الوحدة الوطنية ليست ترفًا سياسيًا..

حوار الأسير القائد منذر خلف مفلح "للهدف": إضراباتُ الأسرى سياسيةٌ وإن ارتدت لباسًا مطلبيًا

منذر خلف مفلح.png
المصدر / بوابة الهدف الإخبارية

مركز حنظلة فلسطين المحتلة

الأسيرُ منذر خلف مفلح من قرية بيت دجن قضاء نابلس، وُلدَ في الكويت عام 1976، وحاصلٌ على بكالوريوس صحافة وإدارة أعمال عامَ 2001 من جامعة النجاح الوطنيّة، وماجستير في الشؤون الإسرائيليّة من جامعة القدس (أبو ديس) عام 2018، أثناءَ وجودِهِ داخلَ المعتقلات الإسرائيليّة/ الصهيونيّة.

تعرّض منذر للاعتقال أوّلَ مرّةٍ عام 1994، قبلَ تقديمِهِ امتحانَ الثانويّة العامة بأسابيعَ عدّة، حيث حُرم منها، وبعد الإفراج عنه عاد لتقديم الثانوية العامة ونجح بها بامتياز، ومع بداية عام 1999، بدأ الاحتلالُ بملاحقته، لتندلعَ بعد ذلك بعام انتفاضة الأقصى ليستمرَّ منذر في عمله النضاليّ، إلى أن اعتقل عام 2003 وحكم عليه بالسجن مدّة 33 عامًا.

عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين، وله العديد من المقالات والدراسات والأبحاث المنشورة، وله مجموعةٌ من القصص والقصائد، وصدر له عن دار الفاروق للطباعة والنشر في نابلس، رواية/سردية "الخرزة" عام 2020.

يشغل عضوية اللجنة المركزية العامة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، ومسؤول الإعلام في فرع السجون، ومدير مركز حنظلة للأسرى والمحررين.
 

- معركة الأسرى وإضراب الحريّة

معاناة الأسرى داخل المعتقلات الصهيونيّة مستمرة وليست بالجديدة وخاصّة لدى الأسرى الإداريين والمرضى على وجه الخصوص، في أي سياق جاء الاضراب الأخير للرفاق في السجون، وما هي قراءتك لنتائج هذا الإضراب؟

تعمدُ الحركة الأسيرة، وقواها المختلفة، بقراءة الواقع بين الحين والآخر، وتلجأ لتكتيكاتٍ توائم هذه القراءة، من أجل استثمار الظروف المختلفة، أو نافذة الفرص، التي يمكن أن تظهر بين الفينة والأخرى، وبطبيعة الحال هذه التكتيكات تختلف وتتنوّع بحسب اتّجاه الأحداث، هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تكتيكات الأسرى، وخاصةً الإضراب عن الطعام يحمل أبعاد متنوعة، منها المطلبي، الخاص بقضايا الأسرى، أو ظروف حياتهم، أو بعض المطالب الأخرى.

ويحمل البعدُ السياسي، والإضراب الأخير للأسرى الإداريين (معركة الخمسين مقاتلًا)، جاءت في هذا السياق، بمعنى أنّ القراءة السياسيّة للواقع خارج السجون وداخلها، مقرونةٌ بشراسة الهجمة الصهيونيّة ضد الأسرى الإداريين، وتوغل حالة الاعتقال، وازدياد الهجمة بحقّ شعبنا بكلّ الميادين تُرجمت لإمكانيّة استغلال نافذة الفرص هذه، التي فتحت نتيجة تراصف عديد الأحداث أدّت بالأسرى الإداريّين لاستثمار هذا الواقع من أجل تعليق الجرس بتظاهرةٍ تركّز على الاعتقال الإداري لمواجهته، وكذلك لخلق حالة ترابط ما بين ساحتي السجن وساحة الخارج لوضع قضيّة الأسرى بندًا على جدول الأعمال السياسي والشعبي، ومن أجل تركيم حالة المواجهة.

من أجل هذا أصرَّ الرفاقُ على حمل معركة الإداري، وبمواجهة سياسة الاعتقال الإداري شعارًا عامًّا وناظمًا للمعركة بغض النظر عن القضايا الشخصيّة أو الملفّات الثانوية.

وبالمجمل لطالما ترافقت إضرابات الأسرى، وتزامن من حيث اعتبارها مقدّمةً أو مرافعة، أو ملاحقةً لوقائعَ سياسيّةٍ في الخارج، وهو ما يجعلها إضراباتٍ سياسيّةً بامتياز.
 

هنا يبرزُ التساؤل، هل حقّقَ الإضرابُ نتائج؟

الجوابُ القاطع، نعم، فالحالةُ الجماهيريّةُ والشعبيّة، والتنسيق العالي داخل السجون وخارجها من أجل مساندة الإضراب أكدت ذلك، والتفاعل الإعلامي كان أكبر، الأهم هو تفاعل المؤسسات الدولية والحقوقية والقانونية، والبرلمانات، والكتل البرلمانية وعدد من الساسة، والدول كما بوليفيا وفنزويلا وغيرها، الدول التي أبدت مساندتها للإضراب، إضافةً للبعد الدولي بهذا الشأن، وخاصةً مؤسسات الأمم المتحدة، وحتى محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي تمت مخاطبتها بهذا الشأن، ووافقت على القضية عبر ممثلة العلاقات العامة في مركز حنظلة، وبالتعاون والدعم والتنسيق مع مؤسسات ومنظمات دولية داعمة ومتضامنة، وصولاً لدور طاقم مركز حنظلة في إدارة الخطاب الإعلامي للإضراب، وإيصال تفاصيله للرأي العام، وحجم التفاعل الواسع على منصاته من جميع أبناء شعبنا.

إذا أسس الإضراب لرأي عام محلي وعربي ودولي من أجل ترسيخ الخطوة السياسية أو التعبير السياسي للمعركة التي ستأخذ طابع مختلف في كل مرة، يؤكد على البند السياسي للإضراب باعتباره أداة لنزع الشرعية عن الاحتلال، وإجراءاته هذه المرة من خلال التأسيس لمعركة مقاطعة محاكم الاحتلال بكافة أشكالها ومستوياتها العسكرية والاستئنافية والعليا، وعدم الاعتراف بشرعيتها، وهي المعركة التي سيخوضها الأسرى مرةً أخرى تحت عنوان وطني، وإن كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأسراها هم من سيبدأون المعركة بشكلها الجديد.

بهذا المعنى، فإن التشخيص والتفسير لما يجري في السجون مهم، فتوضيح وتعريف وكشف الواقع المقموع للحركة الأسيرة يظهر إلى جانبه شكل النضال في مواجهة القمع، وتفسير خطوات وتكتيكات الحركة الأسيرة، وبهذا المعنى أيضاً يمكن من خلال التشخيص والتفسير المفصل فهم تكتيكات المعركة الأخيرة مثلاً.

