مشروع كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش

الكتابة والسجن، الحلقة الثالثة "هواجس الكتابة في قلب السجن"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / حنظلة

ليس بمقدورنا اختزال تجربة السّجن ببعض الأحكام الجاهزة أو التّصورات البسيطة التي ترى فيه مكانًا تكتظ فيه المعاناة والحرمان، أو مكانًا للرّاحة وفرصة للثّقافة وتحصيل المعرفة. مخطئ من يظنّ أنّ حياة السجن محض فراغ يحيا فيه الأسير ساهمًا متأملًا، منشغلًا بهمومه وأحلامه الذّاتيّة في انتظار يوم الحريّة ومع أنّ المجتمع الفلسطينيّ عرف السّجن، واكتوت أجياله بنيرانه غير أنّ كثيرين لم يعرفوا عن السّجن سوى النزر اليسير وثمّة من دخله لفترات قصيرة أو طويلة، غير أنّه عاش في جوفه ولم يعرف عنه سوى ما تسمح له ثقافته واطّلاعه ونشاطه واهتماماته، لذا ثمّة إشكالية كبيرة تعترض فهمنا للسّجن وما يدور فيه، تختلف من مرحلة لأخرى ومن فصيل لآخر، ومن سجين لآخر.

فتجربة السّجن في الحالة الفلسّطينيّة تجربة ثريّة وزاخرة بألوانها وأوجاعها وأحلامها، وثمّة مجتمعاً في السّجن ، تشكّل وتطّور منذ ما يربو على نصف قرن.. وهذا المجتمع له ثقافته وأعرافه وتقاليده وقوانينه ومفاهيمه ووسائله في الحياة والنّضال ومظاهر قوته وضعفه وأخلاقيّاته وقد عايش هذا المجتمع محطّات ومراحل، وتعاقبت عليه أجيال وعادات وتقاليد ولهجات مختلفة، أسهمت في تطوره ببساطة. لقد تطوّر مجتمع الأسر كما يتطوّر أيّ تجمّع إنسانيّ، وشهد تغيّرات في أنمطة الحياة والثّقافة والوعي وتحصيل التّجربة ولكنّه حافظ بصورة عامّة، على تراثه وقيمه وأعرافه.

والحياة في مجتمع الأسر، تنطوي على أنشطة ومجهودات متنوعة تنشئها الحاجة، ويمكن تقسيمها إلى: تنظيميّة، وطنيّة، اعتقاليّة، ماليّة، ثقافيّة، اجتماعيّة، نضاليّة، أكاديميّة، كلّها عناصر تتواشج مع بعضها لتنتج مجتمع السّجن.

فالأسير هو مزيج بينها جميعاً، ولا يمكن أن يقال مثلًا أنّ الأسير الفلاني كاتب وحسب، أو قائد وحسب، أو مثقّف وحسب، ثمّة تداخل بين هذه المكوّنات لدى كل أسير وإن تباينت في المضمون بين أسير وآخر. وفي هذا الإطار تعدّ الحياة الثّقافيّة حجر الزّواية في تشكيل مجتمع الأسر، مما يسمح ببروز حالات ثقافيّة مميّزة، أدركت أهميتها وضرورتها ودورها في حياة السّجن الثّقافيّة، وخارج السّجن أيضًا.

ويدرك السّجين المثقّف بوصفه مناضلًا قبل كلّ شيء، حجم المسؤوليات الّتي يلقيها مجتمع الأسر على كاهله، كما يعي دوره في مواجهة إجراءات إدارة السّجن وممارساتها واستهدافها؛ لضرب الوعي والارادة، والنيل من الأسير وإفراغه من محتواه النّضاليّ والإنسانيّ، وبهذا يدرك أنّ السّجن ما هو إلا ميدان آخر في عملية الصّراع، وفيه تتصارع إرادة المحتّل الغاشمة مع إرادة السّجين المجرّدة من أيّ سلاح، سوى سلاح الثّقافة والوعي. وعلى صعيده الشّخصي يدرك الأسير المثقّف أنّه يتعين عليه تحويل خسارة سنوات العمر بين الجدران إلى فرصة لتثقيف الذّات والإبداع الأدبيّ والثّقافيّ، وبهذا يحوّل الخسارة إلى مكسب.

غير أنّ الكاتب الأسير يواجه تعقيدات ويعيش هواجسًا تختلف عن هواجس الكتابة لدى أيّ كاتب في تجارب مختلفة. فعالم السّجن الضّيق والمحاصر والمتوتر على مدار السّاعة، يشكّل في حدّ ذاته عقبة أمام الإبداع، وفي ذات الوقت يضع الأسير في مناخ يسمح بولادة الإبداع. وبالرّغم ممّا تبدو عليه هذه العبارة الّتي تناقض بعضها؛ فإنّ المعيار في الكتابة الإبداعيّة في الأسر يعتمد على الإدارة والذّكاء والتّحفز، والأهمّ من كلّ هذه العناصر الإيمان بالكتابة ورسالتها، الأمر الّذي يستدعي الإصرار على تحدّي العقبات والتّغلب على الهواجس، وتفجير الطّاقات الكامنة، والقدرة على تنظيم وإدارة الوقت.

