اليسار الفلسطيني

الأزمة بين موضوعيتها وذاتيها ووحدة القوى اليسارية كخيار

اليسار
المصدر / وائل الجاغوب – منظمة فرع الجبهة الشعبية في سجون الاحتلال

إن الأزمة التي عصفت بالقوى التقدمية اليسارية الفلسطينية لها أسباب وعوامل ومفاعيل قد أخذت ما تستحق وربما ما يزيد عن حاجة تشخيصها من خلال تناولنا للعوامل الموضوعية والذاتية إلى دراسة المرحلة وتراكمها.

لكن بات مشروعاً ومنذ سنوات السؤال: لماذا لم تتمكن قوى اليسار من تجاوز هذه الأزمة؟ وبالأخص بعد ما تم كشفها ودراستها ورصد المطلوب من أجل تجاوزها؟ حيث تناولتها عشرات الوثائق ومئات الدراسات، أم أن الأزمة أصبحت أمراً واقعياً أنتج ثقافته ومصالحه ورموزه وسيطرته! وأصبح واقع الأزمة هو القاعدة ومحاولات تجاوزها هو الاستثناء، وبالتالي فإن مولدات وعوامل وظروف إنتاج الأزمة الموضوعية تتراجع أو تم تجاوزها، وبالتالي أصبحت العوامل الذاتية هي المعيق الأساسي التي تستحق أن تُطرح ويتم تناولها بالإجابة أو محاولة الإجابة رغم أننا ومنذ سنوات طويلة نراوح في المكان، نراكم أزمات حزبية وطنية، ونراكم محاولات مقطوعة نتائجها محدودة. ولمحاولة الإجابة نعود إلى بعض القواعد النظرية المعروفة على مستوى كوادر وأعضاء قوى اليسار لنراجعها أولاً كمدخل لمحاولة الاجتهاد بالإجابة وتقديم مشاريع أقرب للحلول " مقدمات نظرية أولوية".

إن ما ذكر من دور الظروف الذاتية والموضوعية وتأثيرها وشكل العلاقة بينهما محدود وواضح، من ناحية أن الظرف الموضوعي محدود لكن الذاتي محدود وحاسم، وثورياً نشير دوماً إلى أن الظرف الموضوعي غالباً ما يكون مجافي للثورة والثوار لكن الذاتي يجب أن يكون فاعلاً وواعياً يمثل الإرادة والتصميم بوصف الموضوعي كأسباب وواقع مجال عمله وهدف تغييره وتأثيره، هنا قاعدة التأثير والتأثر التي يلعب الوعي دوراً هاماً بها (الفكرة النظرية) فهي التغيير فمبرر وجود الحزب الثوري هو التغيير، وجوهر الفكر المادي الجدلي هو التغيير، فالحزب أداة تغيير، ليس على المستوى الموضوعي فحسب بل الذاتي أيضاً، حين تغدو الإرادة القادرة على إنجاز المهام، تحتاج إلى إحداث تغيير جاد وهذا عبر إخضاعها للنقد ليس لواقعها فقط بل لثقافتها ومفاهيمها والمواجهة لها ايضاً.

 أما مفهوم الثقافة السائدة والمسيطرة والأيديولوجيا الطبقية فهي كما تسود في إطار المجتمع تشمل تأثيراتها الحزب أيضاً ومفاهيمها وقيمها وأساليبها لتغدو ثقافة سائدة وممارسة وأكثر حضور وقوة من الثقافة المضادة إلى التي يجب على الحزب تقديمها.

مفهوم جوهري آخر يتعلق بالبعد التنظيمي والسياسي المعنوي، والذي لخصه الحكيم بتحديد "أن الحزب قيادته أولاً" بمعنى أن القيادة تعني قوة مثال بالممارسة واستعدادية وقدرة على التقاط اللحظة التاريخية الواضحة باتجاه التغيير وغيرها من المواصفات والنقاط المحددة للنظرية، وإلى جانبها الدور الفردي بكل حضوره وقدرته على التغيير والإيمان بذلك ما يستوجب هذا الأمر من توافر الأمل وخلق الإمكانيات لكل من ينتمي لقوى اليسار.

