كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من خلف زنزانته في سجن ريمون..

بلاغة الأبواب

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

لم يشركنا السجان في سر اختبار اللون الأزرق للباب في كافة السجون، ولم تفصح لنا الأبواب عما يجري وراءها، ومع أن الأبواب اُخترعت لكي تفتح وتغلق غير أن ثمة أبواب قد جرى إحكام إغلاقها، لكي لا تفتح أبدًا إلا إذا كُسرت أقفالها الثقيلة من الخارج.

ماذا سيقول لك الباب الموصد، وهو ملك الصمت والوجوم؟ إذا طرقته ربما سيفتح، لكنه سيحيلك إلى بابٍ آخر يشبههُ، ثم سيحيلك الباب الثاني إلى سلسلة لا متناهية من الأبواب، حتى يُخيَّل إليك أن العالم قد استحال إلى متاهةٍ من الأبواب الزرقاء لتنتهي بالباب الأخير المطل على ما وراء عالمنا الضيق. ومع الوقت صار عالم ما وراء الأبواب يشبه عالم ما وراء الطبيعة. فلا عجب أن نخلع السحر عن هذا العالم ليكتسي بمسحةٍ ميتافيزيائية وعندئذٍ لا شيء غير الشغف وشهوة الحلم المتأججة، سيعلمني الباب الموصد حلكة الصمت واحترام الوقت. سيقول لي منذ اليوم الأول وهو يلحظ نزفي وقلة صبري: اهدأ.

بيد أني سأرفض الامتثال، مواصلًا شغبي وانتفاضة غضبي. وسيمضي عام ويليه آخر وآخر...ومع توالي الأعوام سيهدأ غضبي ويتضاءل نزفي. اتأمله بعد سنوات فيبتسم ببرودٍ ويهتف:

- ألم أقل لك أن تهدأ؟...ابق هادئًا وتصالح مع الوقت وليس معي.

سأهدأ إذًا، ليس امتثالًا وطاعةً للباب، وليس إذعانًا لسلطة الوقت، بيد أني سأهدأ من أجل نفسي وكي لا أبتذل المعنى الذي جاء بي إلى وراء الأبواب الموصدة، سأكره الباب بكل ما أوتيت من كراهية، لكن لا بأس إن علمني بعضًا من حكمته الباردة، لن أسمح له بترويضي فأنا أمتلك إرادةً حرةً سيشق عليه انتزاعها مني، وإذا بات الباب عدوًا لدودًا، يقف حائلًا بيني وبين عالمي المشتهي، فلن يخامرني أي عارٍ إن تعلمت من عدوي بعضًا من دروسي.

سيعلمني الباب الموصد، فن الإصغاء لما هو داخلي، أعبر بوابتي الداخلية، فأعثر على أبوابٍ ونوافذ كانت مجهولة تطل على عوالمٍ غير مستكشفة بعد. وصار بوسعي الولوج بيسرٍ إلى دهاليزي الباطنية مستكشفًا أغوارها العميقة ومحاولًا فك طلاسم وأحجيات أسرار وجودي وما وراء أبواب كينونتي.

سيعلمني خطيئة الحياة في الخيال. كيف تبدو الأشياء خلف الباب، وكيف يمكنني تحويل الوهم إلى واقعٍ ملموسٍ ولو بالخيال، علمني أن أوسع عالمي الضيق ليبدو أكثر رحابةٍ. فكلما ضاق المكان كلما اتسع الخيال. وكلما أمكنني استحضار الأشياء ببساطتها الموجعة: كيف يمكن أن تتساقط قطرات الظل ببطئ عن بتلات الزهور، كيف هي الطفولة؟...أصوات النساء...رائحة المطر...ملمس النباتات...أمواج البحر...وعبق الأمهات، وحده الخيال الواسع في قلب هذا العالم الضيق، من يتيح لك أن تحيا الحياة...ولو بالوهم.

سيحثني الباب الموصد على التدرب لاستيعاب باب الأبدية الذي سيغلق من دون أن يفتح ثانية، سيعلمني أن الوجود الإنساني سيبقى قائمًا بين بابين لا ثالث لهما. وكلاهما يطلان على العدم. يفتح الباب الاول لنلج منه قادمين من العدم الأول، وبصرخة الولادة التي تؤذن بدخولنا عتبة الوجود، فيما الباب الثاني سيطل على العدم الثاني، وبصرخة الإنطفاء الأبدي. وما بين البابين ثمة حياةٌ أو مجازها. حياة مرتعشةٌ تنشد سعادة دون أن تظفر إلا بقشورها الواهية لأن باب الأبدية يقف حائلًا دون بلوغنا لذروتها.

وها أنا خلف باب يشبه باب العدم الأول منتظرًا صرخة الولادة، لذا سأتقمص دور الجنين. وسألبث هادئًا إلى أن يأتي الإيذان بالولادة الجديدة.

لنكن متشائمين بعض الوقت. لكي لا ننسى أننا نحيا بين لحظتين من العدم. وبوصفنا كائنات عاقلة أتقنت استخدام سلاح الكلمة. لا بأس بالاحتفاء بالحياة...أو نتظاهر بالاحتفاء على الأقل، لا خوف على دناءة الكائن البشري. فهو يعرف كيف يستل الحياة من بين فكي العدم، ويحتفي ولو بسعادةٍ عابرة.

لا تخشوا على الكائن البشري من الانقراض. بعد أن امتلك سلاح اللغة وأبقى للبقية ذكاء الغرائز الطبيعية, سيقول لنا العدم: لا فارق بينكم وبين بقية الكائنات سوى كلمات لا غير، وما دون ذلك كلكم عندي سواء، ألتفت إلى الباب الموصد، وقد خيل إلي أنه هتف بوجهٍ متجهم:

لا تقلق...أنا أيضًا سأكون ذات يومٍ على قائمة العدم...وإن امتلكت لبعض الوقت بلاغة الحضور في مثل هكذا مكان.

الأسير: كميل أبو حنيش

سجن ريمون الصحراوي