وهنا يبرز الدور الدقيق في استثمار التشخيص والتفسير في الخروج من حالة الموسمية، وردّات الفعل في مساندة الحركة الأسيرة، بمعنى وضع أهداف واضحة من قبل الحركة الوطنية وكل الأطراف المعنية، يكون على رأسها حرية الأسرى، ووضع الاستراتيجيات والخطط لذلك، وتحويل الخطط لتكتيكات نضالية ومهام من خلالها يتم انجاز الهدف والشعار (تحرير الأسرى)، وتالياً فإن حالة تحرير الأسرى المستمرة "بمعنى تحويلها لجزء من مهام النضال اليومي، سيعتبر حالة إسناد عالية المستوى من قبل الأسرى الذين ستتحرر إرادتهم، وسيصبحون أكثر جرأة في مواجهة سجانهم، بل والأكثر ارتباطاً بمهامهم الوطنية، لنلاحظ مثلاً أن الحركة الأسيرة في ستينيات وسبعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي، تحت وقع عمليات خطف الطائرات والرهائن واحتجازهم، كانوا أكثر مردوداً من الناحية النضالية والوطنية والتنظيمية من اليوم، لاعتبار أنفسهم جزء من المعركة في الخارج، وتالياً تأتي أشكال المساندة الأخرى الجماهيرية والمؤسساتية والإعلامية والحزبية والسياسية، والأخير منها المالي لا العكس، وعلى ذلك يمكن أو من المهم تشكيل شبكة مساندة واسعة تشمل كافة الاتجاهات السابقة، بهذا يتم رفع المواجهة في السجون، وطبعاً حتى الحرية، وليس الانتظار حتى تتحقق الحرية.

بالعودة للمواجهات داخل السجون بين الأسرى والسجان، فهي تتم بعد قراءة واستعداد، وتأمين مستوى عالٍ من الوحدة واللحمة الداخلية، والتنسيق وتوزيع الأدوار، وإن ظهر أن هنالك شكل أو أفراد يمارسون ضغوط متنوعة لمساندة الخطوات النضالية، وعلى ذلك فإن فردية بمستوى معين، وفي حال تعنت السجان ومحاولة الاستفراد الشامل بالأسرى أو عزلهم تنقلب المعادلة.

لنُلاحظ مثلاً أن بند إنهاء العزل هو بند متكرر على جدول أعمال الحركة الأسيرة، واضراباتها، وحواراتها المختلفة منذ نهاية الستينيات، وبهذا فإنه من الممكن أن يتم عزل أسير نتيجة لنشاطه الأمني أو التنظيمي أو الوطني، أو حتى الأسرى الأبطال الذين تحرروا بنفق جلبوع مثلاً، إلا أن قواعد اللعب واضحة بين الطرفين، وموازين القوة واضحة، وقد اختبرها السجان في العام 2019 بعد معركة لجنة أرادن التي جاءت بإجراءات جديدة، وكانت المواجهة شاملة، كما عادة الحركة الأسيرة، حرق أقسام كما في ريمون قسم (1)، أو الطعن رداً على التنكيل بالأسرى، كما في سجن النقب 2019، أو كما في المواجهة الموحدة، وتشكيل لجنة الطوارئ العليا للحركة الأسيرة بعد معركة نفق جلبوع، واجتماع القوى كافة في هذا الإطار الذي شَكلّ وعياً جديداً للدفاع عن الذات أمام هجمات السجان.

إذا محاولة تفكيك البنى التنظيمية وجهت بإعلان الفوضى في السجون، وهو الأمر الذي لا تحتمله القوى البشرية للسجان، فالأمر في النهاية جيش مقابل جيش، وجيش الأسرى أكثر عوداً، وأكثر استعداداً للتضحية، وليس لديه ما يخسره. على ذلك يصبح التنظيم، نقطة التوازن في ميزان القوى، الذي يُشكّل سلطة داخل السلطة في السجون، ولا يمكن تجاوزه.
 

مع كل محطةٍ ومعركةٍ جديدة تُقبل على خوضها الحركة الأسيرة تتعالى الأصوات لدعم الأسرى وإسنادهم خلال هذه المعركة، هل المطلوب -كما يفعل الكثيرين- هو تشخيص وتفسير ما يجري داخل السجون؟ أم نحن بحاجة إلى خطط وبرامج وأفعال عملياتيّة على أرض الواقع، وكيف يتم ذلك؟

بخصوص الدور التضامني العام مع الأسرى، هناك جهود ومحاولات، تقوم بها القوى والأحزاب والمؤسسات، لكنها تفتقد إلى الجهد المنُظم والدؤوب والمُستمر، كما أنها تفتقد للهدف والخطة، والتنسيق، بهذا المعنى هنالك غياب لاستراتيجية وطنية لطبيعة التعامل مع الأسرى، وطبيعة مواجهة هذا التحدي.

هل المطلوب مَثلاً إنجاز حرية الأسرى؟ أم دعمهم في نضالاتهم لتحسين شروط حياتهم؟ أم بناء ملف قانوني، لقوننة الوضع القانوني للأسير وتعريفه، أو تدويل قضيته؟ مع التأكيد على اختلاف تكتيكات العمل وربما تناقضه؛ فالعمل لإنجاز حرية الأسرى له تكتيكات وطرائق عمل مختلفة عن دعم النضالات، أو قوننة الأسرى، وإيجاد شكل قانوني يؤطر اعتقالهم في إطار القانون الدولي أو غيره.

وعلى ذلك، فإن المطلوب هو اجتماع وطني عام، يؤسس لبناء أو تحديد هدف الحراك الوطني تجاه قضية الأسرى، وفرز القوى المطلوبة لتحقيق هذا الهدف، وتوزيع الأدوار، والتأكد من تكاملها.

وبصراحة، المطلوب تشكيل شبكة فلسطينية عربية ودولية تتضمن إنجاز المهام التالية (الحرية، الدعم - الذي يشمل الدعم الجماهيري والشعبي والمؤسساتي والسياسي... الخ، والبحث في التعريف لمفهوم الأسير في الكيان، والمطالبة بوجود قانون يشملهم، بدلاً من المطالبة كشعار بتطبيق القانون الدولي عليهم)؛ فالمطلوب:

تشكيل شبكة عالمية من المؤسسات القانونية والحقوقية.

بناء الملف القانوني.

التوجه به للمحاكم والمؤسسات والبرلمانات الدولية، والمؤسسات الدولية، وربما محكمة لاهاي.

العمل داخل مؤسسات الكيان، ومع المؤسسات القانونية فيه.

تفعيل القضية، وتسليط الضوء على تفاصيلها ومستجداتها.

إسناد الأسرى من الشكل الذي أسميه الراديكالي من خلال العمل على حريتهم، كما في سنوات الستين والسبعين من القرن المنصرم، وصولاً للدعم السياسي والتأكيد عليه، فلماذا يرافق أهالي الجنود الأسرى لدى المقاومة المستوى السياسي حول العالم، في حين تحتاج أم الأسير لعمل آخر حتى تأتيها الموافقة على مقابلة مسؤول؟ ولماذا تحتاج الأم أن تأتي بوثائق تؤكد قرب استشهاد ابنها حتى تصبح القضية ذات اهتمام؟! ثم أن المطلوب قراءة الهدف من الاعتقال والأسر لدى الصهاينة من أجل بناء استراتيجية مضادة، من حيث كون الاعتقال هدم للمجتمع الفلسطيني، ولأحزابه وشكل انتظامه، واستهداف لمقاومته وشكل حياته وثقافته، بما يجعل الأمر مُلحاً في بناء استراتيجية مضادة، وإلا بقيت المساندة والدعم موسمية، وتخضع للمزاودات الحزبية، وللأسف مؤخراً، هنالك تسليع لقضايا الأسرى، من حيث كون نضالاتهم موسم لبعض المؤسسات والأطراف للعمل وزيادة المردود المالي... الخ.