 إن هذه المقدمة التي تحتاج إلى إضافة وإلى إغناء ما ذكر فيها من مفاهيم نظرية أولية يمكن أن تعتبر أدوات لنقد وفحص وتقييم أوضاع الأزمة في إطار مستوى وقوى اليسار. هل ما زالت موضوعية أم تمحورت راهناً في إطار ذاتي بدعم مركبات ذاتية وهي من تحافظ على وجودها وفعلها منذ زمن أم لا؟ (ذاتية الأزمة).
 إن البعد الذاتي للأزمة، وبقائه بات سائداً ومهيمناً وهذا ما يمكن تلمسه من خلال عدة مظاهر تفرض هذا الاضطراب وأبرزها:


أولاً: ضعف الحالة القيادة اليسارية وعدم قدرتها على تقديم برامج مؤسسة على رؤية بديلة، وخوض نضال سياسي على الأرض ضمن إطار أهدافها، وفرض تمايزها بالخطاب والممارسة، وتأثيرها في إطار بنية الفعل السياسي الفلسطيني، ولم تستطع خلق بدائل واضحة، يضاف إلى ذلك ضعف الشرط القيادي الذي لم يسبق أن يقدم ثورة وقوة مثال وما يترتب عليه من استحقاق، وتحول قادة اليسار إلى نخبة منفصلة عن نبض الشارع وحراك بناها التنظيمية. والأخطر عدم قيادته لمشروع تغيير فاعل يمكن أن يتجاوز حالة المراوحة في المكان، كما أن دائرة الأزمة داخل الحالة القيادية باتت تشير إلى انهيار وأصبحت تخدم وجود الحالة القيادية او ان الأخيرة تأقلمت أو تعايشت وربما لا تريد أن تخاطر ويسجل عليها فشل آخر تحت مبرر (يكفي ما هو قائم).

ثانياً: التعايش والأمر الواقع، وعدم العمل من أجل التغيير، حيث أن ممارسة التغيير هي أبرز الغائبين فلا سعي لتغيير أدوات ووسائل العمل والبرامج والآليات، ولا التقاط لمستوى اللحظة السياسية ولا حتى التجديد النسبي للهيئات، فهو لا يستطيع أن يقوم بالدور المأمول منه.

ثالثاً: الثقافة السائدة بالممارسة داخل أحزاب اليسار، والمسيطرة والمتناقضة والخطاب والأقوال الصادرة والمفاهيم التي تضم عمل أحزاب اليسار تركز على تصوير الواقع أكثر من تغييره، وعدم الاهتمام في القدرات الشبابية وتحديدها في ظل شعار بعيداً عن استقطابهم واستثمارهم بشكل حقيقي وفتح المجال أمامهم ليكون لهم دور هام في قوى اليسار، وأيضاً إبعاد المثقفين لحساب المصالح الضيقة ودورها على المستوى السياسي الفلسطيني الرسمي. 

رابعاً: تقديم هدف لوحدة قوى اليسار والابتعاد بالممارسة عن الخيار والهدف تحت مبررات عدة وابقائها في اطار الاجندة اللفظية، وتضمينها فعلياً بالعمل والممارسة والبحث لدى مقاربات جديدة.

خامساً: الابتعاد عن روحية العمل التنظيمي والتعايش وفق القدرة على صياغة المهام التفصيلية وغياب المتابعة.
إن ما ذكر هي مظاهر لما هو قائم، ما يشير إلى أن الازمة تمحورت وغدت مرتبطة بشكل أوسع بالعامل الذاتي، ومكوناتها وأصبحت مدعومة بمصالح تعارض التغيير المنشود. لهذا الغرض يتم استحضار الأسباب الموضوعية وذلك لإخفاء الذاتية. 
إن ما هو مطلوب أن نقف وأن نعترف بأن المكون الرئيسي للأزمة الآن ذاتي. وهذا لا يعني أن الموضوعي ملائم. لكن ذلك يعني أن إعادة الأمور إلى نصابها من ناحية العلاقة بين الذاتي والموضوعي، وهذا ما يجعلنا أن نلتقط لحظات سياسية مرت ولم نتمكن من التقاطها ونحن نقدم أنفسنا كخيار وبديل.

