بقلم الأسير: نادر صدقة

مقال بعنوان: آل سعود ضيوفًا على موسكو

خاص_مركز حنظلة

ما الذي حدث أخيرًا لتحدث معجزة التقارب الحَميمِي الذي تشهده العلاقات الروسية السعودية؟!

أو بلغة أكثر علاقة بالتاريخ ماذا حدث ليصبح المَلاحِدة الروس أصدقاء مع وهابيي آل سعود؟!

وبلغة أكثر اتصالًا بالطبيعة كيف التقى قيظ الربع الخالي بصقيع سيبيريا؟!

والحديث هنا لا يدور حول مجرد بروتوكولات سياسية سطحية تستخدم عادةً لفتر ما يطفو على ماء العلاقات الدولية من جِيَف, إنما عن حَميمِية يرغب الطرفان بإظهارها للعيان بشكل استعراضي مُلفِت فوفد آل سعود الضخم الذي يرقص في حضن الدب الروسي هذه الأيام يرأسه ليس أقل من رأس الهرم القبيلة السعودي بشحمه ولحمه الأمر الذي لا يحدث كل يوم هذا إضافة إلى أن الزيارة تحمل منحًا حميميًا آخر وهو طول المدة التي قضاها الوفد إلى الآن هناك الأمر الذي يؤشر إلى كمية العسل التي يحملها معه الوفد لتعويض الدب إذا ما أراد أعضاؤه العودة سالمين خصوصًا وأن السُبات يقترب.

هذا عدا عن رُزمِة النشاطات والفعاليات والصفقات التي عُقِدت وما زالت بين الطرفين والتي يشعر من يراها ويراقب الصورة الاحتفالية والتي تُستعرض خِلالها حتى تلك التي من المُفترض أن تكون سريةً منها بأن الساعةَ تقترب خصوصًا إذا ما كان على بعض إطلاع المشوب بالكثير من الدمِ الفاسد في العلاقة بين الطرفين.

فروسيا لعبت ولازالت في عزفها للحن العلاقة مع المنطقة العربية ولعقودٍ خلت على أوتار لم تطرب لها الأذن الحجازية الوهابية أبدًا, وإذا ما أحصينا الفهم أسوده وأصفره الذي أراقه آل سعود في محاولاتهم لصد التأثير الروسي بماضيه وحاضره عن المنطقةِ العربية سنُدرك أن "قارون" لم يكن سوى متسول مسكين أو إذ عددنا المؤامرات والنزاعات والحروب والأحزاب والأنظمة والمبادرات والصفقات والثورات والأفكار وهلم جرة من تلك المفردات التي حضرت وغابت على المسرح الذي وقف عليه الطرفان كخصمين سنعرف أن "أليس" لم تعرف شيئاً عن بلاد العجائب فهل جمع اللهُ الشتيتينِ بعدَ ما ظَنا كُلَ الظَنِ ألا تَلاقيا؟!

فما هي القوة المغناطيسية الهائلة التي لفتت نظر القبيلة التي تسيطر على مقاليد الحكم في أرض الحجاز والتي دارت مُذ وُجد في فلك الهيمنة الغربية عموماً والأمريكية بشكلٍ خاص إلى أن هنالك ما هو مغرٍ في فلك الروس؟

صحيح أن الخصومة الكلاسيكية بين الطرفين والتي كانت جزءً من ميراث الحرب الباردة بكل ما حمله هذا الميراث من أجنداتٍ يصح معها القول "لا أنت أنت ولا الزمانَ زمانُك" إنما لا يمكن التغاضي عن أن العودة الروسية إلى المنطقة والتي شهدها العقد الأخير بما حملته معها هذه العودة من خيارات وتحالفات وتوازنات لم تكن أجمل ما سمعه آل سعود ولا حُلفائهم التاريخيين من أخبار وأن الهيمنة الدرامية للأجندة السعودية وبالضرورة الأمريكية التي كاد سياق الأحداث في السنوات الأخيرة أن يؤدي إليها تمر في اختبار صعب ناهيك عن أن العلاقات الأمريكية السعودية لا تعاني من شطط عن الخط الذي سلكته طوال عقود وربما كان في زيارة المهرج من واشنطن إلى المنطقة واختياره للسعودية كأولى المحطات إضافة إلى سيرك الاستقبال الذي أُقيم على شرفه والمستويات الفلكية التي بلغتها قيمة الصفقات التي أبرمها هناك ما يؤشر على عمق التبعية والولاء اللذان تكنهما قبيلة آل سعود للعم "سام" والارتهان لإشارته للدفع و الطاعة وليس العكس فما الذي يدفع الأمريكان للسماح لبعض العسل الحجازي بأن يسكب في حَلقِ دبٍ آخر خصوصًا وأن وفاق الدبين في الآونة الأخيرة ليس على ما يرام, وما الذي تحويه مخازن السلاح الروسية ولا تستطيع أمريكا توفيره؟ وهل يملك آل سعود بين ليلةٍ وضحاها بأن يتحولوا إلى عبيد آبقين يتنمرون على أسيادهم بمحاباة خصومهم؟

إن من يحافظ على أدنى حس من المنطق العقلاني يعرف أن كل ما فعلوه آل سعود ويفعلونه وسيفعلونه, كان ومازال وسيبقى بعلم وإرادة ورضا أسيادهم في واشنطن فتاج الملك السعودي لا يعدو كونه عقالًا سيُضرب فيه على قفاه عند أول مبادرة سوء نية تخطر على باله والنظام السعودي يحتل رأس قائمة الأنظمة التي تعرف قيمة وجدوى الاحتماء بالظل الأمريكي من خطرِ حرارةِ شعوبها قبل أي خطرٍ آخر.

