كتب الأسير شادي الشرفا من زنزانته في سجن جلبوع..

نحو عصيانٌ مدني

cb831d390b52888707cbf46367b77abe.png
المصدر / السجون-حنظلة

 وأخيرًا نطقها..أعلن سيادته أنه "جلالته" وأنه صاحب الملك دون المملكة، وأنه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة. ها هو يبشرنا بإرادةٍ ربانيةٍ تقمصته، وألوهية متجسدة في مقاطعته، بأنه ناطقٌ بلسان الرب على الأرض، من كرسي عرشه المهترأ الذي يجسد أحد أعمدة تأبيد الاحتلال والاستعمار.

نطق جملته المنتظرة، تلك الآية التي تدون على ألواحٍ مقدسة كالوصايا الإلهية لمن سيخلفه: "لن تكون انتخابات دون القدس"..يا لحكمة القيادي..فالانتخابات دون القدس "خيانة" واعتراف بمشاريع الضم وخطة ترامب!!

وصفَّق كل المستشارين، وشعراء البلاط كلهم، وأشباه الأحزاب التي تعرف أنها لن تتجاوز نسبة الحسم، لكنها لا تبالي طالما مخصصاتها مضمونة ورواتبها مكفولة ومنح الدراسة الخارجية لأبناءها قائمة..كل ذلك في مشهدٍ سريالي، بل تراجيدي في التاريخ الفلسطيني.

في الجهة المقابلة هناك الشعب العربي الفلسطيني، منهم أكثر من  2,600000 ناخب فلسطيني، شعروا أنهم تلقوا بصقة في وجوههم، لكن هذه لم تكن بصقة عادية إنما من النوع اللزج والتي تلتصق كالغراء على المحيّا، بصقة تقول: لا قيمة لكم، لا وجود لكم، لا كرامة ولا نخوة لكم ولا لأبناءكم.

هنيئًا لقيادات الأجهزة الأمنية، فالقرار الشجاع للقيادة الحكيمة الوطنية المناضلة الصامدة البطلة يشكل مدماكًا جديدًا لتعزيز نفوذها وسطوتها وهيمنتها..وهنيئًا للقيادة التقليدية المتدعمة التي أبدّت الاستحواذ على القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا حقها..فمن مؤتمن على القضية أكثر منها؟!

وهنيئًا لمن يريد الاستمرار في فساده ونهبه أموال ومقدرات الشعب الفلسطيني..هنيئًا لعرّابيّ الانقسام..وهنيئًا لمحصلي الريع السياسي والزبائنية وكي لا ننسى هنيئًا للبق الذي يمتص دماء شعبنا..وكل الهناء للاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المستفيد الأول بوضع الانتخابات الفلسطينية في طابو المحرمات وها هو (ناداف أرغمان) رئيس جهاز الشاباك الحالي، والذي حذر سيادته/جلالته في لقاء في رام الله من نتائج الانتخابات  الوخيمة المرتقبة، ها هو يشرب نخب انتصاره على حقوق شعبنا الطبيعية.

يريدون الانتخابات على المقاص، تلك الانتخابات التي تضمن للمتزعمون الإجماع، ورغم شهر رمضان الفضيل أقول واستغفر الله خجلًا: "حتى لو ترشحت العناية الإلهية فلن تحظى بالإجماع!"، المجتمعات اليوم تغيرت وتباينت وتتعطش للتغيير، وهذا واقع لا يمكن نكرانه.

تصر القيادة البقاء خارج التاريخ.. وذلك التاريخ الذي أنشئ وثيقة حقوق المواطنة الأساسية الماغنا كارتا (Magna Carta) الصادرة العام 1215 في بريطانيا، حيث سعت الوثيقة لتقليص صلاحية الملك نظرًا لاستياء الشعب من سياسته الخارجية المدمرة وسياسات الحكومة الصارمة ضد الشعب. وأصبحت الوثيقة عماد الديمقراطية في العالم. وظهر من رحمها مفهوم (no taxation without presentation) أي ارتبط التمثيل السياسي البرلماني بدفع الضرائب، وطالما لا يوجد دفع ضرائب لا يوجد تمثيل والعكس صحيح، وبالتالي عُبدت الطريق أمام تداول السلطة المنتخبة والشرعية.

وطالما أصرت القيادة المتزعمة على إلغاء الانتخابات بمبررات أيدلوجية باهتة، فإن الدعوة الواضحة والصريحة، والرد الأمثل للشعب الفلسطيني يجب أن يقوم على أساس إعلان العصيان المدني..نعم عصيانٌ مدني، فقد اُستنزف الشعب في تمويل مصاريف القيادة وسفرياتها وولائمها وشققها الفاخرة ومواكبها الفارهة، فلا ضرورة لدفع الضرائب التي تساهم في تركيم رأس المال المتضخم للنخبٍ السياسية الحاكمة وأبناءهم وزوجاتهم المعتاشون كالطفيليات على حساب الشعب الفلسطيني المناضل والمقهور.

هناك حقيقة ماثلة أمامنا، وهي أن القيادة الحاكمة فقدت شرعيتها السياسية والنضالية والقانونية والثورية وحتى الأخلاقية، فالقاصي والداني يدرك الأسباب الحقيقية خلف التهرب من الاستحقاق الانتخابي، والتي تتلخص في الخوف من انتخاب قيادة بديلة، فالقيادة المتزعمة التقليدية ترتعب خوفاً ليس فقط من استبدالها، بل أيضًا من محاسبتها. وذريعة القدس وشماعة الاحتلال لا تنطلي على أحد، فالقدس بريئة من تصريحاتهم، فمن يريد خدمة قضية القدس حقًا عليه أن يسعى نحو تحويل الانتخابات قي القدس إلى معركة واشتباك سياسي مفتوح يفضح ممارسات الاستعمار الصهيوني. كنا نتوق إلى مشهد تصادر فيه القوات الصهيونية صناديق الاقتراع من المساجد والكنائس ومدارس الأونروا، علمًا أنه كان من الممكن إجراء الانتخابات لاحقاً الكترونياً وبكل سهولة، فمن يريد خدمة القدس حقًا يسعى بصدق نحو تغيير المنظومة القائمة بسياساتها وفسادها واستزلامها واستسلامها.

يبدو أن مشروع الانتخابات لم يكن سوى بالون اختبار انفجر في وجه القيادة عندما تبين لها أن الوعي الفلسطيني قادر على محاكمة نخب السلطة بموضوعية وواقعية وكأن تجليات الواقع بكل سوداويته لم تكن تكفي.

جاء المرسوم/القانون الرئاسي الجديد لتكريس الانقسام، وبات الشعب الفلسطيني يعرف من يتحمل مسؤولية فشل الوحدة الوطنية. وها هو التاريخ يعيد نفسه بين البرجوازية الفلسطينية قي صراعها المستميت على السلطة. فمنذ الثلاثينات وصراع البرجوازية (آل حسيني/آل النشاشيبي) إلى اليوم وصراع البرجوازية (آل فتح/آل حماس) ويقع الشعب الفلسطيني بين كماشة البرجوازية من جهة والاستعمار من جهة أخرى.

لم يبقى على الشعب الفلسطيني سوى أن يثور على أصنام المعبد ويحطم أركانه، ويعلن عصيانًا مدنيًا شاملًا يقلب فيه موائد القمار والتُخمة على حساب الجوع، ويستبدلها بمائدة سياسية حقة ومستحقة.

الأسير:شادي الشرفا
سجن جلبوع