كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة الثامنة عشر "دولة بلا هوية"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

جمعتني بالدكتور عقل صلاح علاقة صداقة حميمة تمتد لأكثر من ربع قرن منذ أيام الجامعة والنشاط الطلابي، وبعد انخراطي في أنشطة الانتفاضة الثانية لم نلتق إلا نادرًا، وبعد اعتقالي في العام 2003 لم أره منذ ذلك الحين، وقد أرسل لي رسالة أثناء اعتقاله الإداري في أعوام 2006-2007، قبل تحرره بمدة وجيزة ومن يومها انقطعت أخباره عني مدة تجاوزت العقد.

وفي العام 2017 تواصلنا معاً، وعلمتُ أن عقل قد نال شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية من الجامعات المصرية، ونالت أيضًا زوجته رانية شهادة الدكتوراة في الوبائيات. وكما أسلفت في الحلقة السابقة، دأب صديقي عقل على متابعة كتاباتي من داخل السجن، ولم يقصر في الدعم والتشجيع والإسناد وإبداء الملاحظات المهمة، وضرورة نشري لدراساتي في مجلات محكمة، واتفقنا أن نعمل معًا على تأليف كتاب مشترك عن الدولة العبرية، واخترنا عنواناً للكتاب (دولة بلا هوية) وباشرنا العمل على إنجاز ما يتطلبه المشروع البحثي، إلى أن جاء نقلي الفجائي إلى سجن هدريم في خريف العام 2018. 

بيد أن الانتقال إلى هدريم كان مثمرًا على أكثر من صعيد ومنها العثور على مراجع مهمة لإنجاز الكتاب في مكتبة سجن هدريم. وبعد عودتي إلى ريمون اتفقنا أن نباشر العمل، وقسمنا الكتاب إلى عدد من الفصول، يتولى عقل العمل على بعضها، فيما سأتولى أنا من جانبي العمل ببعضها الآخر.

وكان من بين الفصول التي كان يتعين على إنجازها ما يقع تحت عناوين (التناقض بين مركبات الهوية: الصهيونية- اليهودية- القومية- الديمقراطية، والنزاعات والتصدعات الداخلية في إسرائيل، ومفهوم يهودية الدولة، وإسرائيل إلى أين... الخ).

وكما أسلفت كانت لدي عشرات الكراسات اللازمة للدراسات الموثقة، علاوة على مباشرتي في كتابة وتبويب جزء من مباحث الكتاب قبل الانتقال إلى (هدريم) وأثناء تواجدي هناك. بعبارة أخرى كانت مادة فصول الكتاب جاهزة للمباشرة في صياغتها.

بعد إنجاز دراسة (إشكالية الآخر في الفكر الصهيوني) شرعتُ في عملية الكتابة في المشروع الجديد. وبدأت رسميًا بتاريخ 15 شباط من العام 2019. وبذلتُ جهودًا مضنية في الليل وفي النهار رغم الأجواء المتوترة السائدة في قسم 7، وإمكانية دخول قوات القمع في أية لحظة. كنتُ أعمل على تفريغ النصوص والتوثيقات والاقتباسات وتصنيفها وتبويبها، أعمل 18 ساعة متواصلة في اليوم.

كنتُ أصحو عند الساعة السابعة صباحًا، وأعمل بلا كللٍ حتى منتصف الليل، وفي 17 آذار كانت المادة المطلوبة جاهزة ولم يتبق سوى إعادة الكتابة لتكون جاهزة للتسريب خارج السجن. وقد تزامن انتهائي من المسودة الأولية للفصول المطلوبة مع إعلان الإدارة عزمها على نقل القسم قسم 7 إلى قسم 1 في اليوم التالي، أي في الثامن عشر من آذار.