 

- المشهد الفلسطيني: المصالحة، والمقاومة وتشكيلاتها المستجدة

كيف تنظرون وأنتم داخل قلاع الأسر إلى الوضع السياسي الحالي وانعكاساته على الأوضاع الأخرى في ظل استمرار حالة الانقسام الفلسطيني، خاصة بعد التوقيع على "اتفاق الجزائر" مؤخرا؟ وهل هناك ما يدعو للتفاؤل؟

أنا ممن يعتقدون بأن الشعب الفلسطيني الذي يتوارث قيمة الصبر والتضحية والجَلّد قادر وبكافٍ لتقويض هذا الكيان من الداخل، ثم يحتاج الأمر للملمة الفلسطينيين في بوتقةٍ جامعة؛ فالوحدة ليست ترفاً سياسياً أو فكرياً إنها قانون انتصار "بمعنى تكامل العوامل وتضافر الجهود والقوى وعناصر القوة، والالتفاف حول هدف أو استراتيجية واحدة، تنتج قيادة راسخة".

وهذا ما يجعل من المكان الولوج لمفاصل أخرى أو أسئلة أخرى، كالوضع السياسي العام في ظل الانقسام، لأن أي جهد وأي معركة ستصب في وريد مقطوع، يستنزف دم الشعب الفلسطيني، ويذهبه هدراً في ظل الانقسام.

نأمل، وما زال يحدونا الأمل في إنهاء الانقسام فعلياً، وليس على مستوى الخطابات والشعارات، والاتفاقات التي آخرها اتفاق الجزائر، التي تشير التقديرات إلى كونه، اتفاق آخر سيُركن إلى الرف، ولن يتحول لمبادرة فعلية، فالانقسام خلق فئات وشخصيات وقوى مستفيدة منه، بمعنى تَحوّله لنظرية في السلُطة.

 

كيف ذلك؟

إن الاحتكام للشعب، وإصلاح م.ت.ف وتجاوز انقسام السلطة، سيؤدي للإضرار بشكلٍ مباشر بشخصيات وقوى وفصائل تحكم في الضفة وغزة، وبهذا فإن إنهاء الانقسام يعني تنازل أصحاب المصالح عن حكمهم وسلطتهم، في حين أن استمرار الانقسام يضمن إدامة سلطتهم، وعلى ذلك يصبح نظرية في الحكم، وبهذا يمسي الواقع السياسي الفلسطيني مرهوناً بسقف الانقسام دائماً، وبمصالح أطراف الانقسام خاصةً أنهم القوتين الرئيسيتين لدى الشعب الفلسطيني. فالفاعل الأكبر على الأرض هو الاحتلال وبطشه وعنفه، والفاعل أو ردة الفعل هي المقاومة غزة، والسلطة الضفة، مع التأكيد على أن الطرفين هما سلطتان يعملان لمصالحهما.

تعمق هذه الأوضاع أدى ونتيجة لتحميل القوى السياسية الفلسطينية انخفاض المردود السياسي، وأداء السلطة على الأرض ضفة، غزة، والانقسام، لانفضاض جزء كبير من الشارع الفلسطيني عن الحالة الفصائلية والحزبية، والبحث عن خيارات مقاومة فردية أو جزئية يقوم بها أفراد أو جماعات مستقلة، أو مرتبطة بشكلٍ أو بآخر بأحزاب فلسطينية أو قوى إقليمية مباشرة، خاصةً التمويل، وهذا على جانبي جغرافية المقاومة، في غزة تم استيعاب هذا الأمر من خلال تشكيل الغرفة المشتركة، والتي تمتلك جهد مقاومة يفرغ طاقة المقاومين من قبل القابضين على السلطة في غزة، وكذلك الأمر من خلال ما تسميه دولة الكيان سياسة جز العشب، من خلال الحملات العسكرية والحروب المتكررة والاغتيالات. بهذا المعنى نجحت حماس في استيعاب التطورات النضالية الشعبية، وعبرت عنها بالغرفة المشتركة.

في الضفة الغربية الأمر مختلف، فالسلطة جهاز إداري سلطوي قمعي لديه برنامج تعاوني مع الاحتلال "التنسيق الأمني"، ولديه أجهزة أمنية ذات أجندات مرتبطة بالتمويل، وببعض الأفراد الطامحين للسلطة والحكم. وهذا ما أدى لسخط عارم لا تستطيع السلطة قمعه لمدة طويلة، وهي لا ترغب في استيعابه، وليس في أجندتها ذلك، مما اضطرها لتشديد القمع والضغط والملاحقة للمقاومة. وبطبيعة الحال، فإن المزاج الشعبي المقاوم تجاوزها، وبما أنه حيث ثمة سلطة أو قوة ثمة مقاومة، أنتج الفلسطينيون في ظل السلطة أشكال مقاومة متنوعة ظهرت أخيراً وبشكل جلي في تشكيلات مقاومة في جنين ونابلس، وفي أعمال بعض التشكيلات والعمليات العسكرية لفصائل مقاومة، دون أن يكون لها بعد تنظيمي قوي قادر على الصمود وتوسيع دائرة التأثير.

هناك لا بد من التأكيد على مُعطى جديد متمثل في تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وقدرة مستخدميه على التنظيم والتوجيه والتعبئة والتحريض، مما يساهم في انتشار لهذه الظواهر وانتقال تأثيرها. ولعل هنا الشكل الجديد هو ميزة العمل التنظيمي لهذا العصر، وهو ما يؤهلها لإحداث ثورة أو انتفاضة يمكن أن يعبّر عنها كما حدث في تأثير هذه الوسائل في إحداث ما يُسمى الربيع العربي مثلاً.
 

وبهذا كيف يمكن أن نُقدم القضية الفلسطينية دولياً، طالما هي منقسمة؟ وكيف يمكن أن نُؤمّن لها الحماية العربية، طالما هي مشتبكة؟ وكيف سنعزز بنيتها التحتية وحاضنتها الشعبية ونحن متهمون بالانقسام؟

تراجع البعد الدولي عن القضية الفلسطينية، "إلا في حالات الصراع" كما في لحظة معركة سيف القدس ومآلاتها التي تعيدها على جدول الأعمال الدولي، والتي للأسف مرة أخرى الانقسام يُذهب تلك الفرصة هباءً؛ فالسلطة تصادر م.ت.ف وتحتجزها وتقزمها تحت سقف السلطة الأمني والسياسي، بما يفرغها من مضمونها السياسي، وبُعدها التمثيلي الوطني، بما يُفقد القضية الوطنية الفلسطينية بعضاً من أحقيتها، طالما هي قضية تنازع سُلطات وذات السُلطة أيضاً محاصرة بالمساعدات الدولية المالية. والاختراق الخشن لمجالها، بوجود بسطار الاحتلال على عتبات مقراتها السيادية والأمنية، يُجبر هذه السلطة على مواجهة مظاهر المقاومة، والتنسيق، بما يجعل هذه السلطة برضاها أو مرغمة على مواجهة المزاج الشعبي المناهض للاحتلال، هذا بعد التحفظ بالوصف، وهي فوق ذلك سلطة كأي سُلطة في العالم، لا تريد أن ترى شريك لها في الحكم، وتقدم نفسها كُمعبّر عن الوطنية الفلسطينية، وصاحبة القرار في انجاز المشروع الوطني! مما يضعها في مواجهة مع العمل الوطني. في المقابل "المقاومة" حوصرت في غزة، وللأسف تم استدراجها لمربع السلطة بما يعنيه ذلك من مسؤوليات تأمين المعيشة، وكذلك اغراءات الحكم وغيرها، مما جعلها محاصرة داخل حدود قطاع غزة، ومحكومة بسقف الأوضاع المعيشية في غزة، ومرتهنة لذلك، مع بعض الاستثناءات في المواجهة التي تكون غالباً كردة فعل على اعتداء صهيوني، وعلى هذا هي مقاومة دفاع داخل حدود غزة أو هكذا انكفأت، رغم ما حققته معركة سيف القدس، ومحاولة معركة توحيد الساحات.

