل محطة وميدان، وأنه يحق لها إقصاء أي منافسةٍ من شأنها أن تهدد هيمنتها حتى ولو كانت على حساب المصالح الوطنية.

وإذا كانت هذه النزعة، تتسم بها كل حركة سياسية، تسعى للهيمنة والاستئثار بالقرار، فإن المعيار يجب أن يكون نجاح هذه الحركة في أداء مهامها، لاسيما المهام التحررية.

وكما هو معروف، فقد أخفقت فتح في مهمتها التحررية وانجازها، وأخفقت في إدارة المنظمة وبتحويلها إلى إطارٍ جامعٍ للكل الفلسطيني، وأخفقت في إدارة المنظمة وبتحويلها إلى إطارٍ جامعٍ للكل الفلسطيني، وأخفقت في إدارة السلطة، وبتحويلها إلى كيانٍ وطني يُعبّر عن مصالح الجميع.

ومن ناحيةِ ثانية، فإن سلطوية فتح لم تُمكنّها من الاحتفاظ بالسلطة وحدها بعد أن تقاسمتها مع حماس، بفعل الاقتتال لا بفعل الاتفاق. وتمثل خشية فتح من فقدانها السلطة على مختلف المؤسسات الفلسطينية، أحد الأسباب الكامنة في الأزمة السياسية والوطنية الراهنة.

وقد تُشكّل هذه الخشية دافعاً إما لتشبث فتح بالسلطة مهما كلفها ذلك من ثمن، وإما أن تدفع باتجاه إبداء المرونة والسماح لمبدأ الشراكة السياسية والوطنية أن يسود بين المكونات السياسية  المختلفة، وأن يجري إصلاح المنظمة والسلطة، والدخول في مرحلةٍ جديدة، وهذا مرتبط بتطورات الصراع مع المحتل على الأرض.


ثانياً: حركة حماس:

تنطوي تجربة حركة حماس على ثلاثة مركبات، تُشكّل هوية الحركة، وتحدد خطابها ومسارها وممارستها، وبالتالي أدائها السياسي، حيث تُمثّل هذه المركبات نقاط قوتها وضعفها في آنٍ واحد، وتَتمّثل هذه المركبات في : الخطاب الديني - التكوين الإخواني - التجربة الثورية.

ويُشكّل الخطاب الديني، بما يمتلكه من بلاغةٍ وتأثير، مصدر قوة حماس وتماسكها الداخلي، ويُمثّل في ذات الوقت عائق تطور فكرها السياسي وممارستها للسلطة، ويحدّ من إمكانية هيمنتها الشاملة على القرار الفلسطيني، ومن هامش أدائها السياسي في الداخل والخارج، وهو مركب لن نتوقف عنده طويلاً، بحكم تعقيداته، واحتياجه لمقاربة مطولة، وسنخصص حيزاً أكبر للمركبين الآخرين.

أما مكونها الاخواني، فيحتاج لوقفة أطول، وذلك لما ينطوي عليه الفكر الإخواني من إشكاليات ومن ميزات، عكس نفسه في خطاب حماس، وشَكلّ ممارستها الكفاحية والسياسية، وقبل الشروع في تحليل هذا المركب وتمثلاته في أداء حركة حماس، يتعين علينا الإشارة إلى أن حركة حماس، ولدت على ثلاثة مراحل: الأولى منذ أواخر السبعينيات وحتى نهاية العام 1987.

وهذه المرحلة الإخوانية، والثانية من أواخر عام 1987 وحتى بدايات العام 2006. وهي المرحلة الكفاحية، والثالثة من بدايات 2006 وحتى وقتنا الحاضر، وهي المرحلة السلطوية السياسية.

