كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة الحادية عشرة، "الكبسولة"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

رواية الكبسولة هي الرواية الثالثة التي أكتبها داخل السجن بعد أن مرت أكثر من خمس سنوات على كتاباتي للرواية الثانية "بشائر"، وأربع سنوات من الانقطاع عن العمل الكتابي الأدبي بسبب الانهماك في مهام وأنشطة ذات طابع تنظيمي واعتقالي، إلى جانب الانشغال في الدراسة الأكاديمية منذ عام 2007 وحتى عام 2011.

شغلت هذه الأعوام الأربعة حيزاً كبيراً من وقتي ووقت غيري من الرفاق، وكما أسلفتُ في الحلقة السابقة، فقد شكل انهماكنا في تأسيس منظمة فرع السجون وترسيخ قواعدها مهمة وتحدياً كبيراً تطلب تخصيص الوقت الكافي لحماية التجربة، أما التحدي الأبرز الذي وقع على كاهل هذه المنظمة هو اختبار قدرتها على مواجهة السجان وخوض معركة تفضي بإنهاء عزل الأمين العام، وتثبيت هيبة التنظيم وإجبار مصلحة السجون على التعاطي مع مطالبنا واحتياجاتنا، حيث استغرقنا أربع سنوات في مناوشة الإدارة إلى أن تكللت هذه العملية بإطلاق معركة الإضراب عن الطعام في أيلول 2011، وطوال هذه السنوات كنت متعطشاً للقراءة والكتابة في المجال الأدبي والثقافي بعد تركيز جهدي على الأنشطة التنظيمية والاعتقالية التعليم الجامعي.

أما المتغير الأبرز في عام 2011 فقد تمثل في سن الحكومة الإسرائيلية للقانون الذي عرف "بقانون شاليط" الذي بموجبه جرت عملية سلب الأسرى عدداً من الإنجازات والحقوق بما فيها إلغاء التعليم الجامعي.

وبالرغم من قساوة القانون وانتهاكه لحق أساسي من حقوقنا التعليمية، إلا أنه على الصعيد الشخصي خفف الكثير من الأعباء والضغوط، ومنحني ثلاث ساعات كنت أحصلها في اليوم للدراسة الجامعية؛ لأتفرغ من جديد لاستئناف المطالعة والكتابة الأدبية. 

أذكر تلك الأيام وأثناء تحضيرنا لإضراب أيلول 2011، وكيف أقبلت بنهم على القراءة باللغة العربية وبشغف كبير على الكتابة. كنتُ حينها لا أزال في سجن ريمون. وخلال الأربع سنوات السابقة وأثناء الانهماك في النشاط التنظيمي كنتُ قد أرسلت وتلقيت العشرات وربما المئات من الرسائل والتقارير التي كانت تأتي وترسل بطريقة " الكبسولة"، الأمر الذي شكل إلهاماً وحافزاً للمباشرة في العمل على إنجاز رواية أسميتها "الكبسولة". 

كما أن انطلاق الثورات العربية ذلك العام، وإقبالي على إعادة قراءة أعمال محمود درويش الشعرية، قد شكل مناخاً مناسباً للرواية، أما الشرارة التي أشعلت المباشرة في كتابة الرواية، فقد كانت زيارة والدي لي في السجن بعد أكثر من ثلاثة أعوام على مرور آخر زيارة . ويومها سألت والدي عن الأغوار، حيث يقيم ويعمل في بيارته ومزروعاته معظم أيام السنة، فطفق يومها يحدثني عن التغيرات التي حدثت في الأغوار في السنوات الأخيرة، وأبرزها اقتلاع المزارعين لمعظم بيارات البرتقال لصالح الزراعة الحديثة من دفيئات بلاستيكية وغيرها، لكن أكثر ما أثارني هو خبر جفاف الوادي الذي كان يشبه نهراً صغيراً يخترق الأغوار ويعطي منظراً خلاباً لتلك البقعة الساحرة. 

أحزنني ما نقله والدي عن هذه التبدلات في منطقة الأغوار التي كانت ولا تزال تحتل مساحة شاسعة من الذاكرة الجميلة. عدتُ من الزيارة إلى غرفتي تتملكني مشاعر متضاربة. كيف مضى ذلك الزمن ونحن خلف القضبان؟ وماذا تبقى مما تحمله الذاكرة ونحن نشهد هذه التغيرات؟ وفي ذلك المساء بدأت في كتابة الرواية، وتصادف يومها أنني قد أُبلغت بخبر ضياع كبسولة كنت قد أرسلتها لأحد السجون وكانت تحمل معطيات هامة، فولدت هذه الرواية في هذا المناخ.

