بقلم الأسير: نادر صدقة

قراءة في المشهد السياسي الصهيوني الراهن

الأسير الرفيق نادر صدقة

خاص_مركز حنظلة

"إن المشروع الصهيوني ليس سوى مشروع كولونيالي إمبريالي التقت مصالحه وأهدافه بالطموحات القومية بشريحة من اليهود، وكانت الحركة الصهيونية هي الأداة التي تمثلت تلك المصالح وجيرت تلك الطموحات لخدمة مشروعٍ واحد وهي في طريقها لتحقيق إقامة بما تقوم به كل الحركات الاستعمارية المشابهة وبشكل أكثر حدة وعنفًا من قتل وتدمير وتهجير لأرض وشعب فلسطين الذى كان له حضارته وثقافته وتاريخه وتراثه وما حصل في فلسطين في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي هو مشروع احتلالي إقصائي قامت به الحركة الصهيونية بدعمٍ وغطاء من القوى الغربية الإمبريالية".

هذا الاقتباس مأخوذ عن مداخلة لأحد المفكرين اليهود في مؤتمر تيار مابعد صهيوني في منتصف التسعينات، خيارًا قدم رؤية جديدة نقيضة للرؤية الصهيونية الكلاسيكية التي قدمها الاتجاه الرسمي للاستهلاك المحلي طوال سنين وجود الكيان الصهيوني، رؤيةً كان ممكن لها أن تشكل أساسًا لفكر وممارسة سياسية مختلفة عن الاتجاه السائد، إنما سرعان ما تم محاصرتها ورصدها بل وملاحقة وطرد رموزها ليتحول التيار الذى وصل إلى أوج نموه واتساعه ورواج طموحاته في نهاية القرن الماضي إلى تهمة سياسية أقرب إلى الخيانة وهنًا.

إن المتتبع للمشهد السياسي الصهيوني في الشهور الأخيرة يرى مشهدًا لم يسبق له مثيل في تاريخ الكيان من العبثية والغوغائية، فقد تفتق الوعي السياسي الصهيوني عن كرنفالًا أو بالأحرى سيركًا ديمقراطيًا لا ينتهي، صورة سيريالية قل نظيرها في النمط السياسي المعاصر عكست شكلًا من الانقسام الحاد في المجتمع انقسامًا لا يقف ورائه أي من التناقضات فكرية كانت أو سياسية من تلك التي تغذي عادةً مثل هكذا انقسام، فالواقع السياسي الصهيوني يبدي صورة حادة من التنافس والتزاحم على اجترار القائم وتأكيده وتثبيته، وكأنما ترى فريقان في لعبة شد الحبل يستبيت كلاهما في اللعبة بينما يقفان في ذات الجهة فلا يفصل بين الخصوم المتنافسة على الساحة السياسية الصهيونية على صعيد التناقضات الأساسية الرئيسية أي فارق جوهري أو حتى مظهري، والحديث هنا حصرًا عن المعسكر الصهيوني الذي لا يشمل الأحزاب السياسية العربية وشكل المنافسة معها والذي يبرز فيه اتفاق الصهاينة لا اختلافهم وهو ما سنعود إليه لاحقًا، فالنتائج التي أفرزتها ثلاث جولات انتخابية متتالية عبرت بوضوح عن عدم قدرة الجمهور الصهيوني على التمييز بين المتنافسين بشكلٍ حاسم فالخلاف تركز على شكل رأس هرم السلطة وليس على إتجاهه الفكري أو السياسي والمنافسة هي بين معسكر يسعى إلى احتكار التوجهات اليمينية المتشددة وآخر يسعى إلى كحر احتكاره لها في نوعٍ من الاجترار الفكري الذي أدخل المجتمع السياسي الصهيوني في دائرة مغلقة من التخبط والارتباك وحالة من عدم الاستقرار السياسي المزمن، ففي العقود الأخيرة نادرةً هي الحكومات الصهيونية التي أتمت دورتها الانتخابية في السلطة ناهيك عن سياقٍ لا ينتهي من الأحزاب السياسية التي تولد وتختفي خلال دورة انتخابية أو حتى خلال أقل من ذلك، فضلًا عن الممارسات والتحريض الشعبوي الذي يزداد تطرفًا وعدوانية بين المعسكرات والأحزاب المتنافسة دون أن يستثني ذلك أي من المتنافسين، وهذا كله في المجمل يعير عن شكلٍ جديد من الصهيونية يختلف في أداءه وممارساته عن الصهيونية التقليدية التي حاولت أن تقدم شكلًا أكثر رقيًا، وإن لم تخلو تجاربها من هذه الممارسات لكن الوضع الراهن تسيطر عليه هذه الممارسات بشكل شبه مطلق وللتدقيق فإن هذا النوع من الشعوبية السياسية بدأ في دولة الكيان مع ازدياد بروز ونفوذ اليمين المتطرف في مراكز صنع القرار فيه وازداد انتشاره وبشكلٍ يومي مع ازدياد هذا النفوذ وصولًا إلى سيطرته بدون منافسٍ على السلطة، وبناءًا على ماسبق فإن المشهد السياسي الصهيوني الراهن تعبر عنه أحزاب وتيارات سياسية تعكس بدورها شكل التباين الثقافي والاسمي أكثر مما تعكس تنوعًا سياسيًا وفكريًا حقيقيًا، فالتوجه الصهيوني الجديد يحمل جملة من الآراء والأفكار والتصورات يقدم من خلالها تفسيراته للواقع بشكل يجعل من الصعب على أي رأي مختلف الحصول على القبول إذا ما خرج عن هذه التفسيرات أو علينا، وقد تشكل هذا التوجه في أربع عمليات متوازية كالتالي:

1- اللعب على وتر التهميش والتمييز التاريخي الذي تعرضت له الطوائف اليهودية من أصول غير غربية، أي بمعنى كل من لا ينتمي إلى اليهود الأشكناز وهذا العامل يزداد تعمقًا في المجتمع الصهيوني مع التقادم وليس العكس والاتجاهات اليمينية التقليدية اعتمدت عليه أساسًا بغية الوصول إلى السلطة ولم تترك هذا السلاح منذ إثباته لنجاعته أول مرة بل على العكس زادت وتيرة التركيز عليه حملةً انتخابيةً بعد أخرى، والمفارقة هنا تكمن في أن الشعور التاريخي بالغبن لدى هذه الطوائف لم يتراجع بعد السياق الانتقامي الذي مارسته وتمارسه خلال أكثر من أربعة عقود، إنما يزداد مع السنوات تعمق وتزداد ردود فعله عدوانيةً ولا يجدي مع هذا الواقع السؤال المنطقي المطروح حول الطرف الذي سيطر على مقاليد الحكم خلال معظم سنوات تلك الحقبة باستمرار التهميش والتمييز، فما أفرزه الانقلاب السياسي الانتقامي في الكيان في العام 1977 لم يغير كثيرًا من الشعور بالدونية والإحساس بالجبن عند هذه الطوائف لكن ومع ذلك فما زالت ردود الفعل تأخذ منحى طائفي وتستخدم للتحريض والتهميش ضد الوجهة التقليدية بدون أي احتكام لحقائق الواقع في أهمية القضية تجد تعبيرها في هذه الكتلة البشرية بشكل جلي فهي تقتات كل ما يبقيه لها الاتجاه الرسمي ومنظومتها الأخلاقية قادرة على امتصاص كل الشذوذ الرسمي بدون أي حس نقدي ودون أن تعنى لها الحقائق مهما بدت واضحة وجلية بل العكس، فولاءها ثابت وتبريري وتمترس خلف حالة من الإنكار والتوسعات الذاتية تصبح معها كتلة صماء وخطرة حتى على الحزب الصهيوني الليبرالي الذي أخذ مهمة النهوض بالمشروع القومي الديمقراطي على عاتقه، هذه الجموع تشكل اليوم الخزان الاستراتيجي للفكر والأحزاب اليمينية فهي فضلًا عن كل ما ذكر لديها القدرة على امتصاص النتائج الكارثية سواءً على الصعيد الاجتماعي أو السياسي للمنظومة الإقتصادية اليمينية وشكواها تبقى في إطار إمكانية السيطرة والتوجيه وعداءها اتجاه الآخر أيً يكن ذلك الآخر حسب أولويات الزمان والمكان تجعل منها كلب حراسة في الاتجاهات السائدة.

2- تعزيز حالة التطرف لدى المجموعات القومية المتدينة في الكيان وهي المجموعات التي تعتمد أساسًا على الاتجاه اليميني القومي الطوائفي اليهودي الغربي أو ما اصطلح على تسميته بأصحاب القبعات المخذولة، وهي مجموعة تزداد عددًا وأثرًا كونها تشكل حلًا وسطًا بين المتدينين الذين ينتمون إلى الجماعات التي لا تؤمن بالفكر القومي العلماني، وبين العلمانيين الذين لا يؤمنون بالسلبية التقليدية للجماعات الدينية فكل من ينحى منحى قريبًا من الطرف الآخر يجب نقره ضمن هذه الجماعات والتي تقدم نسخة متصالحة مع الدين والتوجه القومي، والتطرف هو جزء أصيل في بنيتها ويتم سياق تعزيز التطرف في معاقل الصهيونية المتدينة والتي تشكل المستوطنات الصهيونية في أراضي الضفة الغربية أبرز مواقعها، فهي موضوعيًا تشكل بيئة مثالية لبناء دفيئة فكرية ودينية منعزلة عن المحيط الحيوي والتفاعلي الذي بشأنه أن يوفر مغريات لتداول مفاهيم أخرى أكثر اعتدالًا وعقلانية من جهة ومن جهة أخرى توفر هذه المستوطنات بيئة عملية لتغذية البعد الرومانسي المتعلق بالغرب وتعزيز العلاقة معها عبر استكشافها وحمايتها وغيرها من المفاهيم التي تقبع في أساس الفكر القومي المتطرف، ناهيك عن التربية العسكراتية التي تربي على الانضباط والالتزام والتضحية وقداسة السلاح والروح القتالية الفاعلة، وكلها مفاهيم ليست أصيلة في البعد الديني اليهودي وتعززها تلك الجماعات لدى أفرادها في مدارسها الخاصة المنتشرة ليس فقط في المستوطنات إنما أيضًا في المدن المركزية الصهيونية لتشكل مصدر جذب للجماعات التي ذكرناها سابقًا، هذه الجماعات في فكرها الأقرب إلى الفكر الفاشي، تأخذ على عاتقها العمل الأسود في الأداء السياسي الراهن والهادف إلى تنفيذ أجندته السياسية التي لا تحظى بالرضا في المؤسسات الدولية، ويستطيع الحاكم$$ التبرأ منها وقطف ثمارها في ذاته ولذا فضمان ولاءها يحتاج من السلطات الصهيونية إلى مزيدًا من الممارسات القمعية والمواقف السياسية المتطرفة في دائرة من المزايدة السياسية لكسب ود الجمهور المتعصب يمينيًا، مزايدةً جعلت التمثيل السياسي لهذه الفئة ينقسم على ذاته من العدواني إلى الأكثر عدوانية ومن الفاشي إلى الأكثر فاشية، الأمر الذي أضعف كثيرًا من حجمها داخل مراكز القرار وفي التشكيل الحكومي، ولكن المفارقة هي أن التيارات الأخرى المنافسة تحاول استغلال هذه الالتزامات داخل هذا التيار وجذب رصيده البشري إلى صفوفها عبر المزايدة عليه في التطرف، فكانت الحصيلة أن حجمها ضعُف لكن تأثيرها وتأثير وتوجهاتها يزداد بشكلٍ عكسي.

3- العمل على صهينة التيار الديني المتشدد، والمعروف عنه تناقضه مع كل الفكر القومي وعلمانيته ومؤسساته، وهو يعيش كجسمًا طفيليًا على حساب باقي مكونات المجتمع، فهو لا يؤمن بثقافة العمل ولا يساهم في الإنتاج ويدور في فلك تطورات وتوهمات خلاصية، ويؤمن أنه يساهم من خلال سعيه في سبيلها أنه يقوم بالدور الأهم في حماية الأمة والشريعة والمجتمع اليهودي، وهذا التيار فضلًا عن امتلاكه لرصيد بشري وانتخابي وصل في ذروته إلى أكثر من عشرين مقعدًا في الكنيست الصهيوني فهو يمتلك ميزة الإنضباط الصارم لدى مناصريه الأمر الذي مكنه من فرض قوانينه وأسلوب حياته على المجتمع والمؤسسة عبر ممارسة الإبتزاز السياسي الفج من المكونات السياسية الصهيونية التاريخية. 

أما الجديد راهنًا فهو سعي الإتجاه الصهيوني الجديد إلى تمرير المفاهيم والرموز القومية لهذا التيار ودمجه كلاعب فاعل، أو على الأقل التخفيف من سلبيته تجاه المؤسسة والفكر القومي، الأمر الذي من شأنه أن يخرجه من حالة الإبتزاز ويحولها إلى حالة من الولاء للمعسكر اليميني المتطرف، وهذا يتطلب من الطرف المعني مزيدًا من الخضوع باشتراطات وتأثير هذا التيار في السياسة والمجتمع، ويجعل من كسب وده مبارزة بين المعسكرات تجر المجتمع إلى مزيدًا من التطرف ونبذ الآخر والتطيّر وتغييب الحس النقدي والفكر العلمي وهي وصفات فعالة بوضع المجتمع على المنحدر الزلق ذو الأحادية الفكرية وتجريم الاختلاف.

4- الإسراع في دمج الكيان الصهيوني في التيار العولمي على طريقة المحافظين الجدد، بما يشمله ذلك من توجهات وسياسات اقتصادية أطلقت يد رأس المال في الاقتصاد الصهيوني، وغيّبت أي نوع من الرقابة المركزية عليه، الأمر الذي زاد من حدة وعمق الفجوة الاجتماعية وزاد من عدد وتهميش الجموع المهمشة، والتي في ظل غياب من يهتم بتوعيتها وتمثيلها، تجد خلاصها في التطرف القومي والتطير الديني واللذان يشكلان ادوات السيطرة الأسهل والأنجع عليها، أما سياسيًا فالتحالف الفجّ والفاقد حتى لأبسط أشكال اللياقة السياسية والدبلوماسية مع الصهيونية المسيحية، والذي فتح شهية العدوان الصهيوني على آخرها، وكرّس من حالة السجود للقوة وعبادة الذات في المجتمع الصهيوني، وأدخلته في حالة من النشوة والشعور بالقدرة الأهلية، وهي الحالة التي يغيب فيها حس النقص وتصمّ الآذان عن سماع أي رأي عقلاني، أو فيه بعض الاعتدال، كلها أمور وعوامل وحّدت الأداء السياسي الاقتصادي لدى كل الطيف السياسي الصهيوني وسبقتها بلونٍ واحد ربما مع اختلاف درجاته ليس إلا، هذه التوليفة من التطرف القومي والتطيّر الديني والانحلال الاقتصادي والسياسي والإغراق في الشعبوية، تُشكّل اليوم الإطار الذي يدور فيه حالة التمثيل السياسي الصهيوني على مختلف مشاغره، أما في ما يخص التيار الصهيوني التقليدي فقد تلاشت توهماته عن نفسه كتيارٍ ليبرالي ديمقراطي أمام المد الجارف للتيار الجديد، كما اندثر أثر أحزابه عن الساحة السياسية، والتي اضمحلت إلى كتل صغيرة في طريقها إلى التلاشي التام، أما جمهورها والذي في جزء كبير منه مهيئ لقبول طموحات وتوجهات الصهيونية الجديدة أو بعضها، فيعيش حالة من التذبذب وانعدام الوزن وغياب المرجعية في الميل السياسي، وفي العقود الأخيرة صار تعبيره السياسي أقرب إلى "ضد من منه" إلى "مع ماذا".

وبما أن الوعي السياسي هو بالأساس وعي تغييري، والتغيير هو فعل حيوي ودينامي لا ينسجم مع واقع الجمود والتماثل، فإن غياب الطرح المتمايز لهذا التيار الذي من شأنه أن يوفر المزيد من الطموحات الزائدة، أفقد الأحزاب التقليدية في هذا التيار مبرر وجودها ووضعها في خانة التكلّس والاندثار، ودفع الكثيرين من أنصارها إما من الاندماج في التيار السائد أو العزوف عن المشاركة السياسية إطلاقًا، فحالة الخوف من تقديم طرحًا برنامجيًا مناهضًا، أو على الأقل متمايزًا، والسعي للاندماج والتماثل مع الاتجاه السائد التي مارستها الأحزاب المنطوية تحت هذا التيار، والموقف الحاد والمتبرّك تجاه النزاعات الفردية في صفوفه، والتي عبرت عن رفضها وخروجها عن ما أسمته "دحشة القطيع"، كلها عوامل وممارسات قدّمت للجمهور الصهيوني تشكيلة سياسية يقدم جزءًا منها أداءً معينًا، بينما يسعى الجزء الآخر إلى تقديم نسخة مقلدة عن هذا الأداء فكرًا وممارسة، وبالتالي فقد كان عليه الاختيار بين النسخة الأصلية وتلك المقلدة، والتي في كثيرٍ من الأحيان يبدو تقليدها متكلفًا ومتصنعًا وغير مقنع، أما على صعيد من هم خارج تلك البنية أي سكان فلسطين المحتلة العرب والذين لا يمكن اعتبارهم لا ذاتيًا ولا موضوعيًا من ضمن هذه البنية لا راهنًا ولا سابقًا، فالأداء الصهيوني السياسي اتجاهها كان محكومًا دائمًا بواقع الاتفاق الوثيق بين الذاكرة الجمعية والتصور الذاتي للأخلاق والذي بناءً عليه كانت تصورات المجتمع الصهيوني الذاتية عن الخوض فيه محكومة بالهروب إلى الأمام وتقمص دور الضحية عبر سيطرة هذه الأقلية واستعدائها وممارسة كل أشكال التمييز والعنصرية ضدها، ولذلك يصبح الجلاد هو الضحية ويصبح مبررًا وشرعيًا كل ما مارسه ويمارسه ضد ضحيته التاريخية من ممارسات قد تمس بتصوره الأخلاقي عن ذاته ولن تجدي في هذه الحالة كل محاولات الآخر الاندماجية وسعيه لتقديم نفسه كجزءٍ أصيل من بنية تبحث عن آخر مختلف تبرر من خلاله نفسها وسياقها ولن يعدو ما أقرته حكومات الإحتلال خلال العقود الماضية من قوانين وتشريعات احتوائية سوى نوعًا من الغسيل الوردي للطبيعة الأصلية لهذا الكيان والتي سرعان ما تبرز وتسود في حال ما ألزمها هذا الغسيل "بإستحقاقات تتناقض مع أصل وجوده".

وما شكل التعاطي الراهن مع الوجود العربي في دولة الكيان سوى انسجام وتصالح مع السياق التاريخي له، وإن عبر عن نفسه راهنًا بشكل أكثر وضوحًا فالآخر العربي ولأسباب يقف وراءها عوامل مختلفة ليس أقلها عدوانية المجتمع الصهيوني ومهنيته الإقصاءية صار حاليًا يشكل وزنًا سياسيًا موحدًا ويكون وعيًا ذاتيًا يزداد طرديًا مع تطرف وعدوانية المحيط الذى يرى بزيادة حجم وتأثير الأقلية العربية السياسي تهديدًا يتناسب وحج تناقضه معها، وبالتالي تتغول لديه أوهامه الوجودية وأشباحه الخاصة بالإبادة وغيرها من التصورات المرتبطة بنيويًا لفهم مكونات المشروع الصهيوين لحقيقة التهديد المستمر الذي يحيط بوجوده والناتج تلقائيًا عن فهم الطبيعة الغير منسجمة لهذا الوجود مع ثقافة وحضارة وتاريخ شعوب المنطقة التي يُعد الوجود العربي الفلسطيني في الكيان امتدادًا طبيعيًا لها.

ناهيك عن أن غياب الاداء الداخلي المتمايز على الصعيد الفكري والسياسي حال دون الطروحات البرنامجية للتشكيلات السياسية والديمغرافية، لتشكل البديل الذي يكاد يكون قسريًا على الساحة السياسية في دولة الكيان، ولكون هذه التشكيلات لا يمكن اعتبارها جزءًا من البنية السياسية الصهيونية، فإن المحصلة هي أن البديل السياسي المطروح في الواقع الصهيوني ليس بديلًا بنيويًا، وبالتالي فتأثيره فيه سيكون عكسيًا، سيدفعه لمزيدًا من التطرف والعدوانية، فخروج الوجود العربي عن دائرة السلبية السياسية وممارسته لدورًا مناهضًا وفاعلًا، يعتبر من وجهة النظر الصهيونية السائدة إعلانًا رسميًا للحرب من قبل المختلف،وبالتالي زيادة قدرته على ترويض ذهنية القطيع لاستغلال كل ما يمرره لها تجاه هذا المختلف من شعارات وممارسات يستهدف من خلالها عزل وإقصاء، بل وإزالة وجود العربي من فلسطين المحتلة، وبما أن الهوية التاريخية لمجتمعٍ ما تتشكل وفق الواقع وطريقة تسيير السلطة السائدة لهذا الواقع، فإن هوية المجتمع الصهيوني تُعبّر عن التقاء وانسجام بين جوهر المشروع الصهيوني كمشروع امبريالي كولينيالي لا بد من انزلاقه في التعصب والتطرف، وبين تمغراته التي تعبر عن نسخة عرقية غوغائية من الفكر القومي تُسقط وتُخوّن كل القيم والأفكار الأخرى، نسخة مفارقة للتاريخ، جاءت نتيجة للدمج الفاشي بين هذيان الإرث التوراتي وجنوح القومية الحديثة، اللذان أورثا معًا لأعضاء المجتمع تصورات مختلة عن الذات، تُركز على الطهورية العرقية والتطرف القومي والتعصب الديني، وتفقد الأداء السياسي مكونًا أساسيًا من مكونات الحركة، وتُغيّب أي أُفق لممارسة سياسية حقيقية فيه.