حيث تكمن إشكالية حماس في المرحلتين الأولى والثالثة. ففي المرحلة الأولى التكوينية، طغى العامل الديني على الخطاب والسلوك الإخواني الفلسطيني لا سيما جيل المؤسسين كما تَشرّب ذلك الجيل الفكر الإخواني من منابعه الأولى، ممثلة بأفكار حسن البنا وسيد قطب، وما انطوى عليه هذا الفكر من نزعات محافظة ومهادنة وتكفيرية وبراغماتية سياسية، واندفاعٍ نحو المشاركة بالسلطة، وتقية سياسية وجهادية وشعبوية وعقلانية وسلطوية وشمولية ومرونة، وتشدد وسلفية وعلمانية ومصداقية ومرواغة.. الخ.

لقد انطوى الفكر الإخواني على مشروع شمولي جامح للوصول والإمساك بالسلطة السياسية، وطموحٌ لإقامة دولةٍ إسلامية كبرى من المحيط إلى المحيط.

 ولعل التأمل العميق في رسائل حسن البنا، بوصفها الوثائق الأساسية والتأسيسية التي قامت عليها حركة الإخوان المسلمين، سيُمكَننّا أن نَتلمَّس تعددية في الأولويات والبرامج والصيغ الحادة والمرنة، وسنجد أنها رسائل تنطوي على تناقضاتٍ مختلفة: التشدد والمرونة، الدين وبعض مظاهر العلمانية، الثورية والمهادنة، المصداقية والانتهازية، التكفير والتسامح، التخلف والتقدم، السلفية والحداثة، التحجر والاجتهاد..الخ، وبهذا تَحوّلت الحركة إلى وعاءٍ واسع يجمع كافة التيارات الإسلامية، ولعل أبرز ما أبدعه الفكر الإخواني لا سيما فكر حسن البنا، هو حيز الخصوصية الموضوعية لكلٍ بلدٍ إسلامي، أي الظروف الملموسة: الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والتاريخية والعلمية.. الخ لكل بلدٍ ولكلِ مجتمعٍ إسلامي، وهو ما أسهم في نهاية المطاف بتغلغل الفكر الإخواني الفضفاض إلى كلِ زاويةٍ في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، وسمح بتبلور فكر إخواني محلي، يحمل استقلالية نسبية عن الفكر  الإخواني الأُم، يتقاطع معه من دون أن يتنافرا، وسمحت الصيغة الإخوانية اللامركزية، بتطور حركات إخوانية محلية محكومة لظروفها الملموسة في كلِ بلدٍ على حدة.

 حيث أنتجت الظاهرة الفكرية والسياسية الإخوانية، مجموعة من التيارات الجهادية والسياسية والتكفيرية والثورية، ومجموعة من التجارب السياسية المتباينة، التي عكست مشروع الحركة الاستراتيجية في الدول المركزية. فالرحم الإخواني ساهم في إنجاب سيد قطب والقرضاوي والغنوشي والترابي وعبدالله عزام وأردوغان وأحمد ياسين ورائد صلاح ومنصور عباس.. الخ، حيث تعكس هذه الأسماء تجارباً فكريةً وجهاديةً وسياسيةً متنوعةً ومتناقضةً، وتحمل بذوراً للصراعِ بين تلك المكونات، حيث بإمكان منصور عباس أو سيد قطب على سبيل المثال، أن ينتسبا إلى الإخوان المسلمين، ويزعما أنهما استقيا أفكارهما من الفكر الإخواني، من دون أن يكون بمقدور أحدٍ أن ينفي، أو يبرئ أحدهما من هذا الانتساب، وكذلك بمقدور الفكر الإخواني أن ينتج ظواهر إخوانية على شاكلة حماس أو حزب الحرية والعدالة التركي أو المغربي أو جبهة العمل الاسلامية الأردنية، أو الحركة الإسلامية الليبية أو التونسية أو السورية أو اليمنية والمصرية أو الأوروبية أو الحركة الإسلامية في "اسرائيل" بشقيها الشمالي والجنوبي، أو الجهادية الإفغانية، أو الجهاد الإسلامي في فلسطين.. ذلك لأن الفكر الإخواني يسمح بهذه التعددية والتركيب والتنوع، ويترك مجالاً لأي تيارٍ إسلامي من الأكثر تشدداً إلى الأكثر اعتدالاً ومهادنةً، أن يأخذ له حيزاً وحضوراً في مختلف  الميادين السياسية والسلطوية والجهادية والثورية التكفيرية.

