مشروع كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش

الكتابة والسجن، الحلقة الثانية "الكتابة.. ومرحلة التحرر الوطني"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / حنظلة

لا يمكن للمناضل إذا كان كاتباً أو شاعراً أو روائياً أو رساماً أو موسيقياً أو مثقفاً.. الخ أن يتجرد من هويته ومسؤوليته النضالية، إذا كان بلده محتلاً وشعبه يتعرض للمعاناة والقهر والتهجير والابادة على يد المستعمر، فما بالكم إذا كان هذا لمناضل أسيراً بني الجدران مدة قد تصل إلى عقود ويعاني على مدار الساعة، ويتعرض للتنكيل ومحاولات الطمس والاستلاب والقمع، وإذا حدث وتجرد من هويته ومن مسؤوليته ومواقفه، يكون في هذه الحالة قد انهزمت ارادته أو حتى يرتدَ ويستبطن اطروحات الطرف الآخر، أي المستعمر وفي أحسن أحواله يقف في المساحة الرمادية بين المناضل العنيد، وبين الانسان المهزوم المتساوق مع جلاده وبهذه الحالة لا يكون سوى انتهازياً يبجث عن فرصة أو منفعة ذاتية.
والكتابة في مرحلة التحرر الوطني ومكافحة الاستعمار وسياساته تنطوي على مسؤولية وطنية وأخلاقية، فالكاتب المناضل ثائرٌ بطبيعته ، وهو مناضل بالأساس ولإنه مناضل يحوَل الكتابة إلى شكل من أشكال المقاومة. وكتاباته ينبغي أن تعكس ما يؤمن به، ويعكس الرسالة التي يحملها ويناضل في سبيل انجازها.
والكتابة ليست مجرد انشاء، إنها فن ورسالة يسعى الكاتب المناضل من خلالها للتأثير في الناس، فالكتابة تنطوي على رسائل موجهة للجمهور، وموجهة للاعداء والاصدقاء، للبسطاء والمثقفين، للرجال والنساء والأطفال والشيوخ، ولكافة الفئات والقطاعات.. الخ لما تحمله الكلمة من تأثير في حياتنا نحن البشر.. وفي خضم معركة التحرر الوطني والتي يخوضها أي شعب يتعرض وجوده للخطر والاقصاء والاستبعاد، ينبغي أن يستنفر كافة الطاقات بما فيها سلاح الثقافة والفن والابداع. وهذه الثقافة يجب أن تعكس صورة الشعب المقهور والمستعمر، كي يثبت أنه ليس شعباً متخلفاً وحتى يكشف ادعاءات المستعمر وأكاذيبه ومزاعمه الحضارية والتنويرية لكي يخفي أطماعه الاستعمارية..
ومن هنا تأتي الكتابة، لا سيما الأدب، كوسيلة مقاومة في الدفاع عن الوجود، وكمرآة تعكس ثقافة الشعوب المحتلة وحضارتها.. وفي حالة الاستعمار الصهيوني لفلسطين منذ ما يربو على مئة وعشرين عاماً، يصبح النضال الثقافي إلى جانب أشكال النضال الأخرى، مسألة ضرورية ومهمة وتنبع أهمية العامل الثقافي في مواجهة المشروع الصهيوني، لإن هذا المشروع يختلف عن بقية المشاريع الاستعمارية الكلاسيكية فهو إلى جانب تمثله لمجمل الخطاب الاستعماري، واستيعابه لدوره الوظيفي في هذه المنظومة، وهو ايضاً مدججٌ بايدولوجيا صهيونية عنصرية تنطوي على تصورات وادعاءات غيبية واسطورية، ومزاعم الحق التاريخي، والشعب اليهودي العضوي المشتت عن أرضه التاريخية.
ان ارتباط المشروع الصهيوني بالمنظومة الاستعمارية، ينفي محاولات تسويق الفكرة الصهيونية ، كفكرة تحررية والحركة الصهيونية يوصفها حركة تحرر وطني. فهذه الحركة وفكرتها ومشروعها معادية للشعوب العربية وللشرق برمته بل ومعادية للانسان.
ومن هنا تنبع أهمية العامل الثقافي في مواجهة الثقافة العنصرية الصهيونية وهو ما يقتضي اليقظة والتحفز الدائم، فالشعب الفلسطيني وهو يخوض معركة التحرر الوطني ينبغي أن يدرك أهمية الثقافة المقاومة في مواجهة الثقافة المعادية، ومن هنا يتيقن علينا أن نكتب.