أما حل لغز هذا الاستعراض الحميمي للصداقة الروسية السعودية فبرأيي يكمن في روسيا وليس بمشايخ آل سعود فهؤلاء كما سبقت الإشارة ليسو سوى أدوات مطيعة للاعبٍ أكبر وأعظم إنما يفسر كل ما يحدث هو البراغماتية التي تظهرها روسيا في إدارتها لورق اللعب في المنطقة, فهي تريد أن تعيد ثقلها السابق (السوفيتي) إلى المنطقة إنما عبر التحلل من الالتزامات الأيديولوجية التي لازمت الحضور السوفيتي فيه وفرضت عليه تحالفات مع أطراف وتناقضات مع أخرى الأمر الذي أدخل الروس في دوامة الثقافة السياسية العربية ومتاهة الصراع الشرق أوسطي مما أفقدهم توازنهم أكثر من مرة والأنكى من ذلك أنهم خرجوا منها بخفي حُنين.

ومن يُمعن النَظر في خطي السياسات الروسية والأمريكية في المنطقة يتبين له خطان متوازيان لن يلتقيا معًا إنما كلاهما يتجه إلى ذات الوجهة وذات الأهداف والمتمثلة في الهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ لذلك فإن مصلحة كلا الطرفان تعني استمالة من يستطيع وما يستطيع بدون الاحتكام إلا لقانون المنافسة والمزاحمة الحرة ومقتضيات المصالح الخالية من أي حس أخلاقي أو مبدأي فالقطبية الأيديولوجية وَلت وحل محلها قانون السوق والرأسمال والشركات العملاقة والأجندة الامبريالية التي تعلمت النطق بطلاقة باللغة الروسية ومن تغمز له القوة الروسية التي تستعرض عضلاتها صباح مساء في المنطقة, يغفل وربما بفعل ذهنية المسحوقين التي ترغب بمن ينافس الهيمنة الأمريكية بأي ثمن يغفل أن هذا التنافس لا يعدو كونهَ تنافسًا بضاعيًا بحتًا ولا يهتم التاجر هنا لِما تكنه بضاعته من مشاعر وطموحات وآمال.

وبهذا المعنى فقد فهمت تجار السياسة الدولية من الروس أنهم قد دخلوا المزاد المفتوح في المنطقة العربية وبما أن لغة المناقصات والمزايدات ومؤشر الأسعار هي اللغة السائدة والأكثر فهمًا واستماعًا هنا وبما أن قياصرة السوق يملكون حقًا بضاعة يتاجرون فيها والمتمثلة بالثقل الذي يشكله الروس في الدفة الأخرى من ميزان المخططات المرسومة للمنطقة ولالتقاطهم لما يبثه الرادار الروسي من إشارات برغماتية ومصالحية في إدارته لعلاقاته هنا دفع الغرب بجرة العسل الحجازي إلى "الكرملين" عارضين بذلك بضاعة مضمونة الربح الوفير على تاجرٍ منافس وهو أمر لم تعتد عليه سوق التجار التي يفرض منطقها منافسوه على بضاعته لا أن يعرضوا عليه أثمن بضاعتهم, فما الجديد؟؟!!

وتجدر الإشارة هنا وبالكثير من التأكيد أن أطراف اللعبة جميعهم يفهمون قوانينها جيدًا فلا الروس بغافلين عن طبيعة العرض ومغازيه ولا الأمريكان بتجربتهم الطويلة معهم يرون خيرًا في محاولة استغفالهم ولا آل سعود اللذين يعون دورهم البضاعي جيدًا يهلوسون بإمكانية تجنيد الروس إلى جانبهم فاللعبة مكشوفة والمزاد علني والشروط واضحة فما يميز العروض هنا هو أنها للبيع بالمفرق وليس بالجملة وإن شئتم الدقة بالمفرق التفصيلي والتفصيلي جدًا وبهذه المعاني فإن المراد من كل هذه العملية هو وضع ثقل إضافي في الدفة الروسية من الميزان والسماح للروس بالاستفادة منه بشكل يجعل من الصعب عليهم لاحقًا التخلي عنه بسهولة وبالتالي مساومتهم على ما يمكن مساومتهم عليه من بضائعهم تحت ضغط خسارة ما أكسبتهم إياه البضاعة السعودية وبلغة أقل استخدامًا للاستعارات إنما يحاول الأمريكان وحلفاؤهم في الغرب وعبيدهم في الشرق فعله هو الضغط على الروس بالقوى السعودية الناعمة لابتزازهم سياسيًا والتخفيف من دورهم المتعاظم والحاسم في المنطقة العربية خصوصًا وأن هذا الدور قد أربك المخطط الأمريكي السعودي وقوض أساساته بشكلٍ خطير.

وبما أن الروس قد دخلوا إلى المنطقة بصفتها السوقية البحتة وبما أنهم الطرف الأقوى في المعادلة والرابحون في كل الظروف فقد رحبوا بالصفقة باعتبار أنها تدور في إطار التكتيك وليس الإستراتيجية وبما أن البيع في هذه السوق كما أشرنا هو بالمفرق فإن باستطاعتهم تحديد سعر وشروط بيع كل تفصيلة مما سيعرضونه استجابة للمطلوب وبما أن المال السعودي سائب فإن الخسائر المترتبة على الطرف الآخر مستساغة أيضاً من الأمريكان أما من سيطحن على طريق الصفقة فهي مجرد شعوب لا حول لها ولا قوة وليس لآمالها وطموحاتها وحقوقها وأحلامها ووعودها وصراعاتها أية قيمة.