كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش في يوم المرأة العالمي..

روح الأنوثة الكونية 

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

متى سنكفُّ عن جدالاتنا السخيفة حول قضايا بديهية كقضية المرأة وحقوقها، والمساواة بين الرجال والنساء، ومتى ستتوقف خطاباتنا المتشنجة عن الذكورة والأنوثة والشرف والخطيئة والسيادة، لو أمكننا التحديق في مرآة حضاراتنا السقيمة، ربما سيكون بوسعنا أن نرى الفصام الذي نعاني منه -ذكورًا وإناثًا- في مقارباتنا ومبارزاتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية، ربما عندها يمكننا أن نرى الأمور من زاويا مختلفة. 
ليس لدينا مفاتيحًا سحرية في علاج قضايا تاريخية شائكة ولكننا قد نحتاج للحس الطبيعي العفوي الذي من شأنه أن يعيدنا للطبيعة البكر، لنتأملها ونشتمُّ بعذوبة رائحة ضباب الأنوثة وعبقها في البدايات الأولى، تلك الأنوثة الساحرة التي وضعت النقاط على حروف مفردات الوجود المبهمة، حتى تدرك الطبيعة ذاتها على شكل حياة نابضة، فتتجلى الأنوثة بصورها وتمثلاتها المتنوعة، لتصل إلى ذروة تجلياتها في المرأة وهي تسمو في قمة حضورها التاريخي والحضاري والإنساني والجمالي والوجداني والأخلاقي، لقد تهذب الوجود بالأنوثة ومن دونها سيبقى جافًا وموحشًا وعقيمًا.
كان الوجود أبكمًا، أصمًا، أعمًى لا يعي ذاته، ووحدها رائحة الأنوثة من منحته إكسير الحياة ونقلته من حالة العماء والعدم إلى حالة النور والمعنى، فإذا كانت الطبيعة هي قلب الوجود النابض بالحياة وما تنطوي عليه من عبق الأنوثة، فإن المرأة في الحالة البشرية تمثل ذروة المعنى لهذا الوجود.
يلزمنا التأمل قليلًا، حتى نغادر غرورنا وصبغنا الذكوري لنرنو إلى المرآة التي ترى فيها المرأة ذاتها، وتدرك من خلالها معنى وجودها، عندها قد يداخلنا إحساس آخر وربما تتهذب طريقة تفكيرنا ونحظى برؤيةٍ مغايرة.
ففي هذه المرآة، تعبر النساء برزخًا غير مرئي، ويلجنَ عالمًا آخرًا لا نعرفه نحن الرجال، وهناك في عالمهنَّ ترى النساء العالم بحسهنَّ الطبيعي العفوي الصافي والخالي من أية أمراضٍ حضارية، وهناك يقمن طقوسهنَّ من الحزن والحنين والتعاطف والاحتجاج والاستهجان من آفاق الرجال الضيقة، وهناك تساورهنًّ مشاعر الاغتراب من قسوتنا، وتخامرهنَّ الشكوك في طموحاتنا الزائفة.
ربما في عالمهنَّ يسخرن منا أيضًا – وهنَّ الأقدر على إتقان فن السخرية -  من الرجال وأوهامهم، وهناك أيضًا تخالجهنَّ مشاعر الظلم والإجحاف والهزيمة في قلب حضارة الرجال البربرية، وفي عالمهنَّ يحافظنَ على ما تبقى من جمالٍ وحسنٍ وتعاطف، وهناك أيضًا يفجعنَ ويستنكرنَ سلوك بعض النساء ممن تواطأنَ مع عالم الرجال.
في عالمنا، ورغمًا عن أنوفنا، تستوي النساء على عرش الحس الجمالي، ويفرضنَ حضورهنًّ في أسمى قيمتين في 
الوجود الإنساني: الأمومة والحب، وما تنطوي عليه هاتين القيمتين من عفوية المشاعر الطبيعية، وتلقائية خفة الروح وصفائها.
وإذا كان لا بد من كلمة في يوم المرأة، فإنها ليست نابعة من حكمةٍ أو منطقٍ أو تعاطفٍ، وليست مطالبة بإنصاف النساء أو تصحيح تاريخٍ يقف على رأسه، ولا شعارات المساواة والحقوق والعدل، ولا خطابات النفاق الذكورية البائسة، دعونا من كل ذلك، فهذا بات من المسلمات التي لا تحتاج أي نقاش، ولكننا قد نحتاج إلى البساطة.
ربما كان يتعين علينا استعادة الحس الشاعري الذي طمسته الحضارة حتى بتنا نعاني من الجفاف العاطفي والوجداني، هذا الحس الذي يقوم على المودة والتراحم والاحترام، يلزمنا تعميق احساسنا بالزمن السديمي الأول واحترام منبعنا الأول المتمثل بالأنوثة والأمومة الكونية، وربما عندها قد يكون بوسعنا أن نتهذب قليلًا بهذا الإحساس، قد يتهذب الرجال في لغتهم على الأقل ويعيدوا تنقية اللغات من المفردات الهابطة التي تسيء للنساء وتحط من شأنهن.
ربما تحتاج النساء إلى الكلمات الدافئة وحسب، ان تنطق بكلمة نابعة من القلب بحق المرأة كل يوم، ربما عندئذٍ قد نتمكن من تنقية السموم في حياة المجتمع البشري، لو يتهذب الرجال ويتقنوا فن الإصغاء للنساء، مهما علت أصواتهن وعبرنَّ عن نزفهنَّ الجميل، فغضب المرأة ونزفها روحٌ من أرواح الطبيعة، وإحدى سماتها الحية والضرورية.
ماذا يضير الرجال لو كفَّروا عن خطاياهم بالكلمات، ماذا لو قلنا كلماتنا للنساء بلطفٍ ومن دون نفاقٍ أو غاية أو إسقاط للواجب، ماذا لو امتلك الرجال شجاعة الاعتذار وترجموا فروسيتهم واستزلامهم في مكانٍ آخر غير أجساد النساء، ماذا لو كفوا عن نفاقهم وفصامهم في الحديث عن الشرف ووصفهم النساء بالخطايا والفساد وسبب الانحلال.
ونحن نعلم أنه لا توجد امرأة خاطئة دون رجل خاطئ، ولا امرأة فاجرة دون رجل فاجر، ولكنها مقاييس الشرف الزائفة في شرع الذكور، ومعايير الرجولة الناقصة والمعطوبة في ثقافة الرجال، إنها الحسابات الخاسرة في أرصدة الرجولة البائسة، وإذا كانت المرأة خطيئة فهي حتمًا الخطيئة الأجمل في هذا الوجود. 
تحمل النساء الغصن الأخضر في أرواحهنًّ وأريج الأنوثة الأزلية في عروقهن، ويحملنَ الهشاشة والرقة والضعف في أعماقهنَ كراية انتصار، ويكفي الأنوثة أنها شرف الطبيعة ويكفيها أنها تنطوي على شرف الأمومة، والأمومة تعني الطهر والنقاء والقداسة، لنحترم الأنوثة والأمومة، لنتهذب جميعًا رجالًا ونساءً في حضرتها، ونكف عن جدالاتنا حول الأصل والفرع والضلع، ولننحني بجلالٍ لروح الأنوثة الكونية.

الأسير: كميل أبو حنيش
سجن ريمون الصحراوي