من رسائل الأسير إصرار معروف من سجون الاحتلال

لا تهديني ألماً مذكراً بكل ذلك

images.jpeg
المصدر / غزة-السجون-حنظلة

عذراً كميل أبو حنيش

وفي ذلك اليوم لم نسر بعكس عقارب الساعة بل سرنا معها عراة نتغطى بأملٍ وألم، عليك أن تخبر ( ح.ب) فهو يقبع معك الآن بالسجن نفسه، ونحن على مقربةٍ منكم، يعلم أننا لا نرضى بأن نكون مِن مَن تغطي عورته الأيام، فمن يفعل ذلك يبقى عارياً، نطوف حول الأحلام في تلك المسافة الصغيرة الشبه الدائرية لا يتجاوز قطرها عشرة أمتار، الساعة الرابعة هي الأخيرة قبل أن نعود لنفترش الذكريات والحنين في أبراشنا التي اعتدنا من خلالها أن نتمرَّد بلباقة،

فكان محمد الديك( أبو الصابر ) بابتسامته الهادئة المخفي خلفها انفجار كوني لم ندركه كحامله، يقاتل معي في مملكة الذكريات يشفي ألماً يستنشق معي رائحة الموت والحياة..

يذكرني أننا أحياء ولسنا على قيد الحياة، فقط يرافقني في شريط الذاكرة يحمضه بدقة تحت خيوط الشمس المنكسرة ألماً من السياج المخطي فوقنا، صورته في يوم ذكراي قد سرنا أن شرع الباب دفته لنا ليجتازني بعدة خطوات وكل يوم نفعل ذلك.

 لكن قد سرنا في الاتجاه لنبدأ من اليسار نحو اليمين ولذلك أعتذر أننا سرنا عكس ما كان يجب، ففي هذا التوقيت قد اعتاد أن يكون هناك من يرافقه وهو يلقي بجسده فوق الأرض ويعلق ذراعيه على الحائط ضاغطاً بجسده على كل ألم خلال ثواني السير، يتنهد كاتماً فوق جراحه ومن ثم يطلق ابتسامته، كنتُ اراقبه بدقة وهو يفعل ذلك.

وأخشى من محاولة أعبث بها بما يدور بداخله لكنه اليوم تنهد دون أن يفعل شيء حتى أن يهرول قليلاً تحضيراً لروحه الملقاة للموت ولم يخلع ساعة يده و الإسوارة الفضية كان ذلك سبباً في أن أسأل لماذا لم يفعل ذلك فقد أوضح لي أنه اليوم استراحة، فقد أعد للحياة بالموت كثيراً وللحرية من رائحتها والحنين ما يملىء صدره، طلبتُ منه أن ينتظر حتى نحاذي بعضنا و كان بالفعل ينتظر أن أجتاز تلك الخطوات لأصله، كان هناك ما يستدعي بأن يجيب عليه،

ما ورد اليوم على غير عادة مجيباً ينظر خلفه دون أن يحرك باقي جسده بأن عليَ أن أتبعه وبدأنا بالسير سوياً دون تردد فاليوم كل شيء مختلف لأحاذيه مُلقياً كلماته الدافئه فوقي لأشعر بدفء أكثر،

 

- اليوم عيد، امشي نكزدر

 

لتخرج ابتسامة مع أنفاسه الهادئة كنت قد علمت عن ماذا يتحدث عن الثمانية عشرة أعوام التي قضاها هنا ما زاد من عجزي أمامه لأبقى دون رد فقد أتى إلي هنا وهو في سن الثالثة والعشرون أي في السن الذي أكملته اليوم معه، ابتسمت لأنني أحاذيه، نفس يوم كهذا في ذكرى ميلادي استمع لصوت انفاسه وخفقات قلبه تقرع جدران الخزان ، ما يجول في خاطري هو شيء واحد فقط فأنا اليوم في هذا السن قد خضت تجربة قصيرة هنا لها تاريخ انتهاء حتى تجربتي بالأعوام الثلاث والعشرون التي انقضت لم تكن كما كان هو فقد أتى إلى هنا كما أخبرني مسبقاً لأتذكر قوله عن بداية جديدة له لمنعطف آخر في حياته، كان في مركز التحقيق وفي إحدى جولات التحقيق وسأله المحقق انه إن كان قد تحقق من السيارة قبل أن يطلق الرصاص صوبها إن كان بها أطفال فماذا سيكون موقفه أمام نفسه وأمام ما ستتداوله وسائل الأعلام، لكن لم يكن كذلك وقتل اثنين وقد طرزت أجسادهم وسياراتهم ما رماهم به ولتكن اجابته على هذا دون ان يعترف قائلاً :

- مش مهم الناس تشوف شو بقتل المهم أنا اشوف مين بقتل.