والكتابة الثورية المنحازة للقضية، والصادقة في اداء رسالتها لا تشبه الكتابة الشعاراتية والاستعراضية والتملقية والجبانة والانتهازية، فليس كل من يكتب عن فلسطين وعن التحرير وعن أعداء لإسرائيل يحسب على معسكر المقاومة والثورة فاللوحة الثقافية العربية والفلسطينية في هذه المرحلة ضبابية في كثير من ملامحها، ومتساوقة ومتشظية وفاقدة لصوابها، ومنفصلة عن واقعها، ومهزومة ومنتفعة في كثير من مشاهدها، لكنها ايضاً ساطعة وواضحة وجريئة ومقاومة وابداعية وثرية ونابضة وواعدة ومنحازة للقضايا العربية، ومعادلة للمشاريع المعادية في غالبية مشاهدها ، وفي تجربتنا الفلسطينية المقاومة. امتشق الفلسطيني سلاح الثقافة والأدب والفن إلى جانب البندقية، ولا تخلو محطة من محطات النضال من أديب أو مثقف أو شاعر أو روائي أو رسام وعمد الكثيرين منهم رحلته بالدم كعبد الرحيم محمود، وغسان كنفاني وماجد أبو شراره وناجي العلي وآخرين.
فالثقافة الثورية المقاومة ينبغي أن تكون ملتزمة، وممتلئة ومنتجة ومنحازة ومعبرة عن تطلعات الشعوب، وإذا انحسرت هذه الثقافة أو شح انتاجها في الزمن الصعب فإن ذلك يدلل على مخاطر وضياع وهزائم، وكما عبر عن هذا الهاجس الشاعر الفلسطيني الشاب تميم البرغوثي حينما قال:
من ابيَضت كتبه
ابيضَت راياته
وفي الوقت الحاضر، وما ينطوي عليه المشهد من انحطاط عربي، لا يزال الكثير من المبدعين في مختلف الساحات العربية، يكتبون ، ويستنهضون الهمم، ويبدعون رغم ما يتعرضون له من تضييق وملاحقة وتعذيب واعتقال واغتيال وارهاب وقمع وتنكيل.
وفي تجربة السجن، وهو المكان الذي يصممه المستعمر لاذلال الشعوب وكسر ارادتها، ويمارس فيه مختلف سياساته وتجاربه الاجرامية، السجون الصهيونية مصممة ومهندسة لهزيمة الارادة الفلسطينية واستلابها وتحويل المناضل إلى عبء وافساده وتشويه صورته وتحويله من نموذج ومثال لشعبه إلى حالة انسانية معطوبه ومفككة.
لقد كانت السجون طوال تاريخها في التجربة النضالية الفلسطينية مصدر فخر واعتزاز، وتعبر عن الصورة النضالية والحضارية المشرقة لشعبٍ يقاتل في سبيل الحرية والخلاص. وشكلت السجون ميداناً جديداً للصراع، فيه يمضي الفلسطيني متحدياً بإرادته وصموده وانتمائه وامعائه الخاوية غطرسة المحتل ووسائل قمعه وكانت السجون تخرج القادة والمثقفين والمبدعين ولا تختزن الذاكرة الجمعية الفلسطينية غير هذه الصورة للأسرى طوال أكثر من نصف قرن من النضال.
غير أن هذه الصورة تعرضت لانتكاسة في السنوات الأخيرة، في ضوء تراجع الحياة الثقافية والتنظيمية في السجون لصالح بروز ظواهر سلبية كالشللية والمناطقية وتفشي الثقافة الاستهلاكية، وتقديم المصالح الشخصية على المصالح الوطنية، وظهور ما بات يعرف بالممالك وامراء السجون. كما نجح مشروع مصلحة السجون القائم على الشرذمة والتفكيك، في التسلل إلى الوعي والارادة في كثير من الحالات، وثمة تواطئ من جانب العديد من " مخاتير السجون" مع إدارة السجون ، تحت ذريعة الوصول إلى حياة اعتقالية مستقرة ترعى حاجات ومصالح الأسير، فتراجعت الحركة الأسيرة ولم يعد التضامن الاعتقالي قائماً، حيث تتغدى هذه الحالة على أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، وحالة الانقسام السائدة خارج الأسوار فالصورة لم تعد مشرقة وثمة صور ومواقف مؤلمة ومريرة لم يحن بعد أوان الكشف عنها.