الاحتلال يسعى لتكريس الانقسام لتحطيم الهوية السياسية لنا كشعب، واعتبارنا فئات وجهات مختلفة ومتباعدة، وكذلك يسعى لتكريس الانقسام لنزع صفة الممثل الوطني والقومي عن المؤسسة الرسمية م.ت.ف، وللأسف طرفي الانقسام يساهمان في ذلك، وهو ما اعتبر مدخلاً للبحث عن أشكال أخرى للتخلص من القضية الفلسطينية بعد تراجع دور م.ت.ف الدولي لتصبح قضايا، يمكن حلها عبر التطبيع مع الدول العربية، أو ما يُسمى السلام والتعاون الإقليمي الاقتصادي، أو ما تُوج بمسمى "صفقة القرن". فالأمر أن الانقسام يعطل مفاعيل أية استراتيجية، ويقزم أية مبادرات لإعادة إحياء المشروع الوطني أو إصلاحه على أسس راسخة وثابتة ومهمة تضمن شمولها لكافة الطاقات الفلسطينية، ثم أن التعنت السياسي في رفض المقاومة، أو ما يسميه البعض العنف والإرهاب في خطاباته، هو أمر يُعطّل مفاعيل سياساته، فالسياسة في محصلة الأمر تعبير عن ميزان القوة على الأرض، خاصةً أننا في مرحلة حرية يواجه فيها العالم أزمات اقتصادية وعسكرية وأمنية وأزمة طاقة، وتحولات على المستوى الدولي تطال ربما بُنية النظام الدولي، بما يجعل القضية الفلسطينية بدون فاعلية مجرد قضية هامشية، كما أن الأمة العربية تعاني من انقسامات وحروب، ونزاعات وحروب أهلية، هي تراكم لعقود طويلة من غياب الديمقراطية والفساد، والاحتقان في المجتمعات العربية، وكذلك الصراع الذي جعل بعض الدول تطمح في قيادة العالم العربي بدعمٍ أمريكي وبتنسيقٍ مع العدو الصهيوني، كالإمارات ودول الخليج الأخرى، وما يدور بفلكهما المالي، وهو ما يجعلها أيضاً قضية غير مُلحة عربياً أمام أزمات (اليمن، العراق، لبنان، سوريا...وغيرها).

وبالعودة إلى اتفاق الجزائر، من الضروري أن نشير إلى أن "اتفاق الجزائر" هو مرحلة أخرى من مراحل اتفاقيات المصالحة؛ فالمصالحة الحقيقية تكون على الأرض، هناك في القدس وغزة وجنين ونابلس أو في مخيمات الشتات، والمصالحة أو إنهاء الانقسام لا يتطلب توافق فتح وحماس، فهما تنظيمان يصادران الشعب الفلسطيني ومُمكنّاته لمصالح خاصة، وبهذا فإنه يجب مواجهتهم، وتشكيل عناصر ضغط تنظيمية وسياسية وجماهيرية في مواجهتهم. كما أن إنهاء الانقسام يتطلب دمج الجهود الفلسطينية كافة (الداخل والشتات) وتجاوز أوسلو ومنطقه، بل تجاوز مفهوم السلطة كممثل للشعب الفلسطيني. وبالمجمل فإن الصيغة الاحتفالية لتوقيع اتفاق الجزائر، هي لإخفاء الحقيقة التي تقول "أن لا مصالحة حقيقية"، فأين هي المصالحة وغزة وأهلها يعانون من الحصار؟ وأين هي المصالحة ودماء الشباب في جنين ونابلس تنزف؟ وأين هي المصالحة وأبناء المخيمات في لبنان يعانون؟

إن الوضع السياسي والميداني، والوطني لا يحتاج لاحتفاليات مصالحة بل لتداعٍ وطنيٍ عام لمواجهة الهجمة الصهيونية، وحماية الشباب المقاوم الذي يُشكّلون رأس حربة المواجهة في معركة معقدة وتحتاج للجهود كافة.
 

بعد مرور ما يزيد عن 16 عامًا على الانقسام في السلطة وعليها، هل المعضلة الآن هي اختلاف على حكم وحكومات أم أنّ الخلاف أبعد من ذلك بين برامج سياسية ذات أيديولوجيات متعارضة؟

الخارطة الفلسطينية فيها خط واضح يجب الاجتماع حوله هو الشعب الذي عليه أن يُقرر ويحدد، ويحاكم ويُعبّر عن ذاته باعتباره سيد على أرضه، وذلك لا يتم إلا من خلال استراتيجية وطنية تشمل التعبير عن الهوية الوطنية في مواجهة الاحتلال.

بغض النظر عن الانقسام أو ما ترتئيه فتح أو حماس، ففلسطين وشعبها أكبر من ذلك في نهاية المطاف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، المسألة أكبر من مسألة خلاف على السلطة، أو خلاف على برامج سياسية ذات أيديولوجيات متعارضة. بمعنى قد بدأ أمر الانقسام السياسي من خلال هذا المدخل ولكنه تجاوزه، فالانقسام السياسي هو صفة العمل الوطني الفلسطيني منذ الثمانينات تقريباً، ولكنه لم يصل حد الاقتتال والقطيعة السياسية التي بدأت كتعارض برامج، ولكن هذه البرامج قد توافقت، فميثاق حماس الأخير 2018، وافق على دولة بحدود 1967، وتحولت حماس نحو مفهوم التنظيم الإسلامي الوطني. بهذا المعنى لم يعد من الانقسام سوى انقسام المصالح والامتيازات، وإن ظهر بكل الأحوال باعتباره انقسام بين مقاومة في غزة، وسلطة سياسية في الضفة.
 

في الأشهر الأخيرة لوحظ هجومًا عنيفًا من الاحتلال بكافة أذرعه وأجهزته على الضفة المحتلة، خاصة جنين ونابلس إلى جانب القدس على وجه التحديد، كيف يمكن قراءة ذلك؟ وما تفسير الذي يحدث منذ العام 2017 بالذات؟

العالم نفض يديه من القضية الفلسطينية، من حيث إعلان صفقة القرن، التي أصبحت سقفاً سياسياً للحل السياسي، وأصبح الحديث عن حل الدولتين بروتوكولي فقط؛ فالجميع يدرك أن حل الدولتين غير قابل للتطبيق، والحديث يدور اليوم عن "تقليص الصراع، والسلام الاقتصادي" بدعمٍ دولي وعربي، وما الحصار المفروض على غزة، والسلطة مالياً إلا للانحدار أكثر نحو هذا الحل. كما أن الهجوم الصهيوني والإجراءات على الأرض هي لتكريس هذا الحل أيضاً، ومن هنا تأتي إجراءات الاحتلال وعنفه في كل فلسطين.

