كتب الأسير أمجد عواد من زنزانته في سجن ريمون الصحراوي..

خد مني حتى ترضى..

thumb.jpg
المصدر / السجون-حنظلة

وطني العزيز..خذ مني حتى ترضى، فمخزوني من الصمود لم ينفذ بعد، وخاصرتي لا زالت تحتمل ركلات الجنود وأكعاب البنادق، وما زال عودي صلبًا وقلبي ينبض ونظري حادٌ كما أسناني وسواعدي سمراء قوية.. لا تقلق يا وطني وخذ مني قدر ما شئت، فأملي لم يشارف على الانتهاء وما زلت جريئًا قوي القلب والأرجل وما زالت ذرات ترابك تلطخ جبيني ولا زلت شقيًا ولم يجيدوا ترويضي.
خذ مني حتى ترضى ففكري لم يُشوَّه بعد وسأظلُّ مؤمنًا بحتمية التحرير، ولن ينجحوا في انتزاعي منك أو انتزاعك مني.. ولا زلت عاشقك الأبدي ولا زلت أمارس طقسي السري في كتابة رسائل عشقنا الأبدي كما ترى، ولا تقلق لن يعثروا عليها فأنا أخبئها جيدًا في جرح رخام يغطي قبر شهيد ما، خذ مني قدر ما استطعت فلا زالت شفاهي تبتسم كلما أخذت شمسك للنوم مساءً، ولا زال مخزوني منك مليئًا بحجم جبين الجرمق وسنديان الكرمل وبندقيتي كما بندقية تلميذك الأول لم تصدأ بعد ورصاصاتي كثر، وإن صدأت بندقيتي أو نفذت رصاصاتي فلا تُفاجئ إن جئتك يومًا بلا أسنان وأظافر...سأقاتل بهما كما لم يقاتل أحدًا يومًا، دفاعًا عن قدسك وجنينك وصفدك يا وطني.
لا..لا يا جرحي المفتوح لن أسمح لهم أن يجردوني منك أبدًا، فأنا لست بقصير نفس ولن أتنحى جانبًا لو قلعوا عيني وبتروا يداي ولو جزأوني ألفًا..سألتقطها ذراعي وسألملمني كلًا واحدًا حتى أصبح لغمًا سرمدي التكون...سأخلقني من جديد، سأكون فينيقك وأنبعثُ مرةً أخرى، لذى لا تقلق وخذ مني حتى ترضى.