وفي هذا الإطار ونظراً لخصوصية الحالة الفلسطينية وتعقدها، أنتجت الظاهرة الفكرية الإخوانية، أربعة أشكال مختلفة في التنظيم والرؤية والممارسة السياسية، وهذه الأشكال: حماس، الجهاد الإسلامي، الحركة الإسلامية في "اسرائيل" بجناحيها الشمالي والجنوبي، حيث عَبّرت كل حركة من هذه الحركات، عن رؤية وتصور وممارسةٍ مختلفةٍ عن الأخرى، في الشكل والمضمون.

لقد خُلقت حركة حماس في رحم التجربة الإخوانية الفلسطينية، وحملت خصائصها الجينية، إذا صح التعبير، من الظروف الملموسة التي يعيشها الشعب الفلسطيني ومعاناته تحت الاحتلال، وبسبب تلكؤ الحركة في حمل راية الجهاد في عقد الثمانينات، ولدت مجموعة من رحم الحركة، أطلقت على نفسها اسم "الجهاد الإسلامي" بينما آثرت قيادة الحركة الإخوانية في تلك المرحلة التريث، إلى حين نشوء ظروف تسمح لها بالانطلاق، حيث وصفت تلك المرحلة في سردية الحركة عن ذاتها، بأنها مرحلة إعداد وتهيئة وبناء وتَجذّر، وعدم الانجرار إلى الصدامِ المبكر مع الاحتلال، واستفادت الحركة من تراجع فصائل منظمة التحرير "العلمانية واليسارية" في أعقاب الخروج من بيروت، وكذلك من غض الطرف عن أنشطتها الاجتماعية والدينية، من جانب سلطات الاحتلال، والسماح لها بالتمدد والتجذر، وبتدفق أموالٍ طائلة، مَكنتّ الحركة من بناء شبكة  واسعة من المؤسسات، وتغلغلها في مختلف القرى والمدن والمخيمات في الضفة والقطاع، حيث رأت سلطات الاحتلال بتوسع أنشطة الحركة وتغلغلها في الأوساط الشعبية، من شأنه أن يضعف فصائل منظمة التحرير، ويدخلها في حالة اشتباك معها، وحاول الاحتلال إذكاء نار الفتنة، ما بين الحركة الإخوانية الصاعدة وبين فصائل المنظمة، ووقعت عشرات الاشتباكات طوال عقد الثمانينات بين الإخوان وفصائل المنظمة في الجامعات، وبعض المخيمات في غزة، وبعض قرى الضفة، غير أنها كانت تنطفئ سريعاً بسبب الوعي الشعبي وقطع الطريق على مخططات الاحتلال.

بقيت التيارات الفكرية الإخوانية المتباينة، تتصارع في تلك المرحلة التكوينية في التجربة الإخوانية الفلسطينية، وبرز من بينها التيار الثوري الوطني الشبابي الذي كان يدفع باتجاه تحويل الحركة، من حركة دينية اجتماعية محافظة، إلى حركة سياسية مقاومة، وذلك استجابةً لارهاصات الانتفاضة الأولى، التي جرى التعبير عنها باشتباكات متقطعة بين الجماهير الفلسطينية وقوات الاحتلال قبيل اندلاع الانتفاضة بعامين، ومع أن هذا التيار، كان جنينياً إلا أنه سرعان ما نما سريعاً بفعل التطورات الميدانية المتسارعة، إلى أن جاءت لحظة التَحوّل الجارفة، باندلاع الانتفاضة الأولى، الأمر الذي سمح بغلبة هذا التيار، وهيمنته على سائر التيارات الأخرى، مما ساهم سريعاً بولادة حركة حماس، بعد أيامٍ، على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى، ولكن من دون أن تقطع حماس حبلها السري مع حركة الإخوان المسلمين.