* ممكنات التغيير:
 إمكانية التغيير قائمة وممكنة كفكرة وقوة يمكن لها أن ان تحملها ومن داخل القوى اليسارية ذاتها؛ فاليسار من أنتج مفهوم ( النضال الداخلي) وتوسعت أدواته نسبياً. وفي هذا الإطار فإن هناك أدوات والعديد من المهام يمكن التصدي لها بهذا الإطار من قبل المعنيين بتقديم الخيار اليساري سياسيا اقتصادياً اجتماعياً، وهذا يمكن تقديمه عبر عدة محاور:
المحور الأول: الإطار الشبابي:
أ‌.    اطلاق مبادرة من قبل شبيبة القوى اليسارية لعقد مؤتمر شبابي يضم الحالة الشبابية اليسارية بحيث يتم عقده في الضفة وغزة والداخل والخارج بشكل متزامن، ويقدم على جدول أعماله أوراق ومدخلات لمهام تتعلق بوحدة القوى اليسارية، ودور الكادر الشبابي، وخطوات التغيير والبعد السياسي، وممكّنات إطلاق حملة حوار بين قوى اليسار خاصة بين شبيبته.
ب‌.    المبادرة على عقد اجتماعات موسعة بمشاركة الكادر اليساري والمثقفين اليساريين، وطرح عناوين محددة على هذه الاجتماعات من قبل اليسار، والمطلوب فلسطينياً، وخيار الدولتين ومدى واقعيته، واليسار كخيار/ وبرنامج المهام الوطني ودور ووحدة قوى اليسار...الخ.
ت‌.    المبادرة نضاليا إلى ربط برنامج حراك على مستوى الشارع الفلسطيني داخلياً بعنوان الانقسام والاحتلال بعناوين العودة والقدس والأسرى والاستيطان وجعل هذه المهام منتشرة ومتزامنة ومتراكمة.
ث‌.    اعتماد شعار موحد تقوم بتصميمه الحالة الشبابية معبرة عن اليسار كاملاً من أحزاب وشخصيات وأفراد بحيث يصار إلى تعميمه وتصميمه على رايات وملصقات.
ج‌.    اعتماد سيرة وشخصيات يسارية مثل (الحكيم، فؤاد نصار، عمر القاسم، أبوعلي مصطفى، توفيق طوبة، معين بسيسو)، ومفكرين أمثال (مهدي عامل، حسين مروة) واستعراض انجازاتهم من خلال مبادرة استحضار سيرة شخصيات وقادة يساريين فلسطينيين وعرب، وذلك بإطلاق اسم أحد القادة المفكرين على احدى الفعاليات الشبابية بشكل دوري وشهري، يتم فيها استعراض تجربته الفكرية والنضالية.
ح‌.    انشاء مراكز عمل يسارية في كافة المواقع لتوثيق الفعاليات والمناشطات وقيادة فعل اعلامي واسع على شبكة التواصل الاجتماعي ووسائل العمل الأخرى وصياغة المناشطات الثقافية، واعتماد المبادرة لعضوية المركز.
خ‌.    اطلاق فعاليات العمل التطوعي بحيث تكو لجان العمل التطوعي رافعة رئيسية للعمل وإحياء ثقافة العمل التطوعي، وربطه بمهام تطوعية عملية على الأرض.
 إن هذا المحور الهام يتطلب استقطاب الحالة الشبابية واطلاق العنان لاستثمار امكانياتها وقدراتها، وتوفير الدعم اللازم لها، والأهم القناعة بهذه الحالة الشبابية بتكثيف عملها بإرادة ووعي وتحديد أهدافها.