لكن ثمة أعداد كبيرة تمثل الغالبية العظمى من الأسرى، ولم يتمكن العدو من اختراق وعيهم وهزيمة ارادتهم ولا يزالوا يعبرون عن الصورة النضالية المشرقة، ويواصلون صمودهم واصرارهم ومواقفهم المبدأية لا تزال على حالها والكثير منهم شكلوا حالات ثقافية وابداعية مهمة بين جنبات السجن.
إن الكتابة من قلب السجن، وعن السجن، تنطوي على أهمية فائقة في ظل معركة التحرر الوطني. فالكثير من الأسرى يعون دورهم الوطني والتاريخي في هذه المعركة، وإن كتاباتهم تأتي في هذا السياق، وأنه يتعين عليهم أن ينتجوا أدباً وثقافة لائقةُ بتاريخ الحركة الأسيرة، وبنضال شعبهم، وهو يخوض معركته للخلاص والانعتاق.
والكثير منا يدرك أن ثمة من ينتظر بشغف ما يصدر من ساحات السجون، صحيح أن الانتاج شحيح وفي أحيان كثيرة لا يعكس ابداعاً ، ويعاني من ضحالة في المضمون وركاكة في الأسلوب واللغة لكن ايضاً توجد لدينا أقلام مبدعة حظيت باهتمام النقاد والمتابعين، وثمة أقلام واعدةٍ ايضاً ، سيكون لها شأن في المستقبل. المهم أن يتعاونوا جميعاً لتطوير ودعم ثقافة السجون، وتشجيع الانتاج الثقافي والأدبي والفكري والسياسي والأكاديمي والاعلامي والبحثي، لنساهم في تشكيل وتطوير وثقافة اعتقالية تليق بشعبٍ يقاوم في سبيل حقه في الوجود وتعزيز هذه الثقافة لتؤدي دورها في تحفيز واثراء الثقافة الفلسطينية والعربية، لتتلاقح كلها معاً، وتؤدي دورها الحضاري والنضالي في هذه المعركة المصيرية.
من ناحيتي لطالما آمنت بعمق، بأهمية الأدب والثقافة في المعركة التحررية. وكان لي شرف المشاركة في الانتفاضتين الأولى والثانية . والنشاط الطلابي في الجامعات، والنضال الجماهيري، والنضال الاعتقالي في السجون. وها أنا الآن في ميدان آخر، هو ساحة الثقافة الاعتقالية، أساهم في خوض غمارها ايماناً مني بأن المناضل يتعين عليه أن يبقى مناضلاً في مختلف الساحات والميادين والحقول. أؤدي واجبي الوطني والأخلاقي. ومن هنا أواظب على الكتابة.
ويدرك السجان خطورة ما ينتجه الأسرى من كتابات داخل السجن، خاصة إذا كانت هذه الكتابات تحمل ابداعاً يحظى بالانتشار، لإنه من زاوية يثبت فشل الاحتلال فتهزيمه الارادة الفلسطينية ،ومحاولة كيَ وعيها، وفي تدجين الانسان الفلسطيني باخضاعه للاجراءات التنكيلية القاسية، ومن زاوية ثانية فإن هذا النوع من الثقافة يعكس بعداً انسانياً وحضارياً يسعى الاحتلال لطمسه وتشويه صورته، لإن من شأن الكتابة من قلب السجن أن تكشف عن ممارساته العنصرية والاجرامية، وتفضح مزاعمه عن الديمقراطية وحقوق الانسان ، كما أنه من الممكن أن يخلق تعاطفاً مع الأسرى، الذي سعى ويسعى الاحتلال لوصمهم بصورة الارهاب.
ومن زاوية ثالثة يخشى الاحتلال العنصري من تأثير كتاباتنا بين الجماهير لذا يحرص على متابعة كل حرف يصدر من السجون، وتسارع مصلحة سجونه إلى اجراءاتها العقابية والتنكيلية من تنقلات تعسفية وتفتيشات همجية، ومصادرة ما بحوزتنا من مواد كتابية وأحياناً زجَ البعض من في الزنازين أو حتى في العزل الانفرادي، أو الحرمان من الزيارات العائلية وغيرها من اجراءات عقابية، في حال خروج مادة يعتبرها الاحتلال تحريضية ومن ناحية الأسير المؤمن برسالته الكتابية ليس لديه ما يخشى عليه، وهو يقبع في أسره الأبدي ، ولا يعد لديه سوى ارادته وأقلامه وأوراقه، كأسلحة يواجه فيها غطرسة السجان واجراءاته التعسفية.