حزمت الكراسات وخبأتها في أسفل حقيبة من حقائبي لئلا تبقى ظاهرة للعيان أثناء مداهمة الغرف والعبث في محتوياتها، فقد كنتُ أدرك أننا مقدمون على معركة شرسة وفي الصباح، الثامن عشر من آذار، داهمت قوات كبيرة من شرطة ووحدات السجون قسم 7، وأبلغونا أن نتجهز للنقل مع أمتعتنا خلال نصف ساعة. رفضنا نقل أي من أمتعتنا، فجرى نقلنا بثيابنا التي نرتديها ولم نأخذ معنا أية أمتعة، دخلنا إلى غرف قسم 1، المجهز بأجهزة حديثة للتشويش على الهواتف، كانت الأجواء مشحونة، إذ أننا أعلنا مسبقًا للإدارة أننا لن نعيش في هذا القسم وسنقوم بإحراق الغرف، مما جعل الإدارة تتهيأ لهذا الاحتمال، وتحضر القوات القمعية كافة للسجن، كانت اللجنة الوطنية قد حددت الساعة السادسة والربع من مساء ذلك اليوم، كموعد لتنفيذ عملية الإحراق، وكانت الإدارة لا تزال تشكك بإقدامنا على هذه الخطوة الجريئة غير مسبوقة.

وعند لحظة الصفر، وضعنا الفرشات في الحمامات وأشعلنا النار فيها، كان المشهد مبهرًا ومن غير المألوف أن ترى ألسنة اللهب والدخان تتصاعد من قلب غرف السجن. تصاعد التوتر والصراخ والتكبير وكدنا أن نختنق داخل الغرف. فاضطرت الإدارة إلى فتح الغرف دفعة واحدة، وخرجنا جميعاً إلى الساحة، ليصل المشهد ذروته من التوتر مع دخول قوات كبيرة من وحدات القمع (المتسادا، الدرور، اليماز...) ودخلت وحدة من الإطفائية لإطفاء النيران المندلعة داخل الحجرات. أطلقت قوات (المتسادا) الماء من بنادق خاصة على البعض وطلبت من الجميع الاستلقاء على الأرض، ثم شرعت القوات بالهجوم على الأسرى والتنكيل بهم وضربهم وتقييد أيديهم للوراء بصورة همجية.

كانت ساحة القسم قد تحولت إلى بركة مياه بفعل المياه المتسربة من الغرف أثناء عملية الإطفاء. وأخذت قوات (المتسادا) بسحبنا من أطراف الساحة وقذفنا وسط بركة المياه في وسط الساحة. كنا نرتجف بردًا وبعد أكثر من نصف ساعة شرعوا في سحب كل أسير عن الأرض واقتياده بصورة عنيفة وسريعة لمسافة طويلة عبر ممر طويل يفصل بين الأقسام، فيما تصطف الوحدات على جانبي الممر وأثناء اقتياد الأسير وهو يركض يوجه له الجميع اللكمات والصفعات والعصي، إلى أن يصلوا به إلى غرف الانتظار، ليجري قذفه بداخلها.

وحين جاء دوري، جرى انتشالي من بركة الماء وقد تبللت كامل ثيابي، واقتادوني بسرعة عبر الممر، وأثناء الركض والفوضى تزحلقت قدمي وسقطتُ أرضًا. فأنهضوني بسرعة وركضوا بي لأسقط ثانية وثالثة ورابعة، وما أن وصلتُ إلى غرفة الانتظار جرى قذفي وسطها بعنف، وكانت مكتظة بأكثر من 20 أسيرًا، وكان الكثير منهم قد تعرض لإصابات وجروح ورضوض في مختلف أنحاء الجسد.

مكثنا على هذه الحال حتى منتصف الليل، وكانت قدمي متورمة بفعل السقوط على الأرض أكثر من مرة، أعادونا لذات القسم الذي جرى إحراقه وأدخلونا إلى الغرف المتفحمة. واكتشفنا أنه لا يوجد سوى حديد الأبراش والخزائن وكان يتعين علينا أن نتدبر أمرنا. كيف يمكننا النوم على حديد الأبراش بلا فرشات أو أغطية. كنا منهكين، وكانت ثيابنا مبتلة بالكامل، وكان الجو قارس البرودة. حاولنا النوم على الحديد ولم نفلح.