في السّجن يظلّ السّجين يُطحن تحت رحى أحاسيس وهواجس ومشاعر ورغبات وتأمّلات واحتياجات إنسانيّة، فالحرمان من الحياة الطّبيعيّة يضعه في صراع متواصل مع الذّات، والحاجة الدّائمة للهدوء والاستقرار النّفسيّ، والخلوة اليوميّة مع النّفس. وفي ذات الوقت فإنّ عالم السّجن نابضٌ بالحياة والأنشطة والعمل والتّناقضات والمهام والأعباء والتّوترات. فالسّجن ساحة متوترة ومثيرة للأعصاب، مكتظّة بتفاصيل الأنشطة اليوميّة، وإدارة الأزمات الدّاخلية بين الأسرى، ومع إدارة السّجن، فضلًا عن هموم وأعباء ومهام مختلفة تقتضي التّفاعل مع خارج الأسوار، إن أول هاجس يتلبس الأسير الكاتب يتعلّق بالوقت. وكيف يمكنه اقتطاع وقت للكتابة من يومٍ يكتظّ بالتّفاصيل والمهام والأعباء والتّوترات، ويتولّد من هذا الهاجس، هواجس المثابرة، ومواصلة عملية الكتابة، في ظلّ التّقلبات النّفسيّة النّاجمة عن واقع السّجن وتقلباته وإشكالياته.

فالكتابة تحتاج إلى وقت مناسب، وراحة واستقرار نفسي وتفرغ إلى حدٍ ما، وإلا كيف يمكن للكاتب أن يبدع في ظل جو السّجن المشحون بالتّوتر والمثّقل بالأعباء، والمهام.. وبهذا تصبح هذه الظّروف سيفًا ذو حدّين: إمّا أن تشعل رغبتك الدّائمة في الكتابة أو تطفئها.. وهنا تلعب الإدارة دورًا بارزًا في حسم هذه الإشكالية: إمّا العزوف وإمّا التّحدي.

أما الهاجس الثاني الذي يتلبس الكاتب في السّجن فمرتبط بالكتابة ذاتها: ما هي الجدوى من الكتابة؟ ولمن يكتب؟ ولماذا يكتب؟ وعن ماذا يكتب؟ فالاحتجاز لسنوات طويلة خلف الأبواب الموصدة يحدّ من قدرة الأسير على معرفة ما يجري خارج الأسوار، من تطوّرات الحياة وتبدّلات الأمزجة والأذواق، وتقنيات الكتابة ومناهجها واهتمامات النّاس، وشروط الإبداع.. فالعالم يتبدّل بسرعة فائقة وما كان يصلح بالأمس قد لا يصلح اليوم، وما يصلح اليوم قد لا يصلح في الغد.

أما موضوع الكتابة فهو الآخر، يمثّل أحد الهواجس المتولّدة من هاجس الجدوى من الكتابة، ويحتّل مساحة مهمّة من جهود الكاتب أيكتب عن الذّات أم عن ما هو خارجها من تطوّرات وأحداث. فيختار الكتابة في مجال الأدب، أم السّياسة، أم الفكر، أم النّقد، أم القصّة، أم الرّواية، أم الشّعر.

الدّراسة أم المقالة والإشكالية الّتي يتورط فيها الكاتب هي آراء القّراء، فمنهم من يقول لك: أنت تبدع في الرّواية أفضل من الشّعر، تبدع في الأدب أكثر من السّياسة، تخصّص في الدّراسة السّياسيّة ولا تتخصّص في حقل الدّراسة الأدبيّة.

أكتب عن السّجن ولا تكتب عمّا هو خارجه، تحرّر من الكتابة من قلب السّجن وانتظر حتى تتحرّر. ثمّ يأتي من يقول لك: دعك من كل هذا الهراء، فلا شيء يستحق أن تكتب عنه، نحن أمّة لا تقرأ، وبالتّالي فالكتابة غير مجدية في هذا الزّمن البائس.

إنّ مثل هذه المواقف والآراء من شأنها أن تخلق بلبلة وتشويشًا لدى الكاتب الأسير، خاصة إن كان على شاكلتي يكتب في أكثر من شأن. وتولد المزيد من الالتباسات والهواجس، ما لم يتمتّع الكاتب بالثّقة والإدارة وحسن الاختيار.