وبطبيعة الحال لا مقاومة غزة المحاصرة، والتي ذهبت نحو تحسين مستوى المعيشة، ورفع الحصار أو تحسين الشروط من خلال توسيع دائرة الصيد، وزيادة عدد تصاريح العمل، المنحة القطرية، إعادة الاعمار.. الخ، ولا السلطة لديها برنامج عمل، وعلى ذلك يأتي عنف الاحتلال من أجل تكريس الحل الذي يرتأيه باعتباره الفاعل الأكبر على الأرض كما ذكرنا، وبهذا يترافق عنفه مع إجراءات على الأرض، وتطوير لخطابه السياسي، فالأمر لا يتعلق بهجمات صهيونية هنا أو هناك؛ فهذه الهجمات تطال كل شعبنا في الداخل (النقب، الجليل) الذي تقوم بها جهات صهيونية بتجديد الاستيطان فيه، ومصادرة الأراضي، وتعزيز الآفات الاجتماعية والعنف، ومحاولة تطهير النقب، كما عنفها تجاه غزة بكل السُبل والقدس والضفة، وكذلك الأمر إصدار قرار باغتيال فلسطينيين في الخارج. بهذا المعنى ما زال الاحتلال يستهدف الفلسطيني أينما وُجد بعنفه، أما لماذا يوجهه هنا أو هناك هو لعدة أسباب منها تقديره الأمني، وقوة ردة الفعل، والحاجة السياسية، واعتباراته للمعارك التي يخوضها، فمثلاً هو يخوض معركة ديمغرافية ووجودية ضد الفلسطينيين في الداخل 1948، لذا هنالك مخططات تطهير عرقي في النقب والجليل ووادي عارة، واستيطان، وهنالك معركة وجودية يسعى من خلال العنف والمخدرات لتحطيم المجتمع الفلسطيني، والذي يمكن أن يصبح مضاعفاً خلال العشرين عاماً القادمة. بهذا المعنى يفقد الحيز. لنلاحظ مثلاً أن فلسطينيي النقب ما يقارب 750 ألف، ويؤكد طلب الصانع أنهم سيصبحون مليون خلال 10-15 عام وأن فلسطينيي الجليل 470 ألف ويُشكّلون 84% من السكان مقابل 16% يهود، إذا شكل العنف يطابق تحليل الصهاينة لطبيعة التحدي. في غزة طبعاً التحدي أمني وعسكري؛ فالإجراءات الأمنية والعسكرية تحيط بغزة، والجهد لحصاره هو لخفض طموحات المقاومة نحو تحسين شروط الحياة، وهنا تكمن المساومة طبعاً سياسة العصا والجزرة، إضافةً لاعتبار خزان غزة الديمغرافي 2.5 مليون خارج التعداد السكاني الفلسطيني محاطين بجدران السجن، حتى تصبح المعادلة 7 مليون يهودي، مقابل أقل من 5 مليون فلسطيني في فلسطين التاريخية.

أما الضفة الغربية، فيعلم الاحتلال أنها حيز المقاومة الأهم عسكرياً وسياسياً؛ لذا يسعى لتحطيمها وتمزيقها، وخلق حيزات جغرافية حتى يمكن استيعابها ضمن سلطة الاحتلال الدائمة، وبتحويل السلطة لوكيل في الحكم. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الضفة الغربية الخاصرة الرخوة في الأمن الصهيوني، بمعنى مقدرتها على الهجوم بما يصل حد المدن الصهيونية. وبهذا فإن عنفه مضاعف مرتين، ثم أن الاحتلال منذ مدة بعد 2021 يحاول تحطيم كل منجزات معركة سيف القدس أو توحيد الساحات بمعنى كي الوعي أن الضفة وحدها، وغزة وحدها، بهذا يعمد للتصعيد باتجاهات معينة كما يحاول كي الوعي بأن شمال الضفة غير جنوبها، وأن القدس هي حالة وحدها، وكذلك الداخل. لذا من الضروري والمهم التنبه بأن عنف الاحتلال والمقاومة والسياسة والتمثيل، والإجراءات، تستهدف فلسطين بأكملها هكذا يجب أن يكون الخطاب، ثم أن عنف الاحتلال في فلسطين لا يتجزأ بل يُعبّر عن سياسة الاحتلال تجاه كل جزء من فلسطين.

وعلى أيةِ حال، إن الضفة الغربية هي الخاصرة الرخوة للشعب الفلسطيني التي يستطيع الاحتلال إدارة عنفه وهوسه الأمني العنيف تجاه جزء من الشعب الفلسطيني، خدمةً للاتجاهات الانتخابية والمزاودات الداخلية، دون أن يعود ذلك عليهم، كما مثلاً في القدس أو غزة أو الداخل الذي يمكن أن يتحول لساحة مقاومة حقيقية، إذا ما تم العمل عليه ضمن استراتيجية فلسطينية، أو كما في السجون.

لاحظوا أن حكومة بينيت السابقة فرغّت عنفها في السجون، كونها خاصرة رخوة يمكن ضربها دون رد، ولكن ارتباط ساحة السجون بغزة هدأ الأمر، ثم إدراك الاحتلال لحساسية قضية الأسرى لدى الشعب الفلسطيني، وإمكانية توحده عليها، كما قضية القدس، جعله يهاجم الضفة، كما أن الضغط يؤتي أكله على السلطة دائماً، والتي تحت أقل ضغط تزيد التنسيق الأمني.

بكل الأحوال اكتشف الاحتلال ضعفه، فأبو مازن عمد إلى تكتيك التهديد بحل السلطة، وكان لديه برنامج سياسي في الأمم المتحدة فرغه لبيد من محتواه، وحوله لعنف أجبر السلطة للخضوع له، وللضغوط المالية.
 

رغم البطش الممارس على أهلنا في الضفة، إلّا أنّ يد المقاومة تطول يومًا بعد يوم وأصبحت تصيب هذا الاحتلال في مقتل على الحواجز والطرقات والأزقّة، وبروز تشكيلات مقاومة في مختلف مدن ومخيمات الضفة، كيف تنظر لذلك، خاصّة مع استمرار جريمة التنسيق الأمني ما بين الاحتلال وأجهزة أمن السلطة؟

الشعب في فلسطين كلها تجاوز حالة الانقسام، وخرجت فئات وحركات ومنظمات مسلحة وعمليات تجاوزت الفصائل. والعمليات الأخيرة في الداخل لم تكن منظمة وكانت بتنظيم فردي دقيق، وأنتج ذلك عنف أقوى من الاحتلال جابهه الشعب بمحاولة للانتظام (كتائب جنين، عرين الأسود، وكر الصقور.. وغيرها).

إذن، الاحتلال والسلطة كليهما غير راضين عن هذه التطورات، وهو ما جعل الاحتلال مثلا يسحب سياسة جز العشب في غزة على سياسة شبيهة (كسر الأمواج) مع بعض التنسيق والتعاون من السلطة، التي وجدت نفسها محاصرة مالياً، ولم يُعرِ الجانب الأمريكي والصهيوني قيادة السلطة أية اهتمامات، بل لم يجلب لهم أية إنجازات يحفظون بها ماء وجوههم، خفف ذلك من تأثيرهم الأمني، ولكن الأهم أوجد داخل (فتح، حزب السلطة) عدد من القيادات والشباب الغاضب الذين ينضمون لهذه الظواهر ويشاركون بها بفاعلية.
 

هل يمكن لهذه الظواهر الصمود؟

برأيي لا، للأسف هذه محاولات محكوم عليها مسبقاً بالإعدام الميداني العنيف أو الاغراءات، كون هذه المقاومة ليست مجذرة، وليس هنالك قوى تنظيمية تحميها وتضمن استمرارها، وإعادة إنتاجها أمام ضربات الاحتلال، وأمام محاولات "التنسيق الأمني" تصفية هذه الظواهر. فالسلطة ترفضها وتستخدمها، وكذلك حماس تتعامل معها كأدوات، بحاجة لتنظيم أو إعادة تجميع تنظيمي لحماية وتنظيم هذه الظواهر، وإخراجها من فكرها الجهوي المتعلق بجنين أو نابلس أو غزة.

فهذه الحالات كما ذكرنا محكوم عليها بالإعدام، ولأسباب تتعلق بشراسة هجمة الاحتلال، وما يُخطط له لهذه الظواهر، وثانيها أن السلطة في معرض تغيير جذري فيما يتعلق برأس السلطة، وهو ما يتطلب ترتيب أمني على الأرض، بمعنى قد تكون هذه الظواهر هي ما أسميه (تشافي طريق) من خلال تراخي القبضة الأمنية والسماح للشباب المقاوم بالبروز، وكشفهم وكشف طرق عملهم، وثانياً تتطور سياسة كر الأمواج، لجز الرؤوس مما يفسح الجال لترتيبات أمنية جديدة بهدوء يرافقها ترتيبات سياسية على هيكل السلطة وبرامجها.
 