عند الساعة الثانية فجرًا اقترح الرفيق خالد الحلبي أن نستحم لتدفأ أجسادنا. وبالفعل ولجنا الحمام واحدًا تلو الآخر، انتعشت أجسادنا وشعرنا بتحسن ولكن علينا أن نرتدي ذات الثياب المبتلة. نمنا ليليتنا على حديد الأبراش، وأمضينا اليوم التالي حتى منتصف الليل على هذه الحالة إلى أن وافقت الإدارة على السماح بإدخال الفرشات إلى الغرف عندها تسنى لنا أن ننام براحة أفضل.

أمضينا شهرًا كاملًا في هذه الظروف القاسية من دون أية أمتعة، أما طعامنا فقد اقتصر على طعام الإدارة البائس، وخلال هذه الفترة كانت الحوارات تجري على قدم وساق بين اللجنة الوطنية وبين مصلحة السجون، وفوجئنا بموافقة الإدارة على تركيب الهاتف العمومي في السجون. 

كان مطلب تركيب الهاتف أسوة بكل سجناء العالم، مطلب الحركة الأسيرة منذ أكثر من 30 عامًا، ولم تخض الحركة الأسيرة أي إضراب عن الطعام إلا وكان هذا المطلب يتصدر قائمة المطالب. 

أجل تعرضنا للقمع والتنكيل والتجويع مدة شهر كامل، لكننا شهدنا ولادة أهم إنجاز في تاريخ الحركة الأسيرة ونضالاتها، وجرى الاتفاق أن تعمل الإدارة على تركيب الهواتف في السجون خلال الأشهر المقبلة، وجرى الاتفاق لإعادتنا إلى قسم 7، وعلى المستوى الشخصي كنتُ لا أزال أعاني عرجًا في مشيتي جراء الإصابة وشككتُ بأن ثمة كسرًا في قدمي، ولكن همي كان منصبًا على العثور على أوراقي، والخشية من تعرض كراسات المادة الجديدة للإتلاف أو الضياع.

في الثامن عشر من نيسان، تمت عملية إعادتنا إلى قسم 7، برؤوس مرفوعة ومعنويات تعانق السحاب، لكننا صدمنا ونحن نرى تلة كبيرة من أغراضنا وحاجياتنا تتكوم وسط الساحة. كانت الأغراض مختلطة ببعضها البعض.

الطناجر والأواني، الملابس، المواد الغذائية، الكتب، الأوراق... كان المشهد بائسًا، إذ يتعين عليك التنقيب عن أغراضك الشخصية وسط هذه الكومة الكبيرة، كما تبين أن جزءًا كبيرًا من هذه الحاجيات، قد سحبته الإدارة ووضع في مخازن السجن.

كنتُ أبحث كغيري عن الحاجيات الضائعة وسط الكومة الكبيرة، وعثرتُ على القليل من أمتعتي ولكني لم أعثر على أي أثرٍ للكراسات والأوراق، وفي هذه الأثناء كانت العربات تنقل حاجياتنا من المخازن وتوضع في الساحة، وأخيرًا وصلت إحدى حقائبي بعد طول ترقبٍ وانتظار وسارعت لفتحها وقلب محتوياتها في الساحة وما أن عثرت على الكراسات حتى تملكني ارتياح شديد.

لم أفوت الوقت وباشرتُ العمل على الكتاب في اليوم التالي رغم الآلام في قدمي جراء الإصابة، مما استدعى خروجي لعيادة سجن بئر السبع بعد أسبوعين، وبعد إجراء الفحص الإشعاعي لقدمي تبين أنها مصابة بكسر صغير، وطمأنني طبيب العيادة بأن الكسر قد بدأ بالالتئام.

عدتُ للسجن، واستأنفت العمل واستغرق مني الأمر حتى العاشر من حزيران حتى أنجزت ما هو مطلوب إنجازه من فصول.