اخترتُ أبطال الرواية من البسطاء، لا سيّما بطلي الرواية الرئيسين "عدنان وسميرة" وكانا راعيين للأغنام في منطقة الأغوار بحقبة الستينات من القرن الماضي، جمعت بينهما الصداقة وحب الشعر ورعاية الأغنام على طرفي الوادي، ثم ما لبث عدنان أن دخل السجن بسبب تقديمه المساعدة للفدائيين، ويمضي عامين في الأسرـ ويحمل في يوم تحرره رسالة هامة "كبسولة" من أحد القادة في السجن ليوصلها إلى زوجته، وأبلغه بأن الرسالة مسألة حياة أو موت، غير أن عدنان فقد الكبسولة قبل إيصالها لهدفها ليكتشف أنها في جيب بنطال شقيقه الذي ودعه وعاد لدراسته في روسيا عبر الأردن، فيلاحق عدنان الكبسولة، ويضطر لاجتياز نهر الأردن إلى أن تمكن من الوصول إلى شقيقه حسان واستعاد الكبسولة غير أنه فشل في العودة مجدداً عبر النهر، ووجد نفسه ينظم للفدائيين في الأردن، ثم لم يلبث أن رحل معهم إلى جنوب لبنان بعد أحداث أيلول الأسود.

أمضى عدنان أربعة عقود في الغربة، مشتعلاً بالحنين للعودة للبلاد، ولمحبوبته سميرة، والوادي كمكان احتل روحه، وبقيت الكبسولة في حوزته إلى أن قرر بعد أربعين عاماً للعودة عبر النهر كما حدث له أن اجتازه قبل أربعين عاماً، فأعاد الكبسولة لأصحابها وعد خطاه فيما بعد للقاء سميرته، وكأنه لم يمض كل هذه السنوات بعيداً عنها.

ومع أن الرواية ملغزة برموز الشعر، وسحر الحلم، وشغف العودة، فمن الأفضل ترك أمر الكتابة عنها للنقد، وبوصفي كاتبها لن ألجأ إلى الكشف عن رموزها، والرسالة التي كنت أعتزم إيصالها من خلالها، غير أنني أود تسليط الضوء حجر الزاوية في الرواية والذي أختصره بنص شعري لمحمود درويش، شكل إحدى المحفزات لمواصلة الرواية، وهذا النص: 

اذهب في المكان... تجد زمانك عائداً... 

حيث بدأ النص وكأنه تعويذةٌ أو نبوءةٌ تحكم مجرى الرواية، وتحسم قدر بطلها، وكأنه في رحلة تيه يختصر عذابات شعب بأكمله... 

أنجزت مسودة الرواية بشغفٍ لم يحدث لي في أية رواية أخرى، وكنتُ أشعر أن الأبطال يتقافزون ويتحدثون ويعبرون عن مواقفهم، ويشقون دروبهم رغماً عن إرادتي. كنتُ سعيداً بهذا الاكتشاف، رغم الحالة الضاغطة في السجن حيث كنا نتهيأ لخوض معركة الإضراب عن الطعام...

ومن الطريف أنني وأثناء كتابتها عانيتُ من انقطاع أقلام الحبر في "الكانتين"، ولم أجد بحوزتي وحوزة الرفاق ما يسعفني بإكمالها، فاضطررت لكتابة معظمها بأقلام الرصاص، ومرة أخرى لم أعثر على المزيد من ذخائر قلم القرصاص (الفطعات) فجمعتُ عدداً منها من الأسرى وكانت شحيحة، إلى أن أكملت مسودة الرواية في الرابع والعشرين من أيلول.

في السابع والعشرين من أيلول بدأنا معركة الإضراب عن الطعام، ولم يشارك به سوى أعضاء الجبهة الشعبية، وقلّة من المتضامنين من الفصائل الأخرى.

أمضينا خمسة أيام داخل الغرف في سجن ريمون، وفي اليوم السادس للإضراب أبلغتنا الإدارة بأنه سيجري نقلنا من السجن، وتجميع الأسرى المضربين من السجون كافة، ووضعهم في أقسام معزولة. كما وطلبت إدارة السجن أن نرزم أغراضنا الخاصة، وأحضروا لنا كراتين كبيرة الحجم، ووضع كل واحدٌ منا حاجياته في هذه الكراتين، وبعد أن سجلت أسماؤنا على الكراتين جرى إغلاقها وإيداعها كلها في مخزن السجن. 