 أنا منك وكنت دائمًا فيك..
وجُبلتُ بطينك المحروق بشمسك الصفراء حتى صرتُ منك قطعًا كثيرة بل صرتَ كتلتي الكبرى، فشراييني رُصفت بحجارة مقالعك، وقلبي جوريةٌ حمراء من ابن عامر سهلك الأكبر..عيناي ماء متوسطك الأبيض وعظامي جُدلت بجذور زيتونك الرومي يا وطني، فأنَّا لي أن أنساك أو أن أقول لك كفى؟
يا من أسكنتني فيك شبرًا مربع، و يا من أسقيتني حليب أمي شبيهتك المثلى...يا من نقشتني وشمًا عاجيًا في سفوح جبالك، فخذ مني حتى ترضى ولا تأخذك فيَّ رحمة فأنا مدينٌ لك حتى أُبعث فيك ولك وفي سبيلك مرةً أخرى.
وطني فلسطين..
لا زالوا يحاولون كسري وعصري وفصلي عنك لكن عبثًا، فنحن توأمان سياميان تعجز كل مباضعهم عن فصلنا، فحاولوا واستمروا كيفما شئتم وأينما شئتم وحيثما شئتم لكن عبثًا ستحاولون، فجذري ضاربٌ في الأرض منذ البداية أو قبلها بقليل فخذ مني حتى ترضى وإن شئت احمل سكينك الأمد وامتثل لأمر من تشاء واذبح وريدي الأكبر ستجدني اسماعيلك البار، وقل لي كن سأكون وعلى أي شكلٍ تشاء...عصفورك الصغير أو قمرك الأبيض..مرعيك البتول..ساترك الترابي أو وردة حمراء، ولو أردتني بقرتك الحلوب سأكون..إن شئت سأكون حتى لو أردتني ذرة ماءٍ عالقةٍ على برعم نبتةٍ تسكن أحد كهوفك صدقني سأكون.
وطني لا تلفظني خارجك وكن حوت يونس لي وابتلعني...ابقني فيك رجاءً ولتعلم إني راضٍ فيك بكل ما فيك، فعشقي لك مختلف عن أي عشقٍ آخر فقواعده بلا أي استثناءات فخذ مني حتى يكفيك وليسمع أعداءك الآتي:
لن تقلموني..لن تحيدوني..لن تروضوني..منك لن يحرموني..منك لن يأخذوني..لن تحرفوا بوصلتي..لن تمسحوا ذاكرتي..لن تمروا..لن تُسّروا..لن تغطوا شمسي بغرابيلكم..لن تناموا جيدًا وإن نمتم سأظهر في أحلامكم...لن تُدفنوا هنا.. وإن دُفنتم فألفظهم إلى اللامكان يا وطني...وصدقوني ستتقيؤون مائنا وطعامنا وسأخرج دفئ شمسنا من عظامكم..وإن متتم سأكسيكم لحمًا من جديد وأستردُّ هوائنا من أنفاسكم الأولى وصهيونكم.الأول.
وليسمعوا أيضًا يا وطني...
إنّا هنا باقون وأنك لنا وحدنا لن نقاسمك إياهم فأنت حقٌ لا يتجزأ...ولتعودوا إلى مكعباتكم طوعًا صدقوني ستُرغمون.. عودوا إصحاحًا..ستجزؤون..ستصيرون غبارًا فعودوا وخذوا معكم كل شيء..لا تتركوكم هنا..خذوا وعد الرب معكم..وصلبانكم المعقوفة وهرتسلكم الأول والهيكل في خيالكم ودباباتكم وطائراتكم وتماثيلكم الحديثة...خذوا معكم دولاراتكم ومشيحكم وحماره الميت وسجونكم وتقنياتكم العالية كلها وبيوتكم المثلثة وشاباككم وموسادكم وراياتكم وأحذية جنودكم ولا تنسوا رحاب الزانية..وتيهوا أينما وكيفما وحيثما تشاؤون.

وطني فلتعذر وقاحتي لكني لا أراني إلا فيك فلا تترك يداي رجاءً، سأختنق دونك وسيكسروني وقتها..سأصيرُ خلايا صغيرة..وطني أنفث روحك فيّ كلما ضعفت، وكن عصاي التي أتكئ عليها ولا تتركني أسقط فسكاكينهم كثر.

طلبي الأخير يا وطني..
أُخرج عن صمتك، خالف منطقهم وأغضب..مزِّق حجاب الصمت وكن أنثى واحمنا نحن صغارك..زلزل أرضك وقل كفى.. أما عاد يكفيك صمتًا..انهض رجاءً  وابحث فيك ستلقانا ننتظر واعتلينا كلنا واحرق حروفًا زُيفت..واهدم سجونًا شُيِّدت..وارجع للتاريخ مساره ولطفل دوما وجهه الجميل...والتقطنا إنا فيك مدفونون ننتظر..إلتقطنا إنَّا سيفك المسلول واضرب مبكاهم وليكن ما يكن..اضرب حصون الموت.. اجبرهم على الرحيل ولتغلق البحر ورائهم واكسر عصا موسى واكتب..
هنا كنا قديمًا..هنا زلنا..هنا سنكون 
واكتب..
لست لكم..ما كنتم هنا دومًا وعودةٌ لكم لن تكون.

الأسير أمجد عواد
سجن ريمون الصحراوي