وبكل الأحوال صمود هذه التشكيلات منوط ببعض الترتيبات منها:

تطبيق مشروع المصالحة بالجزائر فوراً، بغض النظر عن البنود الخلافية، وتشكيل غطاء تنظيميًا ووطنيًا جامعًا لحماية هذه التشكيلات وتنظيمها، وإعطائها مضمون سياسي ببرنامج وشعارات.

بروز تشكيل وطني من القوى السياسية من أجل حماية هذه التشكيلات، وتبنيها وطنياً وسياسياً بعيداً عن اللعب على وتر الانقسام، أو سياسة فتح تجاه حماس أو العكس.

وقف التعاطي الانتهازي مع هذه الظواهر من حيث اعتبارها أدوات بيد طرف ضد آخر، بمعنى الاكتفاء بالتمويل وبعض التسليح، والتوجه فوراً على المعركة بدون تأخير في حال مهاجمة هذه التشكيلات، ارتباطاً بنتائج معركة سيف القدس، أو معركة الساحات.

وهذا يتطلب دمج هذه التشكيلات بالغرفة المشتركة، والإعلان عن وقوع هذه التشكيلات في إطار الحماية من قبل غزة، وربما بعض من يمولون كحزب الله/ الجهاد/ إيران. وهذا سيجعل المعادلة مختلفة، من كون مهاجمة هذه التشكيلات سيُغرق الكيان في حرب شاملة، ولا يسمح بالاستفراد بهم، بل العكس. وهنا نقصد أية مقاومة حقيقية، بمعنى النقل الحقيقي للمعركة نحو الضفة بمشاركة غزة، فليس النقل الانتهازي للكسب السياسي الداخلي أو المزاودات، أو التوريط، أو تخفيف الضغط عن غزة؛ فالمطلوب تشكيل قيادي ببرنامج سياسي، وهو أمر سيعطي الثقة للتشكيلات، وللشعب بتوسيع المشاركة والذهاب نحو الانتفاضة. ولعل هذا الشكل سيؤتي أكله على الأرض، من حيث فرض القضية الفلسطينية كأولوية ملحة تتطلب العمل السريع على حسمها، ولحماية المشروع الوطني ككل، ودمج هذه التشكيلات وحمايتها، وضمان استمرارها.
 

ما هي رسالتكم التي توجهونها من فرع السجون لجماهير شعبنا الفلسطيني في داخل وخارج الوطن؟

بدايةً، لا بد أن تكون بتوجيه التحية والتقدير والانحناء احتراماً لشعبنا في كافة أماكن تواجده، ذلك أن شعبنا يواجه مؤامرات استعمارية، لها بُعد عربي ودولي، لوحدة تقريباً، فمشروع الكيان على أرض فلسطين، ليس ضد الشعب الفلسطيني فقط، وأعمى وأخرق من لم يكتشف بعد الدور المنوط بالكيان الصهيوني، عربياً ودولياً أيضاً. إذا رسالتنا أن شعبنا يقوم بمهمة الدفاع عن الإنسانية في مواجهة قوى الاستعباد والقهر والاستعمار منذ أكثر من قرن، ولم يكل بدليل مقاومته المستمرة، وبكافة الأشكال أينما تواجد فلسطيني، وعلى ذلك فإن رسالتنا الأولى لشعبنا، أن المقاومة هي أحد ركائز الهوية الوطنية الفلسطينية، فلا يجب التخلي عن الهوية، أو أن نسمح لها بالضعف والترهل، ثانياً أن هذه الهوية هي هوية الأمل، والمستقبل.

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن معركتنا نحوضها متأكدون من حتمية النصر، ومن وقوف التاريخ والمستقبل إلى جانبنا، ذلك أن عدونا واحتلاله لأرضنا هو عكس منطق التاريخ.

ثالث الرسائل، أن الوضع الراهن ليس بوصفة مناسبة لتحليل المستقبل، بمعنى أن حالة الترهل التي تعاني منها الحركة الوطنية، ومحاصرة المقاومة والانقسام والتطبيع، وإدارة الظهر للقضية الفلسطينية دولياً وعربياً، ليس هو ما يحدد مستقبل نضالنا وقضيتنا ووجودنا، بل مقاومتنا التي تراكم عناصر القوة التي يمتلك شعبنا، أحد أهم عناصره في العصر الحديث، الإيمان، والاستعدادية، والتضحوية العالية، والثبات على الأرض والصمود، وبقاء جذوة المقاومة؛ بل واسنادها رغم كل المؤامرات ضدها.

رابع الرسائل، أننا كشعب علينا التأكيد على الهوية السياسية لنا كشعب في كافة أماكن تواجد شعبنا، ففلسطين لها حدود تتسع حيثما وُجد فلسطيني، لذا علينا البحث عن روافع هويتنا الوطنية، وإعادة شحذها والتعبير عنها بفخر. ثم علينا أن نعيد تهوئة رئة المشروع الوطني وممثله السياسي المُعبّر عن وحدة الشعب الفلسطيني م.ت.ف، والتأكيد على إصلاح أدواتنا السياسية، وتجاوز الانقسام شعبياً وسياسياً، ونضاليا ًوجماهيرياً، والانقسام لا يُفرض من الأعلى عبر مصالح هذا الطرف أو ذاك، بل يمكن للشعب أن يتجاوزه بتراثه ونشاطه ونضاله وفاعليته، فلا يمكن لحزب مهما كان من مصادرة شعب أو قوته واخضاعه لمنطق مصالحه المتمثلة بالانقسام.

والرسالة الخامسة، أنه رغم ما يبدو عليه ظاهرياً من قوة للكيان إلا أنه كباقي المجتمعات الاستعمارية هش، ومنقسم، وغير قابل للحياة؛ بل أن مُمكنّات الانتصار عليه واضحة، ولكن هذا بحاجة أولاً، لفكر، ثورة، ومفكرين، وبحاجة لجهد وفاعلية ثورية ضمن استراتيجية تجمع كافة الفلسطينيين المسنودين من شرفاء العرب والعالم.

 

- المشهد الإسرائيلي: انتخابات الكنيست، والاستعصاء السياسي، والمشاركة العربية

في ضوء تطورات المشهد السياسي في دولة الاحتلال، كيف تقرأ هذا المشهد؟ وهل نحن أمام استعصاء سياسي داخل النظام؟ أم هي حالة ديمقراطية تحافظ على دورة حياة النظام وتقدمه؟ وما هي الكلمة التي توجهها لجماهير شعبنا في الداخل المحتل عام 1948، خاصة وأن استطلاعات الرأي ترجح أن نسبة منها عالية ستقاطع انتخابات كنيست العدو؟

إن الحضور الفلسطيني في قلب المشهد الصهيوني لهو دليل على أن الصهيونية في مأزق، من حيث اضطرارها للتعامل مع الفلسطيني رغم كل المجازر والتطهير العرقي، وعقود من الانكار، بل أن الفلسطيني برأيي هو من يحدد صيغة الحكم في الكيان، وكافة الاستراتيجيون الصهاينة والمحللون الأمنيون يؤكدون على ذلك، لذا تدار حرب خفية وشرسة ضد أبناء شعبنا في الداخل المحتل.