هذه الكلمات ما زال صداها يتردد لي كلما نظرت إلى عيناه.

كنت قد وجهت أنظاري نحوه أكتر من ما وجهتها للأمام إلى أن اقتطع علي خلوتي معه..

- وين سارح، (ليعلق بها ظرافته )

- ولا عشان كبرت، (وقد اطلقت ضحكة غلبها صوت ضحكته ، وبعد حين )

-اي نعم يوم متل هاد مش عادي بالحياة بطلع فيه الواحد لورا و قدام بس عاجز اطلع وافكر.

- -شو مشغل بالك

- فيك، وهي لأول مرة بتجرأ احكيلك انه لما بشوفك وبشوف اللي متلك بخجل من حالي وحياتي وبتجنب أحكي بأي شيء بتعلق بعمر أو وقت.

- بالعكس لازم تحكي وخصوصا اللي، نظرت نحوه بعينان تبرق رداً على نظرته الصلبة

- لا قادر احكي بزمان ولا بمكان،

قلتها بجهوزية لمعركة حوار مؤلم لكنه اخمدها بيداه التي ربتت فوق كتفاي وقبلة اطلقها على جبيني ليعود تاركاً يمناه على كتفي الايسر قائلاً :

- بتقدر، أنا عيد الميلاد لا جوا السجن ولا برا أفرق معاي.

- عاد جوا ممكن يفرق، ممكن يفرق أكتر، اشي بسيط بس بخلي الواحد ينتبه أكتر ويصير يشوف الناس أعمار وارقام، بس هات احكيلي انتا ليش قبل ما التاني يفرق معه وعنا بالدار جديد صرنا نهتم، تبها التفاصيل صرت أشعر انه في تاريخ لازم الواحد يستناه كان أولها ب اعتقالي الأول كنت شبل بستنا اليوم اللي اكمل فيه الثمانية عشر عاماً لأخرج من قسم الأشبال وانتقل ع القسم اللي موجود فيه أخوي ونعيش سوا بنفس القسم ونفس الغرفة، وقتها عملولي استقبال وعيد ميلاد، وهي الأيام رجعت واتزكر هيك مناسبة و شباب تعمل نفس الإشي وخصوصا أنه يكون نفس الشخص يلي كان معاي وقتها اليوم معاي بذكرى جديدة، كنت قاصداً ذلك عن (قسام البرغوثي) فكنا قد اجتمعنا قبل أعوام في غرفة واحدة كان يعد لعدة أيام باقية له هناك واليوم قد تغير كل شيء حتى انتظاره هنا وتغيرت معالم السجن، أشخاصه، الأعمار ، الملامح، الألم، الأمل مجيبًا لي أنه جاء ذكرى في يوم كهذاكل ذكرى إلها أهلها زي ما كل حدا إله ذكرى

- صحيح

- طب شو نجيبلك هدية بها المناسبة ؟

- معرفتك هدية العمر

- دشرنا عاد

- كل عام وانتا بخير منك بتكفي

- اسمع أنا ما عملت زي الشباب وجبت اشي على خاطري، قلت انتا بتطلب، يعني هم اليوم عملوا اللي عملوه وجابولك أغراض من الكنتينا بس أنا بدي انتا تقول شو بدك

- انك معاي بكفي ومش كل مناسبة لازم يكون في هدية وجود حدا منيح جنبنا أحسن هدية واحنا لازم نهديهم ونشكرهم على وجودهم.