ومثل كل مرة تلبسني هاجس فقدان الرواية أو العبث بها. غير أننا في هذه اللحظة كنا منشدين لمعركة الإضراب ومصممين على الانتصار مهما كلف الثمن. وجرى تجميع المضربين في سجنين: شطه في الشمال، وأوهليكيدار في الجنوب. أمضينا أيام الإضراب في أوهليكيدار حيث جرى تجميعنا في إحدى الأقسام البائسة وحدث ما لم نتوقعه: إبرام صفقة تبادل الأسرى. 

أثار إبرام صفقة تبادل الأسرى التي عرفت بصفقة شاليط قلقاً في صفوفنا، لا سيما وأنه قد تناهت لأسماعنا تحرر أعداد من الأسرى المعزولين، وهم الذين شرعنا بمعركة الإضراب من أجل إنهاء عزلهم وكذلك تحرر عدد من الأسرى المضربين، وانتهى الإضراب بعد 21 يوماً. بعد الاتفاق على إنهاء عزل سعدات، لنفاجأ بتراجع مصلحة السجون من الاتفاق فيما بعد.

انتهى الإضراب بخسارتنا، وقد ولّد الكثير من مشاعر المرارة والإحباط، لكنه ولّد فينا العزم على التخطيط لمعركة جديدة والانتقام من غدر السجان، وتحقيق انتصار باهر ينسينا تلك المرارة.

بعد انتهاء الإضراب بإسبوعين جرى توزيعنا على السجون، ولم يسمح لنا بالعودة إلى السجون التي خرجنا منها. وصلتُ إلى سجن أيشل (بئر السبع) في الأول من "نوفمبر" دون أية حاجيات أو أمتعة، وبقي هاجس القلق على الرواية يداهمني في كل لحظة.

وبعد أسبوعين وصلت حاجياتنا المحفوظة إلى بئر السبع. كنتُ قلقاً وأنا أفصل اللاصق عن الكراتين وما أن عثرتُ على مخطوطة الرواية حتى كدتُ أطير من الفرح.

أعدت قراءتها من جديد، ثم باشرتُ العمل على تنقيحها وإعدادها لتكون جاهزة للطباعة، وكانت تتوفر في هذا السجن أكثر من فرصة ينبغي استغلالها، فقد علمتُ أنه يسمح بإخراج المواد المكتوبة مع الأسرى المحررين دون أي تفتيش أو مصادرة، أما الثانية، فتمثلت بوجود هاتف مهرب في القسم، وهذه هي المرة الأولى في تجربتي للاتصال مع الخارج منذ أن دخلت السجن قبل حوالي تسعة أعوام. 

أنجزت الرواية مع بدايات العام 2012، وحملها للخارج الأسير المحرر جبريل عوض، من إحدى قرى رام الله، ونسقتُ على الهاتف إيصالها ليدِ الرفيقة نهى نزال. 

وصلت الرواية ليدِ نهى، التي باشرت بإجراءات طباعتها على الحاسوب، غير أننا هنا كنا في التحضير لإضراب آخر، إضافة إلى انشغالي بعمل أدبي جديد، فضلاً عن تنقلاتي بين السجون، وقد أعاق ذلك إمكانية إصدارها سريعاً، وبقيت مع نهى مدة أربع سنوات، وعمل على مراجعتها لغوياً خلال هذه الفترة الصديق الدكتور عبد المجيد حامد. 

بعد عودتي لسجن ريمون بعد أربع سنوات من مغادرته في نهايات العام 2015، عملتُ على إصدارها، وقد وصلت الرواية ليدي شقيقي كمال في منتصف العام 2016، والذي سارع للعمل على إنجازها. 

أعادت الدكتورة أمل أبو حنيش مراجعة الرواية، وتفضلت بكتابة مقدمة لها، ولم أعد أتابعها إذ انهمكت مجدداً في إضرابين متتاليين: 2016، وإضراب آخر في نيسان 2017، تخللها عدة تنقلات بين السجون، إلى أن صدرت أخيراً في طبعتها الأولى في دار الأمة للنشر، في جمهورية مصر العربية في أكتوبر 2017. وطبعت مرة أخرى بدار الشامل للنشر في فلسطين في صيف عام 2019، حيث تحمس الصديق بكر عبوشي صاحب الدار لطباعتها.

حظيت الرواية باستحسان الكثير من القراء، وكتب عنها العديد من النقاد والمختصين، وعقدت عدد من الحلقات النقاشية بشأنها، ونشر عنها الكثير من التقارير الإعلامية. غير أن صاحبها الأسير لم يحظَ بنسخة منها إلا في نهاية عام 2019، أي بعد عامين من صدورها، حيث صودرت ومُنع إدخالها أكثر من خمس مرات في سجني هدريم وريمون إلى أن تمكنت أخيراً من إدخالها.

الاسير الاديب كميل أبو حنيش 

سجن ريمون الصحراوي