"في ذكرى رحيلك يا أمي"

يكتب الأسير داوود هرماس إلى روح والدته

المصدر / خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

ها هي الأعوام تمر على رحيلك وعناقيد العنب يعتصر الحزن والألم مائها، وأعلنت حداد قطافها يا أمي ونثرت كل أوراقها الخضراء في درب الفرح كي لا يزورها ويسجد على صدرها، فصدرها يا أمي تثقله الآهات والأوجاع ومزيجاً من الدم الذي اختمر في كؤوس الانتظار، هل هي دمعة الفرح؟ أم دمعة لعبق ذكرى تخلد في المكان والزمان؟، تُخلد في زخرفات ثوبك المخمل ووشاحك الأبيض الذي يطل من ثناياه صبر السنين، تخلد بكل ريح بالثلج وقطرات المطر... تُخلد بزوايا البيت بضجيجه وصمته بدفئه وبرودته القاتلة... تُخلد بالأزهار والأعياد والشوارع والأسواق... فبعد غياب كل هذه السنوات يا أمي ها أنا ما زلت أسأل عن حالتي... أتنامين على وسادتي وسريري وتبحثين بين أشيائي وملابسي وغطائي عن رائحة مني... أتقبلين صور ورسائل الماضي وتفتشين بين زواياها عن حروف شوقي التي طالما اقتلعها من قلبي وأرسلتها على جناحي الشوق، فمن بعدك يا حبيبة جاهر ولم يعد يأتيني على نافذة زنازيني ويشفي فؤادي. وصار بستان قلبي خراب ماتت فيه كل الورود والحروف والكلمات... مات شوقي وحنينني الذي كان يرفرف في علياء السماء سعادة وفرحاً منتظراً بعد طول غياب لقائك... ماتت يا أماه كل أفئدتي في هذا الصباح حين أخبروني بفاجعة الأبدية أخبروني عن رحيلك وأنا كنت لا زلت أخط لك حروف رسالتي حروف شوقي وحنيني لأسألك فيها أما زلت تصنعين ما أشتهي من الطعام، أم عافته نفسك بعد غيابي؟ ما زلت تخشين على ملابسي أن يعتليها غبار السنين. أما زلت في انتظار مجيئي أم تأخرت عنك يا أماه أم بسبب ظروفاً قدرية ورحلت قبل الأوان؟!

أي خيبة قدرية هذه استطاعت أن تحطم كل آلامي وأمنياتي... أي عاصفة اخترقت كوكبي وتصب كل فيضانات حزنها فوق صدري... كُسرت أضلاعي يا أمي وحُبست أنفاس ألمي حتى صار قلبي كالبرتقال يعتصر الحزن ويسكبه في جسدي الصباح الظمآن... فحقاً يا أمي تأخرت وأصبح شوقي رماداً يكحل عيون الليل ساهر... إذاً يا حبيبة لن تأتِ وتطبعين قبلاتك على وجهي من خلف الزجاج لن تجلبي معك ما تحملين من أشواق وتحيات وصور لمن كان صغيراً وقد كبر خلف لوحة زماني. ألن تسمعي بعد اليوم شكواي... لمن سأشتكي يا أماه؟ هزمني الليمون والتوت فيما يتساقط في موسم الذهب ويبقى قلبي على ضفافة برج الحمل يتشرب ناراً من لهب... فمشارب الدم تغيرت واختلفت يا أماه فلم أكن أعلم أن الأحوال انقلبت إلا حين اقتربت واستضافوني بإشعال شموع جرح جديد... ألن أعود لأرى بسمتك التي تشق قيدي كلما شعرت بألمه يشتد على معصمي وأسمع ترانيم أدعيتك التي تلامس شفاه الروح... ألم أعود إلى البيت بعد كل هذا الغياب وأرى فرحتك تزينه وأنت تنثرين الورود والزغاريد والحلوى... إذاً أنا لن أعانقك وأقبل جبينك وأنت تستقبلين المهنئين يوم عودتي... إذا رحلتي يا حبيبة... رحلتي يا قديسة... يا جنة الله على الأرض... رحلتي وصارت شواطئ الدفء قاسية لا تطاق لولا شروق شمس وزهورها الذي ينصهر برملها مع اطلالة كل صباح.. رحلتي يا أيتها الغائبة الراحلة... رحلتي جسداً وظلت روحك الطاهرة معنا وبيننا لا تفارقنا، وصورتك الأجمل والأبهى مرآة عيوننا وقلوبنا وذكرياتك المشرقة والمضيقة لا تغيب عن بالنا وخيالنا نعيشها ونحسها في كل تفاصيل حياتنا.

فسلام سلام على روح الخالدة والطاهرة يا أمي

ابنك الذي يحبك داوود