شهدت السنوات الأولى من عمر حماس، بطئ تطور وعيها السياسي، لأنها كانت لا تزال أسيرة للفكر الإخواني المحافظ، وكانت لا تزال منحازة لأيديولوجيتها حيث يشهد ميثاقها الأول، الذي وُضع بطريقة مرتجلة للتسريع في الإعلان عن ولادة الحركة، من دون انتظار صياغة مشروع أكثر تطوراً من حيث الشكل والمضمون، واحتاجت حماس لسنواتٍ طويلة، قبل أن تجري تعديلات على ميثاقها بعد أن تطور فكرها السياسي.  

ومنذ ذلك الحين، أي منذ انطلاقتها، راح يتطور وعي حماس السياسي والكفاحي، وبداية بناء تجربتها الذاتية التي أخذت بالتميز عن التجارب الإخوانية الأخرى، وذلك بحكم انخراطها الميداني وخروجها من قوقعة الاعتزال، إلى رحابة ميادين العمل والنضال وتَحمّل أعباء العملية التحررية مع الآخرين، ومع الوقت اكتشفت حماس معنى مرحلة التحرر الوطني، وصعوبة قذف الآخرين بالكفر والزندقة والخيانة، وأن مواجهة عدو "كاسرائيل"، أكبر من اختزاله ( باليهود) أو لأبناء وأحفاد القردة والخنازير"، وأن الديمقراطية والوطنية ليست بكفر، وليس كل مسلمٍ يُعوّل عليه أو يؤتمن على القضايا المصيرية للشعوب، وليس كل "نصراني" أو "كافر" أو "علماني" أو "اجنبي" مجرد عدو للمسلمين، أي أن حماس أخذت تتباعد عن خطابها الأيديولوجي الإخواني، لصالح خطاب سياسي أكثر نضجاً، واقتربت أكثر من مربع الوطنية الفلسطينية. 

وباختصار، فإن تجربة حماس الكفاحية وانخراطها في العملية التحررية، أناحت لها اكتشاف قوانين الصراع وقوانين التاريخ، واشكاليات العمل السياسي والمصالح والآليات التي تحكم عملية الصراع مع العدو، وكان هذا هو التحدي الأول لحركة حماس.

وما يمكن أن يُسجل كمأخذ على حماس في تلك المرحلة، أنها طرحت نفسها بديلاً لمجمل التجربة الكفاحية الفلسطينية، ولمنظمة التحرير الفلسطينية، ولم تعترف إلا بتجربتها "وبسواعدها الرامية" و"بالأيدي المتوضئة" القابضة على الزناد، وهو ما عَبّر مبكراً عن نزعة الحركة الإقصائية، وعزمها على الهيمنة والحلول مكان مجمل النخبة السياسية والثورية الفلسطينية. ولو أنها جنحت مبكراً نحو الوحدة والتلاحم والرغبة في بناء وتطوير المنظمة وأطر الانتفاضة، كالقيادة الموحدة، لكان ذلك أجدى للحالة الفلسطينية، ولربما أدى ذلك إلى كبح جماح فتح من الجنوح نحو خيار التسوية.

وما يمكن أن يُسجل لصالح حماس في مشوارها الكفاحي، أنها حافظت على خطٍ صاعدٍ من التطور والأداء ومراكمة الانجازات في مختلف الميادين، لا سيما الكفاحية والسياسية والتنظيمية، كما وأثمرت تجربتها الثورية في اكتشافها لأدوات العمل النضالي والعلاقات الوطنية والميدانية والسياسية، وذلك بعد اكتشافها للميدان، والانخراط في العمل الثوري، وخوض تجربة السجون، ومحاولات اجتثاثها وتصفية قادتها أو إبعادهم أو اعتقالهم.

أما التحدي الثاني الذي واجه تجربة حماس، فقد تَمثّل بانطلاق مشروع التسوية، وتوقيع أوسلو وقيام السلطة، حيث وقعت الحركة في خطأ التقدير السياسي، حين أخذت على عاتقها إسقاط المشروع دون رؤية واضحة، لتكتشف أن مشروع التسوية يتعدى الذات الفلسطينية، وأعادها الإخفاق في إسقاط مشروع التسوية، لمربع المهادنة الوطنية والإقليمية والدولية، وأتاح لها هذا الإخفاق اكتشاف أداة العمل السياسي، واكتشاف معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء.