يمثّل هاجس الإبداع، الهاجس الثّالث في عملية الكتابة من قلب السّجن. ويتساءل الكاتب: هل الكتابة للتّنفيس عن النّفس، أم أنها تمتلك خصائصًا وشروطًا يتعيّن على الكاتب أن يتقيّد بها، إذا أراد لها الانتشار والقدرة على التّأثير بالنّاس. وما هي شروط الإبداع، وهل كلّ ما يصدر من ساحات السّجون يعدّ صالحًا للنّشر؟ وهل كلّ كتابة في مجال الأدب تتوافق على ما بات يعرف بأدب السّجون؟ وكيف يمكن أن نروي رحلة المعاناة بين الجدران؟ وما هي معايير الإبداع: الذّات، أم الموضوع، أم اللّغة، أم السّرد، أم التعبير. يشكّل هاجس الإبداع، أحد أهمّ الهواجس الّتي تواجه الكاتب في الأسر.

إذ أنّ الجمهور والقرّاء ليس ملزمًا بالتّعاطي مع كلّ ما يصدر من السّجن ما لم يحمل سمة الإبداع. يتعاطف الجمهور مع الأسير ومعاناته، وليس مضّطرًا إلى مجاملته والإقبال على كتاباته لذا يصل الكاتب إلى قناعة، أنّ الكتابة من قلب السّجن تنطوي على مسؤوليّة وعلى رسالة، ولهذا يتعيّن عليها أن تملك شرط الإبداع، الأمر الذي يتطلّب الصّبر والمثابرة، ومواصلة اكتساب الثّقافة والتّمرس، والبحث عن التّجديد.

أمّا الهاجس الرّابع وهو الأهمّ، فهو هاجس السّجن وإجراءات السّجان ومداهماته وتفتيشاته، ومصادراته للمواد المكتوبة فضلًا عن سياسة التّنقلات والعقوبات.

إنّ هذه الإجراءات تشعر الأسير بالانتهاك والقمع، وهو ما يقيّد قدرته على المواصلة والإبداع ما لم يتحلّى الكاتب بالصّبر والجَلَد والإصرار، وتفادي مطاردات السّجان، وابتكار وسائل للحفاظ على المواد المكتوبة وإخفاءها عن أعين السّجانين. الأمر عندي يقتضي أن يظلّ الكاتب متحفّزًا أو متنبّهًا لإمكانية مصادرة الكتابات أو ضياعها. فقد عايشت شخصيًا منذ بداية الأسر كلّ هذه الإجراءات من تفتيش ومصادرة ونقل وزنازين وعقوبات ومتابعة ومراقبة.

وتمثّل عملية تسريب المادّة المكتوبة إلى خارج السّجن هاجسًا خامسًا في سلسلة الهواجس. فكل طريقة تنطوي على جهد ومخاطرة. فنظام الكبسولة يتطلب جهودًا مضنيّة، وإخراج الكتابات مع الأسرى المحررين تنطوي على خطر المصادرة على بوابة السّجن وضياعها للأبد.

أمّا إخراجها من خلال الزّيارات العائليّة مشروطة بتسليمها للإدراة أولاً، ومطالعتها من قبل الأمن والاستخبارات لضمان عدم إخلالها "بالأمن" ولا توجد ضمانة، في هذه الحالة من عدم العبث بها أو تمزيق وشطب بعض محتوياتها، ولا ضمانة أيضًا في إعادتها للأسير، إذا لم توافق الإدارة على خروجها عبر الزيارة.

وفي السّنوات الأخيرة، توفرت إمكانية تسريب الكتابات عبر الهاتف أيّ تسجيلها صوتيًا، وهذه الطّريقة رغم سهولتها، تعدّ إشكالية بحدّ ذاتها. إذ أنّ الوقت المخصّص للأسير لا يسمع بإخراجها مرّة واحدة. وإنّما على مراحل قد تستغرق مدّة من الوقت.

ويتلبسك هاجس المداهمة أثناء تسجيل وضبط الهاتف، وهاجس عدم التّمكن من إخراج المادّة بشكل كامل، أمّا الإشكالية الأخرى في هذا الإطار تتمثّل بالتّشويش، فإدارات السّجون زرعت أجهزة تشويش على الهواتف في كافّة الأقسام وكافة السّجون.. ويبحث السّجناء عن نقاط داخل حجراتهم تصلح بالتقاط البثّ الهاتفي، وفي كثير من الأحيان نجد نقطة في مساحة بضع سنتميرات مربّعة، في أماكن مختلفة، الحمام، قرب السّقف، أسفل البرش على الجدار.. الخ، ومع ذلك يتقطّع الصّوت، ونواجه خللًا في تردّدات الصّوت، الأمر الّذي يترك تأثيره على التّسجيل، ويؤدّي إلى رداءة في تسجيل المفردات، وهو ما يحتاج إلى وقتٍ آخر للتدقيق وتصحيح الأخطاء.

