مشروع كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش

الكتابة والسجن، الحلقة الخامسة "مكتبتي المتنقّلة"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / حنظلة

من البديهيّ القول، إنّه لا يمكن للمرء أن يكون كاتبًا جيدًا ما لم يكن قارئًا جيدًا. غير أنّ القراءة والمطالعة في عالم السّجن لا تقتصر على غايات تحصيل المعرفة والثّقافة، وملكة الكتابة وحسب، وإنما باتت وسيلة للحفاظ على القدرات العقليّة وامتلاك القدرة على مواجهة السّجان وإجراءاته اليوميّة، والحيلولة دون تسرّب فكرة السّجن القاتلة إلى أعماق السّجين، علاوة على أنّها وسيلة وطقس لتماسك التّنظيم الاعتقالي. فعندما تتراجع عملية المطالعة وغيرها من أنشطة ثقافيّة فتلك علامة للضعف والانحطاط، وفي حال انتعاشها وتطوّرها، فهذا يعني أنّ الجسم الاعتقالي المنظم في حالة جيدة.

وتغص مكتبات السّجون بآلاف من الكتب والإصدارات المتنوعة، تراكمت منذ عشرات السّنين، بفضل النّضال الاعتقالي، وليست منّةً من السّجان أو حرصًا منه على الحياة الثّقافيّة للسّجين. وقد تراجعت الحياة الثّقافيّة والمطالعة لدى الأسرى في السّنوات الأخيرة إذا ما قارناها بمحطّات ومراحل مختلفة من عمر الحركة الأسيرة وذلك نتيجة الأسباب وعوامل مختلفة، أبرزها تفاقم أزمة المشروع الوطنيّ وانعكاساتها على ساحات السّجون.

من ناحيتي كنت مواظبًا على القراءة منذ سنوات الطّفولة المبكّرة وتطوّرت مطالعاتي مع الوقت، في الانتفاضة الأولى ومرحلة التّعليم الجامعيّ، وصولًا إلى مرحلة السّجن، وفي هذه المرحلة تكثّفت قراءتي وباتت تشغل حيزًا كبيرًا من يومي في السّجن.

ومع الوقت أدركت أنّ العمر لا يكفي للمطالعات العشوائيّة، وأنّه يتعيّن عليّ انتقاء الأفضل، الذي من شأنه أن يشكّل أساسًا صلبًا للثّقافة وتطوّرها، لتثمر لاحقًا في عملية الكتابة. غير أنّ هذه المطالعات لم تقتصر على مجال أو حقل محدّد بل تنوّعت لتشمل المجالات كافّة: السّياسة، والفكر، والتّاريخ، والدّين، والميثولوجيا، والفلسفة، والرّواية، والشّعر، والدّراسة، والنّقد.

إنّ التّنوع في مطالعة الكتب يعكس تنوعًا في المعرفة والثّقافة ويحرّر القارئ من إشكالية الثّقافة أحاديّة البعد، إذا صحّ التّعبير. ومن شأنها أن تترك آثارها في السّلوك واكتساب المرونة في التّفكير، وحماية القارئ من الوقوع في مصيدة التّصلب والمغالاة، ويسمح للكتابة أن تتنوع ولا تبقى أسيرة لنمط أو شكل محدد، فالرّوائي والشاعر -مثلاً- يتعيّن عليه أن يكون لديه معرفة بالتّاريخ والسّياسة والأدب... إلخ.

وإلّا كيف يمكن لنصّه الشّعريّ أو الأدبيّ أن يتطور ويثمر ويبدع ما لم يكن متنوعًا في الثّقافة والمعرفة.

منذ اليوم الأول لولوجي عتبة السّجن واظبتُ على القراءة اليوميّة جنبًا إلى جنب مع مواظبتي على الكتابة، كانت قراءاتي متنوعة ولساعات طويلة وصلت في بعض الأحيان إلى أكثر من عشر ساعات في اليوم. أقرأ في اللّيل وفي النّهار. وكانت هذه العمليّة شاقّة ومتعبة، قرأت المئات من الكتب والمجلّدات والموسوعات المتوفرة في مكتبات السّجن، وما كنا نوصي الأهل بداخله على الزّيارات العائليّة.

غير أنّ عملية القراءة لا تتوقف عند حدود المطالبة وحسب، وإنّما كان يتوجب على القارئ تسجيل ما يحتويه الكتاب أو ما يحتاجه منه، إذا كان كاتبًا. وبهذا كانت عملية القراءة تستغرق وقتًا، كما أنّه ليس بوسع القارئ/ الكاتب أن يحتفظ بمكتبة خاصّة. فهذا غير مألوف في أعراف السّجن إلا في حالات نادرة و بأعداد قليلة، فضلًا عن التّنقلات الدّائمة بين السّجون. الأمر الذي لا يمكِّن الأسير من حمل كميّة كبيرة من الكتب معه أثناء التّنقلات، فالحقائب المسموح بها أثناء عملية النّقل لا تتعدّى الحقيبتين أو ثلاث، وهي بالكاد تكفي لملابس الأسير ومقتنياته الضّرورية.