وفي ضوء ما تعرضت له من ملاحقةٍ واغتيالات واعتقالات وإبعادات، وتجفيف لمصادر التمويل آثرت حماس التريث وانتظار فرصة أخرى كمحطةِ الانتفاضة الثانية، التي رأت فيها فرصتها الكبرى رغم تلكؤها في الأشهر الأولى، إلا أنها سارعت لاطلاق موجة كبيرة من العمليات الفدائية والاستشهادية، وتبين أن لديها مشروعاً لتطوير أدائها المقاوم، تمكنت من إنجازه وتطويره في قطاع غزة، فيما أخفقت تجربتها في الضفة وذلك بحكم الاختلاف بين كلا الإقليمين على كافة الأصعدة.

وعَبّرت الحركة عن مرونتها في التعاون مع السلطة والفصائل، وأظهرت مسؤولية كبيرة في العمل الميداني والسياسي، وأبدت استعدادها للمشاركة في العمل السياسي، ودخول المنظمة والسلطة، وتفهم بعض ممارسات السلطة وخطابها واستابتها للمطالبات بالتهدئة والهدنة الفتالية.

شَكلّ انخراط حماس في العملية السياسية، وقبولها المشاركة في الانتخابات، وفوزها الساحق الذي أحرزته وتمكينها من تشكيل حكومة فلسطينية، تحدياً ثالثاً لها، حيث وقعت حماس في شرك السلطة مثلما وقعت به من قبلها فتح.

غير أن بنية السلطة الفتحاوية ومراكز القوى بداخلها، وقيودها السياسية والأمنية، وتعثر التسوية والصراع مع العدو، علاوةً على تجربة حماس الغضة في السياسة، كل هذه العوامل لم تتح لها استكشاف التجربة السياسية، وأدت عملية حصارها المالي والسياسي إلى انفجار أزمات داخلية وخارجية، أنذرت ببدايات اقتتال داخلي. واتخذت "اسرائيل" من أسر الجندي شاليط ذريعة لتكثيف الضغط العسكري، وإفشال تجربتها باعتقال النواب والوزراء التابعين لها.

ومع بدايات حكومتها، ورغم دعوتها الجميع المشاركة، وطرحها لشعارات الشراكة السياسية، والمرونة السياسية التي أبدتها في خطابها، غير أنها اعتبرت فوزها في الانتخابات، بدايةً لهيمنتها الشاملة واستئثارها بالسلطة، واستيقظت الميول الإخوانية السياسية من مراقدها، وهو ما حذا بفتح ومراكز القوى في السلطة لمقاومتها وعرقلة تجربتها، إلى جانب إجراءات "اسرائيل" وضغطها السياسي والعسكري وحصارها لغزة، وتحويلها قضية الجندي شاليط إلى أداةٍ للضغط اليومي، إلى جانب التواطؤ الإقليمي والدولي، وابتزازها بالضغط عليها للاعتراف "باسرائيل"، وشروط اللجنة الرباعية، حيث أثمرت الضغوط، وأدت إلى موافقتها على تشكيل حكومة وحدة وطنية ومحاصصتها السلطة مع فتح، غير أن الحكومة فشلت سريعاً بعد أن وقع الاقتتال على السلطة، وانفجار عشرات الأزمات دفعةً واحدة، إلى أن وقع الانقسام، وسيطرت على القطاع بالكامل.