وفي هذا الإطار تنبع إشكاليات من نوعٍ آخر: من سيتولّى عملية التّسجيل، ومن يطبع المواد المسجّلة. إنّ هذه العملية ليست سهلة، وتحتاج إلى صبر ومثابرة من جانب من يتولّى هذه العملية التي في غالبها تكون تطوعًا.

وما أن يتنفس الكاتب الصّعداء بعد إتمام العملية، ينبت الهاجس الأكبر والّذي من المفترض أن يكون أسهل الهواجس، كيف يمكن أن ترى هذه الكتابات النّور؟ ومن هي الجهة الّتي تقبل بإصدارها؟ وهنا أتحدّث عن تجربة مريرة بهذا الشّأن، فالكل يمجّد بالأسرى وتضحياتهم، ونرى الكثيرون يتحدّثون عن أدب السّجون، وتعقد سنويًا عدّة فعاليات ثقافيّة وإعلاميّة وجماهيريّة تمتدح هذا الأدب بصورة عامّة.

وحينما ننجح في إخراج مادة مكتوبة بعد جهود مضنية، نجد الجميع يستنكف أو يتلكأ في إصدار هذه المواد: المؤسسات، دور النّشر، الوزارات المختصّة، مراكز البحوث، والمؤسسات الثّقافيّة... إلخ.

فدور النّشر تطلب مالًا مقابل النّشر، والمؤسسات العامّة والأهليّة تشكو من قلّة التّمويل، ثم يأتي البعض بفذلكاته في المستوى الفنيّ والإبداعيّ، وضحالة وركاكة كتابات الأسرى من دون أن يتكلّف الكثير منهم مهمة إلقاء نظرة على هذه الكتابات، فيما ينهمك بعض المختصّين بأدب السّجون بإصداراتهم والاحتفاء بها، على حساب إصدارات الأسرى ورعايتها والاهتمام بها.

إنّنا لا ننكر ضحالة وركاكة بعض الكتابات الّتي تخرج من السّجن، ولكن لا يجوز وضع الجميع في سلّة واحدة، فمثلما تصدر مطبوعات في الخارج تعاني من إشكاليات فنّية ولغويّة إلى جانب إصدارات مبدعة، كذلك ينتج السّجن كتابات مبدعة وأخرى ضعيفة.

فمن قال أن كل ما ينتجه الأسرى من كتابات ينبغي أن يمتلك شروط الإبداع، إنّ هذه المبرّرات الّتي يسوّقها البعض عن ضعف كتابات الأسرى، إنّما يشكّل في معظمها تجنيًا على هذه الكتابات وهروبًا من المسؤوليّة، واستنكافًا عن مدّ يد العون.

وإذا كان ثمّة نصيب إبداعي في هذه الكتابات، سيقدّر لها أن تحيا، وتصبح ملكًا للتّاريخ، وإذا افتقدت لهذا العنصر فإن كاتبها يتحمّل وحده مسؤوليتها، أمّا الحكم على مجمل هذه الإنتاجات بالرداءة والضّحالة، فإنما يعبّر عن مواقف اختزاليّة، وبعضها يخفي غايات وأهداف لا علاقة لها بالكتابة أو الإبداع.

أما الهاجس الأخير للأسير الكاتب فهو هاجس الاسم، في البداية كنا نكتب بغرض التّنفيس ولم تكن الغاية من الكتابة الشّهرة والانتشار. ومع الوقت بات العديد من كتاب السّجن معروفين، وينتظر النّاس مؤلفاتهم، صار الجمهور ينتظر منّا الأفضل. يمتدحنا أحياناً، وينتقدنا أحياناً أخرى، ويقسو علينا في كثير من الأحيان.

كيف يمكن لنا أن نشرح للجمهور ما يجري معنا داخل السّجن من عقبات ومعاناة، وأنّنا لسنا كما سائر الكتّاب في أيّ مكان من العالم، الّذي تتوافر أمامهم كافّة الإمكانيات الماديّة والمعنويّة، ولكن لا بأس.. يتعيّن علينا أن نبدع في كتاباتنا مهما كانت الظّروف، ومن ناحيتي الشّخصيّة هكذا كانت رحلتي الّتي ناهزت عقدين مع هواجس الكتابة، فقد كانت هذه الرّحلة شاقّة، والتّجربة الكتابيّة كانت أشبه بالنّحت على الصّخر. ومع هذا لم أشكو يومًا لأحدٍ عن هذه الهواجس والمعيقات ببساطة كنت أكتب بصمت.