القدس عروس عروبتكم

بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة بقلم كميل أبو حنيش

المصدر / ​خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

 

قد يكون الشعر في كثير من الأحيان أكثر قدرة في التعبير عما يجوش في صدور الناس، لما يحمله من بلاغة وتجريد وصور فنية ودلالات ويسهل حفظه ويجري تداوله على ألسنة الناس، ويفهم مضمونه البسطاء والمثقفين، وبالإمكان مقطوعة شعرية أن تعبّر عن آراء وتطلعات ومواقف الملايين أكثر مما تعبّر عنه الكتب والتحليلات والمواقف السياسية واللقاءات الصحفية.

والشعر له قدرة على استشراف المستقبل والتنبؤ به لأنه أحياناً بمقدوره أن يرى مالم يستطع أن يراه غيره، فمظفر النواب يعد من أبرز الشعراء العرب في عصرنا المعروف بجرأته وقوة شعره وقدرته على اختراق الأسوار والسدود والوصول إلى قلوب الجماهير، وهو لا يجامل أحد ولا يختبأ وراء الرموز والاستعارات، وفي حال استخدمها إنما يستخدمها لأسباب فنية يحتاجها النص الشعري، وهذا الشاعر ساهم في نقد الحال العربي أكثر من غيره من الشعراء حيث كرس كل حياته وكامل أشعاره للقضايا العربية لاسيما القضية الفلسطينية حتى باتت قصائده ترددها ألسنة الملايين.

وخص الشاعر النواب القضية الفلسطينية وجعلها في صلب نصوصه الشعرية، وفي مدخل هذه المقالة أحببت أن أثير عدد من نصوصه الشعرية التي انتقدت الواقع العربي وكأن أشعاره التي خطها منذ عقود لا زالت صالحة في ظل ما تشهده الساحات العربية من حروب دموية ومؤامرات.

 ونبدأ بهذه النصوص التي ستؤسس لما سنعالجه بعد قليل، وهذا النص الخاص بالقدس والذي وُرد في قصيدته المطولة " وتريات ليلية"

القدس عروس عروبتكم

فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها ؟؟

ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها

وسحبتم كل خناجركم

وتنافختم شرفا

وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض

فما أشرفكم

أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة ؟

هذا النص الشعري الجارح والناقد للواقع العربي المتخاذل عن نصرة القضية الفلسطينية والقدس التي تركت بمصيرها ينهشها الوحش الاستيطاني اليهودي، ألقاه النواب قبل عقود وما زال الواقع العربي على حاله وما زالت الأنظمة العربية تواصل سياسة الشجب والاستنكار.

 ويواصل النواب جلده للذات العربية المتخاذلة ففي قصيدة " من بيروت " يقول:

آه ... آه يعقوب

راقـب بينك

فما افترس الذئب يوسف

لكنه الجبّ ُ

آه من الجبّ في الأمة العربية ... آه

ونحن الفلسطينيون نفسر رمزية " يوسف" الذي ألقاه أخوته في الجب ولم يكتفوا بذلك بل ما فتئوا يحاولوا إهالة التراب داخله أو محاولة بيعه بثمن بخس، كتشبيه لموقف الأنظمة العربية من قضية فلسطين، حيث يسخر النواب من هذه الأنظمة التي تخنق حريات شعوبها بذريعة أنها في حالة مجابهة مع " إسرائيل"،  ويقول في قصيدة " الاتهام":

إن من يغلقون السجون على الناس

لا يفتحون على القدس أبوابها المغلقة

ثم يصرخ في قصيدة أخرى:

ما هذا الصمت المتحرك بالشارع إلا إخصاء

 

إن هذا الصمت المريب في الشارع العربي تتحّمله الأنظمة التي تمنع شعوبها من التعبير عن رأيها منذ سنوات طويلة، وفي الوقت الذي تغرق فيه الساحات العربية بالفتن والحروب الأهلية نجد النواب يهتف من أعماق نفسه في قصيدة " بيروت":

كفرت بمن يحملون القواميس في حرب صفين هذي

فأول كل العلوم التراب

فمن لا تراب له لا سماء له

 

يذكرنا النواب بحرب صفين حين رفعت المصاحف على أسنة الرماح، ففي هذه الأيام تحمل الأنظمة والجماعات التكفيرية مصاحفها ومشاريعها المشبوهة وقد حرفت البوصلة عن فلسطين أرض الرسالات وقضية العرب الأولى باتجاه الحروب الطائفية والدينية والعرقية، وكيف لنا أن نصف أولئك الذين يتسترون وراء الدين من داعش والنصرة وما زالت أرض فلسطين محتلة وهم على حدودها لم يطلقوا رصاصة واحدة على " إسرائيل" ؟ ! إنها الفتنة وفي الفتنة تنحرف البوصلة ويتم فقدان الاتجاه.