نعم هي حالة استعصاء سياسي تؤسس لما بعدها، من حيث تغير المفاهيم لدى الصهاينة، ومن حيث ضرورة التنبه من قبل الفلسطينيين لذلك الأمر. نلاحظ أنه بعد 74 عاماً على إقامة الكيان، وارتفاع نسبة اليمين المتطرف فيه، يضطر هذا الكيان الاستعماري للرضوخ للحضور الفلسطيني في قمة الهرم السياسي بغض النظر عن رفضنا لهذه المشاركة الفلسطينية في النظام السياسي للعدو وبرلمانه، كما أن كل المحللين يؤكدون أن انخفاض أو ارتفاع نسب الاقتراع لدى الفلسطينيين هي من تحدد نتيجة الانتخابات أو أن انفضاض الفلسطينيين عن المشاركة أو العزوف سيؤكد الهوية الفلسطينية، وسيذهب به نحو خيار تأكيد الذات.

وهنا فحوى الرسالة التي يمكن أن نوجهها لشعبنا في 1948 الذين نبرق لهم بتحية خاصة، ونؤكد لهم أن الكيان الذي حاول إذلالكم وأسرلتكم وتشويه هويتكم الوطنية والقومية – وأعتقد أنه نجح في بعض ذلك – ما زال مصدوماً وغير قادر على التعامل معكم من جديد، على اعتبار أنكم لُب الصراع، والقوة الضاربة الأساسية في أيةِ استراتيجية وطنية فلسطينية لهزيمة المشروع الصهيوني، وهو يهابكم ويهاب وحدتكم وقوة فعلكم، كما ظهر في أيار/ مايو/ 2021.

هذا الفعل الذي يؤكد الذات العربية الفلسطينية، ويجعلها نداً كهوية، قادرة على الفعل، وليس الانتخابات أو المشاركة في برلمان العدو (الكنيست) أو الحكومة هي التعبير السياسي لهذه الدعوة، متاحة اليوم لأكبر مقاطعة للكيان برمته، وليس انتخاباته فقط، وإعادة تشكيل قوة سياسية تقرأ واقعها ومُمكنّاتها، وتخلق حلقة وصل بين مهام النضال وواقعها؛ فالاحتلال يتربص بكم في النقب والجليل وعلى كل ذرة تراب في فلسطين، يحاركم بدناءة من خلال العصابات والإجرام والمخدرات، هادفاً لتحطيم المجتمع الفلسطيني الذي تمرد. وعلى ذلك، فإنني أشير لقضية ملحة، وهي ضرورة رد الكيد الصهيوني بقوة، أو كما يقول المثل الصيني (استخدم قوة عدوك ضده)؛ فالجريمة المنفلتة في المجتمع العربي هي تعبير غير واعٍ عن رفض النظام والقانون والدولة والمجتمع، وانتشار السلاح أيضاً جريمة صهيونية لاستهداف المجتمع الفلسطيني.. لذا آن الأوان أن يتَحوّل إلى سلاح مُسيس وتعبير واع عن رفض الاحتلال.

فلا يعقل أن يقُتل المئات، ويُعتقل الآلاف تحت مسمى الجريمة، فيما يمكن أن يدفع المجتمع ذات الأثمان في حربٍ وطنية قومية وتكون لهذه الأثمان معانٍ سامية، بل أن حرب الجريمة والقتل والمخدرات هو بفتح جبهة داخلية ضد العدو، مما يُحوّل اهتمام وطاقات ونشاطات المجتمع النشط والفاعل نحو العدو الحقيقي؛ فالعنف غير المنظم أو غير الواعي كما أشار له فرانز قانون هو تعبير عن عنف هزيمة تجاه أفراد المجتمع، ولكن حين يتم تنظيم هذا العنف وإعطائه مضمون يتحول لثورة.

 

ربطًا بالسؤال السابق، كيف ترى المشهد الانتخابي القادم في دولة الاحتلال الصهيوني؟

لعله من الصعب جداً تقدير الموقف بخصوص الانتخابات الصهيونية، وذلك أن دفة الانتخابات الصهيونية، قد انقلبت نحو اليمين، ويمين مركز، لتشرذم قوى ما يُسمى اليسار في المجتمع الصهيوني، وتَتحوّل هي والكتل "العربية" إلى كُتل مانعة، تفرض حالة اللااستقرار سياسي، وهي حالة تكررت لأربعة مرات، رغم كل التطورات على المجتمع الصهيوني في الأربعة الأعوام الأخيرة. بهذا المعنى، فإن محددات الانتخابات الصهيونية لم تعد الحالة الأمنية فقط، والتي كانت كفيلة بحسم أية انتخابات من خلال أية عملية تصعيد صهيوني، وكذلك الأمر تبلور المصلحة الاقتصادية كأولوية في هذا المجتمع، خاصةً مع تطورات "أزمة كورونا" وتأثير الحرب في أوكرانيا، والتضخم العالمي.

وبكل الأحوال ما زالت نتائج استطلاعات الرأي تُسم المشهد الانتخابي بين المعسكرين. الفلسطينيون هم من يحددون طبيعة الحاكم في المجتمع الصهيوني في ظل اشتداد المنافسة اللامبدئية من الناحية الصهيونية، وذلك بشقين: إذا ما شاركت قواهم وتجمعوا سيُشكّلون قوة مانعة تفرض نفسها في "الكنيست" على يسار السياسة الصهيونية، وهذا بسبب طبيعة التعقيد في المجتمع الاستيطاني، فلا يسار حقيقي هناك. إذا لم يتم تعريب اليسار في الكيان لأن الفلسطينيين هم الأكثر اضطهاداً قومياً وطبقياً، ويُشكّلون الفئات الأشد فقراً وبؤساً في الداخل، ومُمكنات توحيده وتطويره، وإعادة بنائه، ودمجه في الإطار التمثيلي للفلسطينيين ككل، وفي القيادة العليا للشعب، وإنتاج قيادة قومية أمر غير واضح رغم محاولات وجهود بعض المثقفين، وفي الحقيقة يقع هنا أيضاً دور على الأحزاب الفلسطينية مجتمعة عبر إطار تمثيلي أو منفردة.

صحيح أن المرحلية تتحدث عن الهدف التكتيكي، ولكن تغييب فلسطينيي الداخل، وعزل قوة تأثيرهم في المعركة وتهميشها دفعهم باتجاه "اعتبار الكنيست"، مدخلاً لإطار نضال قانوني حقوقي... الخ، ولكن هذا المشروع بانت ملامحه، وسقفه الأعلى محكوم من قبل الصهاينة باعتبار الفلسطينيين دائماً خارج الإطار الرسمي، مهما تطرفت محاولات البعض في محاولة الاندماج كالقائمة الموحدة / منصور عباس، أو بعض الشخصيات التي تخوض الانتخابات على القوائم الصهيونية كافة.

بالمجمل، لا تغيير على الخارطة الانتخابية الصهيونية عموماً، ولا على الخارطة الانتخابية العربية الفلسطينية سوى تشرذم الصوت العربي، وعدم جرأة أي طرف بالاستدارة نحو إعلان برنامج شامل لمقاطعة مجتمع الكيان، وليس فقط الانتخابات، كقائمة بلد/التجمع، التي لا تحصل على نسبة الحسم، ورغم ذلك تُعبّر عن ضرورة حضورها كمناكفة للقوائم، وهنالك أيضاً أمر لا يخفى وهو تأثير التدخلات الرسمية الفلسطينية، والعربية على البعض هناك.