لقد استثمرت "اسرائيل" طويلاً في الوصول إلى الانقسام الفلسطيني، وسعت لترسيخه، وحاولت إرساء قواعد لعبة جديدة مع السلطتين، واحتوائهما المزدوج من الخارج. وصار يتعين على حماس الجمع بين مهمة المقاومة والسلطة، ومواجهة استحقاق توفير ما يلزم غزة من احتياجات يومية، والتصدي للحصار ولأربعة حروبٍ قاسية، ومواجهة الضغوط والتحديات وتبعات الانقسام، ودفعت المئات من قادتها وكوادرها السياسية والعسكرية، غير أن ما يسجل لها أنها صمدت أمام مخلتف الضغوط، وواجهت العدو العسكري الصهيوني، واستطاعت بناء قوة عسكرية في القطاع، غير أن هذه القوة لا يمكنها حمل أعباء المرحلة التحررية وحدها، بعد أن جعلت "اسرائيل" فاتورتها باهظة التكلفة من النواحي البشرية والاقتصادية والسياسية والمالية. أي أن المقاومة في غزة وصلت إلى حالة من العجز النسبي، من بعد أن تمكن العدو من تطوير وسائل دفاعية حرمت حماس وغيرها من تحقيق انجازات عسكرية مهمة، وذات طبيعة استراتيجية.

غير أن أهم استخلاص يمكن تسجيله، يَتمثّل في نجاح مشروع المقاومة الذي طورته حماس، وإخفاقها في تجربة السلطة التي تسببت بالانقسام، حيث حُرمت حماس من تحقيق مكاسب سياسية مهمة من وراء مشاركتها في السلطة فوزها في الانتخابات.

أما التحدي الرابع الذي واجهته حماس، فيَتمثّل بالمتغيرات الإقليمية في ضوء الثورات العربية. وبالرغم من بداياتها الواعدة وما أفرزته من نتائج كانت في صالح حماس (الإخوان في مصر وتونس وليبيا.. الخ) غير أن إخفاق الثورات العربية، وتجربة الحكم الإخوانية في مصر، وضع حماس في مأزقٍ خطير، لا سيما بعد فقدانها لعلاقتها مع سوريا بسبب موقفها السياسي، الذي أدى لتأثر علاقاتها مع إيران وحزب الله، ولاحقاً فقدت علاقتها مع السودان، ووجدت نفسها تعزز علاقاتها مع دولة قطر وتركيا، ومحاولات ترميم وتعويض ما خسرته من أنظمة ودول وعلاقات إقليمية ودولية.

لن نتوقف عند تجربة حركة حماس السياسية في الحكم، لأنه لم يتاح لها الإمساك بزمام السلطة، أما تجربة سيطرتها على غزة فلا يمكننا الحكم عليها إلا من حيث الشكل، وذلك في ضوء ما يتعرض له القطاع من حصار وتجويع وحروب عدوانية، وهو ما يجعل من تجربة الحكم السياسي مهمة صعبة. ولكن يمكننا أن نُسجل عنوانين لاشكالية حماس، يكادان يتشابهان مع إشكاليات حركة فتح في الممارسات الثورية والسياسية وهما: الشمولية والسلطوية.

وختاماً لابد من القول أن الصراع الفتحاوي الحمساوي الذي أنتج ظاهرة الانقسام، وأصاب المشروع الوطني التحرري بالتهتك، وإذا بقيت هذه الحالة سائدة لفترة أطول، فإن الوضع القائم المستمر ينذر بانفجار الأوضاع الداخلية، في ظل استمرار الممارسات العدوانية الصهيونية، وما ظواهر العمليات الفردية وظاهرتي عرين الأسود وكتيبة جنين، إلا تعبيراً عن حالة السخط الشعبية، واحتجاجٌ على غياب أي أفقٍ وطني يسمح بالتصدي للاحتلال، وعلى حالة الضعف والتهتك في الجسم الوطني المُعبر عنه في حالة الفصائل الفلسطينية.

إن المسؤولية الوطنية تقتضي أن نسارع إلى إنهاء حالة الانقسام، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني بما فيها السلطة والمنظمة والأطر الشعبية والأهلية، لأننا مقبلون على مرحلةٍ صعبةٍ وقاسية، في ضوء الحكومة اليمينية الفاشية الجديدة في دولة الكيان، التي من المرجح أن تدفع الأوضاع نحو المزيد من التصعيد، بفعل مشارعيها المعلنة من تسريع الاستيطان والضم وتهويد القدس ومصادرة الأرض وهدم الآلاف من البيوت.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني