يمضي على اعتقال الأسير شادي الشرفا ستة عشر عاماَ

محيط الأرقام مقال بقلم الأسير شادي الشرفا

المصدر / خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين _ بقلم الرفيق الأسير/ شادي الشرفا

مضى على اعتقالي ستة عشر عاماً، "عام بعد عام. ومازال أمامي بضع سنوات أُخرى. لا أدري كم تبقى بالضبط، لأني ببساطة توقفت عن العد منذ القمعة الأولى. فمن جملة ما تعلمته داخل هذه الجدران أن العد مرهق، تماماً كالصغار الذين يرهقهم تعلم الأعداد، خاصة إذا كانت تنازلية.

وللأرقام حكايات تُروى في الأسر؛ فالزمن يتوقف لدى الأسير ليصبح كــ"الصفر" حافظ منزلة، لأن الحياة فيه تتغير وتتطور فيما هو في نفس الدائرة التي يحوم حولها حتى يدوخه السكون وتضاحكه أحلام الطفولة، ومشاغباته في المدرسة، وحبه الأول، وحنينه إلى وجبة ساخنة تعدها الجَدة، ثم يصحو على صيحات "العدد الصباحي" المبكر، يسبح في أصوات الأقفال، لينهض بعد دخول ضابط العدد الذي تطل من خلفه أنبوبة الغاز المسيل للدموع، يحملها كائن لم يبلغ من العمر التاسعة عشر بعد، يصوبها نحو أجسادنا النائمة، متأهباً لردة فعلٍ قد تأتي من أسير يحمل في دفينته بركاناً، أو ربما لمجرد تفكيرنا أنّه هو صاحب هذا المعبد. نسمع تلك الكلمة السحرية التي تنذر بالعودة للاستلقاء على البرش، كلمة ثمانية-شمونة- في إشارة إلى عدد النزلاء.

هناك من يصحو ليكمل نهاره بأكيدية، وهناك من يعود للاستلقاء بحثاً عن أحلامه تنسيه روتينه القسري في ظل نعاسه الذي طار على وقع العدد، فينبش في ذاكرته صوراً كانت أو خارج حدود بقعته الصغيرة بأمتاره المعدودة، وحين ينهض تعود لتطارده الأرقام، تتبعه لظله، بشبحها تعدو خلفه-خلفنا، يصارعها ونصارعها وبشق الأنفس نتغلب على رقم أحادي المنزلة، لكن حينما تجتمع الأرقام يصبح المشهد سيريالي يصعب مجاراته.

هنا يكتشف الأسير أن انسانيته مغيبة، اسمه لا يعد له معنى، إنه مجرد رقم يلازمه طوال فترة اعتقاله ويلاحقه كظله؛ فالسجان يتعرف على الأسير برقم، إذا كان خمسة منازل فهذا يعني أنه اعتقل منذ السبعينيات، وإذا كان ستة منازل فإنه نزيل منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهكذا دواليك.

وقصة الأرقام مع السجون تحمل في طياتها بعداً متحجراً من الذاكرة؛ فالرقم أُعد لشطب الروح، تماماً كما اقترفت النازية مع أسراها في معسكرات الاعتقال النازية-الغيتوهات- حيث رُسمت الأرقام على أذرع السجناء، ربما للتأكيد على تفوق الجرماني العرقي؛ فهي تلغي انسانية الآخر وتشعر بتفوقك الوهمي، فأنت انسان وهو مجرد خانات من الأرقام له نصيب في أفران الغاز.

لكن هنا الوقت مختلف قليلاً، فالمحرقة بطيئة أو مؤجلة، ونظرية إبادة الشعب تأخذ وقتها بمنهجية وذكاء، وأيضاّ هنا يكمن التحدي، حين أبى الأسير الفلسطيني التعاطي كونه رقماً، لعله يعيد إنسانيته الضائعة، وكانت هذه نقطة التحّول الكبيرة لنشأة الحركة الأسيرة، والتي تمردت أول ما تمردت على الأرقام.

كان جدي يرقم البهائم في مزرعته وكنت أنا أدعوها بأسماء وألقاب، ربما احتراًماً فكرياً لطفولتي، محظوظة تلك الأبقار لأنها لا تجرب تلك الخانات المعلقة على آذانها، أما هنا فالأرقام مثل الأشباح، تماماً مثلها، فعداد عمر الأخير يتصاعد ملاحقاً شبابه الذي ترك وحيداً خلال الاعتقال.

في السجن في هذا المنفى القسري يغدو محيط الأرقام هو الكاهن الأكبر، ومنشأ الأصنام الرقمية، تلك الأصنام المنقوشة على الأبراش والجدران: تواريخ إفراج مبهمة (أمد... أحكام... ورزنامة القدر والمصير)، تلك الأرقام السرمدية اللامتناهية واللامتناقصة.

ثم هناك محدودية الأرقام، هي عدم الكفاية وتمنّي الزيادة، مثل حصة الطعام، وساعة الفورة، مدة الزيارة، عدد المحطات التلفزيونية المسموحة، عدد الملابس المتاحة، عدد المراوح التي تقل كلما زاد الحر... وهكذا، يستمر عدد الكفاية ليصبح هو المنطق السائد والقانون المطلق للسجون.

حتى الفيلسوف وعالم الرياضيات فيتاغورس قد يعجز عن صياغة القوانين الرقمية التي تضبط إيقاع السجن، فعلم الرياضيات له خصوصية موجعة داخل جدران الأسر، خصوصية معمّدة بالمعاناة والقهر والعذاب، وأيضا الأمل.

محيط الأرقام هو سخافة القدر وظلم التاريخ، وبكاء طفلة تحت القصف، وعويل أم الشهيد، وأنين أسير تحت التعذيب، وعدد الخناجر التي غرست في ظهر هذا الشعب.