ويحاكي مظفر النواب ذلك في جملة شهيرة ألقاها في قصيدة " الأساطيل":

أيها الجند

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

 

في هذه الأيام ونحن في قلب هذه اللحظة التاريخية حيث تدور الحروب الطاحنة وتسقط الدماء العربية وتتحطم الجيوش وتدمر المدن وتنفجر الصراعات المذهبية والطائفية فإن البوصلة منحرفة لا تشير إلى القدس ولا لغيرها من القضايا العربية.

أردنا افتتاح هذه المقالة بهذه النصوص الشعرية للشاعر العربي الكبير مظفر النواب لما تنطوي عليه من دلالات تعكس واقع أوضاعنا العربية والفلسطينية، في ظل ما تتعرض له فلسطين عموماً والقدس على وجه التحديد على أيدي " إسرائيل" التي ما فتئت تغرس سكينها في قلب الوجود الفلسطيني كلما ساءت الأحوال العربية، فإذا كانت فلسطين والقدس لا تسترد بالأشعار والشعارات، وإذا كانت الأنظمة العربية عاجزة عن الوقوف في وجه "إسرائيل" كان بمقدورها نصرة القضية الفلسطينية ولو بالحد الأدنى وبالمتاح بدلاً من تآمر بعض أنظمتها على تصفية القضية الفلسطينية وإشغال المنطقة العربية بالحروب الطائفية واختلاق العداء واستدعاء الأجنبي للمنطقة.

 وفي الحدث الأخير المتمثل بالاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لدولة الكيان كان يستدعي موقفاً عربياً حاسماً لا يتوقف عند حدود الشجب والاستنكار، هذا الحدث ليس بسيطاً كما يحاول بعض المهزومين العرب محاولة تفسير الموقف الأمريكي كأن يقال أن الرئيس الأمريكي " لم يقل القدس الموحدة أو الشرقية أو الغربية" هذا الموقف المهزوم إنما ينطوي على موقف متخاذل متآمر متساوق مع الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية.

إن هذا الإعلان يشكّل تحدياً كبيراً للفلسطينيين والعرب وكل من يهتم شأن القدس ولا داعي لطمس الحقائق وذر الرماد بالعيون والانشغال بتفسير إعلان " ترامب" الواضح وضوح الشمس.

و" إسرائيل" والولايات المتحدة كانتا في تنسيقٍ عالٍ حول هذا الاعتراف، وكانت " إسرائيل"  تنتظر الوقت الملائم وتترقب الفرصة السانحة وهي من شجعت " ترامب" على اتخاذ هذا القرار في هذا التوقيت في ظل تردي الوضع العربي الفلسطيني،  حيث أعُلن القرار ولم تكن ردود الأفعال بالحجم المطلوب ولم تتعدى الشجب والاستنكار في الدوائر الرسمية العربية كما درجت عليه العادة، وراهنوا على توقف الحراك الشعبي الفلسطيني والعربي الغاضب، وأنه بعدها ستهدأ النفوس وسيرجع العرب والفلسطينيون إلى بيت الطاعة الأمريكي، وبهذا ستكون "إسرائيل" قد خطت خطوة إضافية ومهمة استراتيجية في السيطرة على القدس وتهويدها، فهذا الإعلان ينطوي على مخاطر جسيمة، وعلينا الانتباه إلى  قادم الأيام  بما يحل في القدس والتي ستصبح مادة دسمة للمخططات الصهيونية وللدعاية والمزايدات الانتخابية.

 ومن يظن أن " إسرائيل" ستكتفي بهذا الإعلان فهو واهم فهي ذاهبة إلى أبعد مدى في عملية تهويد القدس ومصادرة الأراضي فيها وبناء عشرات الوحدات الاستيطانية وغيرها من الإجراءات الاقتصادية والقانونية والأمنية التي تستهدف تضييق الخناق على سكان القدس وإجبارهم على الرحيل.

ويجب التنويه ولفت الانتباه إلى قضية ربما تكون غائبة وهي المتعلقة بمسألة القدس الغربية والشرقية، حيث يجري الإيحاء بأن القدس الشرقية تساوي القدس الغربية - ومع أن كاتب هذه المقالة لا يؤمن بحل الدولتين ويؤمن بوطناً واحداً لا يتجزأ - ولكن ذلك لا يمنع من تسليط الضوء على بعض الحقائق الخاصة بالقدس. فقبل نكبة عام 1948 كانت مساحة القدس بشقيها الغربي والشرقي قرابة 45 كيلو متر مربع، وبعد النكبة احتلت "إسرائيل" القسم الغربي من القدس حيث بلغت مساحتها " 38" كيلو متر مربع ودمرت 37 قرية عربية، بينما سيطر الأردن على القسم الشرقي من القدس البالغة مساحته 6 كيلو متر مربع فقط، وبعد عام 1967 أكملت "إسرائيل" احتلالها للقسم الشرقي وأعلنت عن أن القدس موحدة وعاصمة لها.

ومع الوقت أخذت تُوسع من مساحة القدس على حساب أراضي الضفة حيث أصبحت اليوم المساحة الجغرافية للقدس تقدر بـ  130 كيلو متر مربع، كما أنها أغرقت القدس الشرقية بالمستوطنات والمستوطنين، حيث يبلغ عدد المستوطنين في القدس الشرقية أكثر من 200 ألف مستوطن يشكّلون ما نسبته 43% من سكان القدس الشرقية؛ فاستمرار الحديث عن القدس الشرقية التي تبلغ مساحتها 6 كيلو متر مربع كعاصمة مستقبلية للدولة الفلسطينية، والقدس الغربية التي تقوم على مساحة كبيرة من الأرض عاصمة لدولة الكيان وتناسي حقيقة أن القدس الغربية قامت على أنقاض 37 قرية عربية مدمرة إنما يشكّل تضليلاً كبيراً وطمساً للحقائق، وإذا بقينا على هذا الموقف فإنه  لن يتبقى من القدس سوى اسمها فحسب.

فإذا كانت القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى وفي القلب منها قضية القدس، فإننا نتساءل فلماذا تتخلى الأنظمة العربية عن حماية إسناد ودعم القدس؟ ولماذا لا يسمحوا لشعوبهم بالتظاهر انتصاراً لها؟ أين هو الدعم السياسي والاقتصادي للقدس وأهلها؟ وهل نكتفي بالبيانات والتنديدات بأروقة الأمم المتحدة؟.

كما أوجه رسالة إلى دول الخليج مثل السعودية إذا كنتم عاجزين عن حماية فلسطين والقدس فابتعدوا عنها، ولا تتواطؤوا ضدها وضدنا، ولماذا تساوقتم مع صفقة القرن الأمريكية ومارستم ضغوطاً على الفلسطينيين للقبول بأبي ديس عاصمة للدولة الفلسطينية بدلاً من القدس؟ لمصلحة من تجري عملية تعزيز العلاقات السرية والعلنية مع " إسرائيل"؟  لمصلحة من تنهالون بالقذائف والصواريخ على أطفال اليمن؟ لمصلحة من تساعدون " إسرائيل" على ضرب حزب الله؟ لمصلحة من تدعمون داعش وأخوتها بمليارات الدولارات؟ تلك الأموال التي دمرت العراق وسوريا وليبيا ولبنان واليمن، لمصلحة من تجري عملية إذكاء نار الطائفية والمذهبية وتشكيل محور سني ضد إيران؟!

إن كل ذلك يصب ربحاً في رصيد " إسرائيل" التي تستغل هذه المواقف المتواطئة للإمعان في إذلال الشعب الفلسطيني والسيطرة على أرضه ومقدساته، وهي ذات المواقف التي جعلت الإدارة الأمريكية تتجرأ وتمنح القدس هدية "لإسرائيل"، أليست الولايات المتحدة صديقتكم الحميمة؟ كيف تجرأت هذه الدولة على هذه الفعلة وأنتم من المفترض أن تكونوا أكثر من غيركم تمتلكون القدرة على التأثير عليها وبدلاً من هدر المال على شراء السلاح واختلاق الأعداء وإفساد الأجيال العربية ووسائل الاعلام التي تمتلكونها لإشعال الفتن الطائفية ودعم القوى الظلامية! ما الذي يمنعكم من دفع الأموال للقدس وتعزيز صمودها؟ لماذا لا تقومون بفك الحصار عن غزة وعن الشعب الفلسطيني وتواجهون بقوة سياسة مصادرة أرضه؟ وبدلاً من ذلك تحرفون البوصلة نحو إيران وحزب الله وأية مقاومة عربية؟!!

وإجمالاً، فإن الأمة العربية منشغلة بالحروب وتترك القدس لقمة سائغة للوحش الاستيطاني الصهيوني، والبوصلة العربية ليست منحرفة فحسب إنها متواطئة. وفي هذا الإطار يتعين علينا أن نهيئ الجماهير العربية التي رفعت صوتها وليست راضية عن تخاذل أنظمتها وتواطؤهم مع الولايات المتحدة و"إسرائيل" من أجل أخذ زمام المبادرة، ففي هذه المرحلة يتعين علينا أن نعيد البوصلة نحو القدس وفلسطين، أما حرفها باتجاهات أخرى فإنها تنطوي على تواطؤ وخذلان للقدس ولفلسطين.

(انتهى)

  • من أبرز قيادات الحركة الوطنية الأسيرة، مسئول فرع الجبهة الشعبية في سجون الاحتلال.