كانت أطروحة الكتاب تنفي وجود هوية للدولة العبرية، وأن الهوية التي تزعمها إسرائيل لمجتمعها تنطوي على تناقضات جوهرية وبنيوية، وستقود إلى مزيد من التصدعات بين مركبات المجتمع الصهيوني.

وبحثت الأطروحة عددًا من المفاهيم التي تشكل صميم الهوية المزعومة، بوتقة العهر، الدولة اليهودية، وخلصت الدراسة إلى أن إسرائيل تظل محكومة لطبيعتها الاستعمارية العدوانية والتوسعية، وأن مثل هذا النوع من الكيانات لا يمكن أن ينتج ثقافة إنسانية وديمقراطية تسمح بقيام أي مستويات سياسية معها، وأن إشكالية هويتها وتناقضاتها تشكل إحدى العوامل المهمة في إمكانية تفككها وتضع علامة استفهام حول مستقبلها.

أنجزتُ الفصول المطلوبة وكنتُ أسابق بالزمن؛ لأن الإدارة أبلغتنا مجددًا عن نيتها لنقلنا إلى قسم 1 بعد إصلاحه من آثار الحريق، وصار يتعين عليّ تسريبها للخارج. ومرة أخرى ساعدني الصديق بهاء الشبراوي في تصويرها، وأرسلت المادة المصورة إلى أيمن فرحات في غزة، وتولى المباشرة في طباعتها، تبقى أسبوع على موعد النقل. قرأت المادة من جديد وأضفت عليها بعض النصوص والتعديلات، وتعاون معي أيمن في تسجيل هذه الإضافات والتعديلات. 

وطوال المدة الماضية كان الدكتور عقل منهمكاً في إنجاز الفصول المطلوبة منه. وفي هذه الأثناء تعرض لمأساة شخصية بوفاة شقيقه منتصر. تأثر عقل كثيرًا بهذا الحادث المؤلم ثم عاود العمل على الكتاب بعد شهر من الحداد على شقيقه. في العاشر من حزيران جرى نقلنا مجددًا إلى قسم 1، وهناك أمضيت شهرًا قبل انتقالي إلى قسم 5. تواصلت مع الدكتور عقل متابعة الكتابة وإجراء المزيد من التعديلات، والإضافات وتدقيق المراجع. وكتب الرفيق أحمد سعدات تقديمًا للكتاب، ومع حلول شهر شباط من العام 2020 كانت مادة الكتاب جاهزة بعد معاودة مراجعتها أكثر من مرة، واتفقنا أن يجري إرسال الكتاب لمركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وهو من أبرز المراكز العربية المختصة في الدراسات الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، ويشرف على إدارة المركز مجموعة من المختصين والخبراء والكفاءات المشهود لها بالخبرة والتجربة والكفاءة العلمية والمواقف القومية والوطنية. 

وبعد إتمام المراجعات والتدقيقات والمراسلات بيننا وبين المركز، حيث تولى الدكتور عقل إتمام هذه المهمة. وافق المركز في شهر أكتوبر 2020 على إصدار الكتاب في العام 2021. 

أحببتُ أن أضع القارئ العزيز، في صورة الظروف والملابسات التي ولد فيها هذا الكتاب. وكنت معنيًا في سرد بعض الأحداث، لا سيما ما تعرضنا له من قمعٍ واعتداءات وممارسات همجية من جانب وحدات القمع الصهيونية في السجون، ليكون هذا الحدث وما واكبه وما تلاه بمثابة وسام شرف يناله الكتاب بعد صدوره وأن ولادته العسيرة من رحم السجن، ستظل شاهدة على همجية السجون الإسرائيلية وإجراءاتها الصارمة التي لا تسمح بولادة أي نوعٍ من الثقافة، ويبقى الكتاب وما قدمه من تصورات ومعطيات وافتراضات ملكاً للتاريخ وللباحثين عن الحقيقة.

كميل أبو حنيش 
سجن ريمون الصحراوي