- صحيح بس ما تمسك اذا قلت صحيح وتصير انتا اللي بدك تهديني

- هو اه بس مش هسا

- لا هسا ولا بعدين

- طب اسمع شو الهدية بالأول

- هات لنشوف، كان يود التخلص من هذا النوع من الحديث بعد أن قبضت على ساعده الأيسر لنتوقف عن السير قليلاً ونكمل بعد أن قلت له:

- بس أروح بعد ما أزور الحجة راح ابعتلك معها بأول زيارة أواعي إلك

- بتتخوث علي قاعد، ابتسمت له طالباً منه أن يستمع لباقي الحديث فكنت أعلم أن والدته تحضر له ثياب ذات الاكمام المغاطية و هو لا يحب هذا منها لكنه أمضى ثمانية عشر عام يقبل بها لأنها منها كما أنها هي لا تقبل بأن يحضر له أحد غيرها، يلتقط بعض القطع من أصدقائه بالسجن بألوان وأحجام ونوع القماش الذي يفضله، قد شرحت له سبب ذلك وكيف سأقنع والدته دون أن أعبث بمشاعرها واقدمها لها لتخرج بها في صباح ينذر بالأمل وتصل قاعة الزيارة وتدخلها له وقلت له بعد ذلك:

- انتا قلت احكي وهي حكيت

- صحيح بس مش هيك طلب بعدين قلة أواعي عندي.

- وإن كان

كنت أضع يداي في جيوب سترتي وكان هو صدفة يرتدي مثلها قد أعطاها له أحدهم أما أنا فقد أرسلت لي قبل عام نصف وأنا في معتقل عوفر، قد أرسلها لي شقيقي من سجن النقب الصحراوي في أولى أيام اعتقالي مع أحد أصدقائه المنتقل إلينا هناك، ليصل متأخراً فلم يجدني وقد سأل كثيرً وأجابوه إني في إحدى مراكز التحقيق وبعد ما يقارب الـ٧٠ يومًا خرجت لأعود إلى المعتقل فحمل لي أحدهم (عصام حامد) في كيس أخضر اللون بدلة رياضية كتب عليه اسمي واسم المرسل (رأفت القروي)، التقطتها منه ليخبرني أن أحدهم هنا في قسم آخر كان ينتظر عودتك وقد علم أنك وصلت اليوم وأرسل لك هذه، كانت البدلة من بنطال وسترة ذات سحاب ، لا تناسب مقاسي أبداً لكنني استطعت أن أتكيف بارتداء السترة وقدمت البنطال لشقيقي الأخر (أيسر معروف) وقضيت ما تبقى من أيام وانا أرتديها؛ فكنت أنا وأبا صابر لنا ذوق مشترك نفضل الشيء ذاته في ردائِنا كان يعلم جيداً بداخلي كما أنا، ليرضى بذلك بعد أن أخبرته كيف نرى هنا أطياف أحبتنا عندما نشتم رائحة ثيابنا لنجد رائحتهم بها ليعود بموافقة وسؤال جديد

- طيب ماشي، بس برجع بسألك شو بدك هدية مني هات قول ؟

- نجتمع برا

مشيراً بإصبعي نحوه يحدث بركانه بكل أمل ، لم يستطع أن يجيب فقد أخمدت نيرانه، لكن بقي لا يزال ما بداخله يطرق على جدرانه بأنه يريد تقديم شيء ما بيوم كهذا، كان يحاول أن يهم بالحديث أراقب شفتاه، عيناه، حركة يداه كلها تتحدث، لكنه لم يستطع، لنمضي ما تبقى من الوقت ندور في فلك واحد، قد تحدثا كثيراً بعدها ليقطع علينا الحديث من أحدهم يخبرنا أن نعود إلى غرفتنا يصرخ مكرراً

- تصبحوا على خير يا شباب الجميع على الغرف

- سجن نفحة

"عذراً أبا صابر فلم تكن أيام الحرية طويلة لأزورها وأرسل لك معها ثياب ترتديها في كل أيام الفصول لم يسعفني الوقت فقد أعادوني هنا قبل تحقيق الوعد، لأتذكر في كل زمان ومكان أنه علينا أن نرتدي للموت والحياة الثياب ذاتها وعلينا أن نتهندم جيداً كي نحسن المواجهة وعلينا أن نرتدي الأمل للحياة ونخلع الألم للموت.."

سجن النقب