في الحقيقة أن الكيان أعد نفسه جيداً للمواجهة الخارجية، أو النظامية، وهو الأمر الذي استغرق فيه كثيراً، بمعنى اعتبار أن المعركة القومية النظامية وقوة العرب هي الخطر الوجودي الحقيقي عليه وهو مُحق في ذلك، ولكنه أغفل التحديات الداخلية، وخاصةً القدرة الفلسطينية الشعبية على إحداث ضرر حقيقي للمجتمع الصهيوني من الداخل، وهذا الإغفال سببه: الغرور وعقدة التفوق التي جعلته يحتفظ بأراضي العام 1967، وارتفاع تأثير اليمين وتحديداً الديني بعد العام 1967، الذي يرفض التنازل مقابل توسيع دائرة الاستيطان، وانخفاض كلفة الاحتلال وديمومة احتلاله، خاصةً مع نجاح مشروع أوسلو لبعض الوقت، إضافةً لغرور الانتصار.

لقد بدأت أزمة الكيان تتعمق منذ العام 1987، بعد اندلاع الانتفاضة الكبرى والتي اقتربت ذكرى انطلاقتها، وذلك حين اكتشف مجتمع الكيان "اليهودي" بحسب قوانينه "يهودية الدولة" وقانون القومية، أنه مضطر للاحتفاظ بملايين الفلسطينيين تحت سيطرته، وهو الأمر الذي وصل حد التوازن الديمغرافي في إطار فلسطين التاريخية، فقد خرجت منذ ذلك مشاريعه الجزئية، مشروع أوسلو، والانفصال عن غزة، الذي كانت أحد الدوافع له التخلص من الكم البشري في إطار جغرافي ضيق، وإخراج غزة تماماً من الحيز الفلسطيني المحتل، وربما إمكانية تَحوّله لدولة مقابل تفتيت مجتمع الضفة، وتمزيق جغرافيته، وتفريغ مواطنيه وضمه.

 

- المشهد العربي: لبنان والاتفاق المائي مع العدو، وموقع حزب الله

جرى مؤخرًا توقيع اتفاق بين الكيان الصهيوني ولبنان، يتعلق بالحقوق المائية، وما تختزنه من حقول غاز ونفط، كيف تقرأ هذا الاتفاق؟ وما هي أبعاده؟ ومن المستفيد منه؟

لعل الاتفاق بين الكيان الصهيوني ولبنان هو ميزة يمتاز بها الوضع العربي، من كون أن الحرب في أوكرانيا، ومحاولات أمريكا عزل روسيا، والضغط عليها تمهيداً لكسر شوكتها، قد جعل أوروبا في مأزق تحاول أمريكا إخراجها منه، أو معالجة الأزمات الناشئة عن الحرب، وسحب ورقة التهديد الروسي لأوروبا بالغاز والطاقة بإيجاد بدائل سريعة وسهلة وقريبة، وبهذا الإطار يأتي مشروع تخريج اتفاق الغاز بين لبنان، والكيان الذي يود استراتيجياً بالاحتفاظ بمكانته الاستراتيجية في السياسة الأمريكية، واعتبار ذاته مصلحة أوروبية ارتباطاً بنشأته ودوره ككيان استعماري وظيفي لحماية مصادر الطاقة، والتجارة وطرق الملاحة، ومعالجة أي تهديدات، فهذا الاتفاق يعزز هذا المفهوم ثم أنه يصب في مصلحة أوروبا في لبنان أو الرؤية الأمريكية للمنطقة، باعتبار الكيان قادر على المعالجة الأمنية، وله بعد سياسي يستطيع عقد الاتفاقيات السياسية (الإبراهيمية) والاقتصادية، وهو ما يؤهله لإنجاز مشروعه (السلام الاقتصادي)، في حين تحاول روسيا بدورها انجاز مشروع غاز يضمن استمرار توريد الغاز الخاص بها عبر الاتفاق مع تركيا لإنشاء حوض غازي، وربما بمشاركة قطر.

ولعل الدول العربية النفطية تنبهت لدورها ( السعودية في أوبك) وقطر التي تحاول ترسيخ علاقتها مع (روسيا، الصين) وغيرها.

إن الاتفاق مصلحة استراتيجية للكيان وأوروبا، وأمريكا في هذه اللحظة بالذات.
 

برأيك، إلى أي مدى سيصمد الاتفاق بين لبنان والكيان؟

سيصمد طالما هو مصلحة اقتصادية، وأداة تحييد أمنية في مواجهة تهديدات حزب الله، بمعنى أن حقل الغاز اللبناني "قانا" خاصرة رخوة يمكن أن يُهدد بها حزب الله مقابل تهديداته بتعطيل إمداد الطاقة حول العالم، لاحظوا أن تهديد حقوق الغاز الصهيونية، له مغزى، لإمدادات الطاقة في البحر المتوسط والشرق الأوسط كله، في ظل استمرار الحصار على إيران مثلاً، وعودة الحوثيين لتهديد البحر الأحمر. فهذا الاتفاق يسهم في تخفيف الضغط على إمدادات الغاز والنفط، ولعل اليمين ينتقد المشروع، وقد يستخدمه في حال عودته للحكم من أجل التعطيل والابتزاز والمراوغة المعهودة لنتنياهو، إلا أن هذا سيجعله في مواجهة مع أمريكا.

ويمكن تعطيل الاتفاق نهائياً في حال تراصفت المصالح الانتخابية بعد الانتخابات الأمريكية، بحيث يخدم التعطيل كلاً من الكيان والجمهوريين في أمريكا، وبعض الدول العربية الداعمة للجمهوريين، كالسعودة مثلاً. فقد تحدى نتنياهو مثلاً الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، ولعل إصرار أمريكا على هذا الاتفاق الآن هو رد الصفعة لنتنياهو.

 

- المشهد الدولي: الحرب الروسية – الأوكرانية؛ التداعيات والتطورات

الحرب الروسية الأوكرانية، ما زالت رحاها دائرة، وتحمل مجرياتها وتطوراتها العديد من الأبعاد، فما قراءتكم بشأنها؟

في كل الأحوال فإن الحرب الروسية – الأوكرانية لها تداعيات جيوسياسية عالمية على النظام الدولي ككل، والتغير في بنية وهيكلة هذا النظام لصالح الشرق، إذا ما استطاعت روسيا إحراز النصر بالتنسيق مع الصين، فهزيمة روسيا سيجعل تغول السياسة الأمريكية أشد شراسة.

وبكل الأحوال مدى واتساع وإمكانية استمرار هذه الحرب منوط بقدرة روسيا على الصمود والتأثير، وبناء التحالفات الحقيقية حول الطاقة، وإعادة ترتيب الأمن في الشرق للضغط على أمريكا، فمن البداية ظهر أن الحرب في أوكرانيا هي حرب استنزاف لروسيا، وقطع لطرق الإمداد التجاري التي تهيئ لها الصين لغزو العالم تجارياً، بما يجعل الصين تنتقل إلى مفهوم القوة الاقتصادية الأولى عالمياً. وعلى ذلك، فإن هذه الحرب ستطول، وما سيحسمها هو قدرة أمريكا على إعادة ترتيب سلاسل التوريد والتجارة العالمية للغذاء، والطاقة وترتيب العالم بالتحالفات التي يمكن صياغتها خارج دائرة الفلك الأمريكي.

وبالخلاصة، لهذه الحرب نتائج ستحدث تغيرات جذرية، ذلك أن قوة أساسية في العالم ستخرج إما منتصرة وتفرض شروطها أو مهزومة قد تقبل بشروط الهزيمة، أو تقدم على خطوة انتحارية والتهديد باستخدام السلاح النووي.

بكل الأحوال، أيضاً معظم الدول بما فيها العربية، تعيد نسج علاقاتها وأدوارها من أجل التهيؤ للمتغيرات العالمية وبداية تشكل نظام متعدد الأقطاب.