بات يتعيّن عليّ ابتكار طريقة تسمح باقتنائي لأعداد كبيرة من الكتب، أحملها معي بسهولة في تنقلاتي الدّائمة بين السّجون والأقسام.

منذ العام الأول بدأت احتفظ بكميّة من الكراسات والأقلام وأخذت بترقيم الكراسات وعنونتها، هذا الكراس للتّاريخ وهذا للسّياسة، وهذا للشّعر، وهذا للشّؤون الإسرائيليّة، وهذا للفكر... إلخ، ومع كل كتابٍ كنتُ أطالعه، كنت أسعى لتكثيف خلاصته... أو ما أحتاجه للكتابة في مختلف الحقول.

أما للغايات الدّراسيّة والبحثيّة فقد كنت أعمد إلى نسخ الاقتباسات اللازمة للتوثيق العلمي مع اسم الكتاب، والمؤلف، ودار النشر، والطّبعة، ومكان الطّبع... إلخ.

وبهذه الطّريقة صار بوسعي تفريغ زبدة ما تتضمنه الكتب في كراسات يسهل حملها. وأخذت مع الوقت تتزايد أعداد الكراسات ارتباطًا بتواصل القراءة... وتراكم عليّ في السنوات العشر الأولى أكثر من خمسين كراسًا. استفدت منها في كتاباتي، وعندما سنحت فرصة إخراجها، سارعت لإرسالها إلى البيت.

وفي السّنوات الثّماني الأخيرة عادت وازدهرت مكتبتي المتنقلة التي أحملها معي في حقيبة خاصّة، وهي الآن تشتمل على أكثر من 50 كراسًا، حيث تطوّرت هذه الكرّاسات وما تحمله بين دفاتها بتطوّر قراءاتي، وطريقة تفريغي للنّصوص والمعلومات، وبتطوّر أعمالي الكتابيّة أيضًا.

لقد تعرضت مكتبتي الصغيرة والثّريّة للانتهاك عشرات المرّات، جرى مصادرتها أكثر من مرة وإخضاعها للتّفتيش الهمجيّ قبل أن تعود إليّ. ضاعت في العام 2006 في إحدى البوسطات أثناء نقلي من سجن جلبوع إلى سجن ريمون، ولكنّها عادت إليّ بعد شهور طويلة. يجري تفتيشها والعبث بها في مختلف التّفتيشات الرّوتينيّة والدّوريّة.

يجرى احتجازها عند الأمن والاستخبارات لأيّام وأسابيع لدى انتقالي إلى سجن جديد، صودرت عام 2017 بحجة ضبط الأمن لكرّاسة مسجل عليها مطالبنا عشية إضراب نيسان 2017، وعزلت على أثرها مدة شهر بتهمة التّخطيط للإضراب، وبقيت هذه المكتبة محتجزة في سجن نفحة عامًا ونصف العام. منذ أواخر 2016 وحتّى أواسط العام 2018 إلى أن تمكّن الرّفاق في سجن نفحة من استعادتها، وإعادتها إليّ في سجن ريمون مع أحد الشّباب المنقولين لطرفي، كما وتعرّضت هذه المكتبة المتنقلة للانتهاك والإتلاف في آذار عام 2019، بعد قمع الإدارة لقسم 7 في ريمون على أثر نقلنا إلى أحد الأقسام، وإحراقنا للغرف في القسم الجديد، فيما جرى الانتقام من حاجيّاتنا وممتلكاتنا الشّخصيّة التي بقيت في قسم 7، لكني وفور عودتنا إلى قسم 7 بعد شهر من القمع، عثرت على جزء من مكتبتي بعد جهود مضنية بين الحاجيّات الكثيرة الملقاة بإهمال في ساحة المقسم، وعثرت على جزء آخر بين أكوام النّفايات، لكن الأضرار كانت طفيفة.

كما وتعرّضت هذه المكتبة لأضرار وتلف كبير نتيجة الإهمال، ففي نيسان من عام 2013 أثناء تواجدنا في قسم 4/ نفحة، وأثناء استحمام أحد الشّباب مساءً، وعلى ما يبدو نسي قدمه على فوّهة البالوعة في الحمام، ولم ينتبه إلى تسرّب المياه خارج الحمام لتغرق أرضيّة الغرفة بالماء، كانت الأضواء مطفأة، ولم ننتبه للمياه التي تسرّبت ووصلت إلى حقائبنا أسفل الأبراش، كان الوقت متأخرًا عندما انتبه أحدنا، سارعنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه . كانت المياه قد تسربت إلى معظم الحقائب، تبلّلت الثّياب والأدوات والأوراق. مكتبتي غرقت بالماء، تفقّدتها بغضب، وفي الصّباح نشرت الكرّاسات تحت أشعة الشّمس إلى أن جفّت. لكن آثار التّلف لا تزال بارزة، ومع ذلك نجت المكتبة من التّلف الكليّ.

لا تزال مكتبتي المتنقلة معي، ترافقني في حلّي وترحالي، ألجأ إليها كل يوم. أنقب بين سطور كراساتها، أغذيها ولا أشبع فهمها، ومع كل شهر باتت تتزايد، ويضاف إليها كراسات جديدة.