المحور الثاني: دور قوى اليسار:
إن هذا المحور له مهام مطلوبة لطرحها على القوى اليسارية، وحوارها والضغط لتطوير أدائها وإنجاز البعد الذاتي للازمة:
1)     اعادة صوغ الخيارات السياسية أو اطلاق حوار يحدد الخيارات السياسية والبدائل عن طريق تبني مقاربات سياسية تتعلق بموضوعات كثيرة أهمها خيار الدولة الواحدة، وفلسطين الكاملة كخيار بحق العودة والتحرير، وإعادة تعريف الصراع مع العدو الصهيوني كمشروع كولنيالي توسعي، وتحديد الخطوات لذلك، وتقديم تمايز اليسار الفلسطيني سياسياً يمثل التقاط اللحظة التاريخية، وتنفيذ المهام النضالية، واعتماد النظام الصهيوني كرأس حربة للنظام الرأسمالي العالمي.
2)    ربط برنامج مهام راهن يتعلق بالفعل الانتفاضي ودور اليسار فيه، وممارسة مهام نضالية على الأرض دون تعذر سياسي بالانقسام، والتوافق على تشكيل نواة لقيادة موحدة لهذا البرنامج.
3)    صياغة ورقة تحمل موقف سياسي يساري موحد فيما يتعلق بالانقسام، وإعادة صياغة م.ت.ف ، والحوار الوطني، والخطوات التي يجب اتخاذها لإعادة صياغة الأوضاع السياسية فلسطينياً، ويمكن أن تكون هذه الورقة خلاصة حوار جاد بين قوى اليسار وبمشاركة شخصيات يسارية  مستقلة.
4)    دعم بناء إطار سياسي ديمقراطي يعمل في الجامعات والنقابات والمؤسسات، وذراع جماهيري فاعل يعمل على تطبيق البرنامج النضالي المتوافق عليه.
5)     رصد الإمكانيات لإطلاق فضائية يسارية في فلسطين أو دول الطوق، وتوحيد إصدارات ثقافية يسارية إعلامية، وبناء اعلام مختص بهذا.
6)    فتح أوسع حالة حوار بين اقطاب اليسار الفلسطيني من أجل استخلاص العبر وتقييم للتجربة، وصوغ عناوين وآليات عمل محددة عنوانها التغيير نحو الأفضل، وكيفية العمل وفق برنامج يساري تقدمي ينسجم مع هذا الواقع.
7)    إعطاء الفرصة الحقيقة للجيل الشاب من خلال تقديمه للعمل في جوانب العمل اليساري المشترك، ودعمه باتجاه المبادرة لهذا الجانب، وتوفير الإمكانيات المطلوبة.
8)    رفع شعار الكادر اليساري الثوري في الميدان ليغدو شعاراً ناظماً للحراك القيادي، واشتراط الدور المطلوب قيادياً وكادرياً.
9)    إعطاء الاعداد الثقافي النقدي في التنوير أهميته من خلال عقد دورات للكادر المشترك، ودراسة إمكانية انشاء مدارس كادر، وتطوير ورشات العمل والعمل المجتمعي التوعووي.


المحور الثالث:الشرط القيادي:
إن المطلوب من الحالة القيادية اليسارية القائمة، هو الإعلان عبر البدء في العمل المشترك من أجل بناء اطار سياسي، وتحويل ذلك بشكل واضح، وتحديد جداول زمنية ومهام للعمل وفق هذه المرحلة الراهنة، وهذا يستدعي عقد اجتماعات موسعة لهيئات اليسار القيادية، ومناقشة الأفكار والمقترحات المقدمة من جميع والذهاب باتجاه حوار الخيار الإعلاني عن البدء بتشكيل اطار شبابي واعد وفاعل على أسس ديمقراطية بحيث يكون النواة الأساسية لوحدة القوى اليسارية لاحقاً أو خيار البدء بخطوات محددة متراكمة.
المحور الرابع: دور الأسرى:
إن هناك دور هام متميز للأسرى يمكن خلاله أن يقوم الأسرى المنتمين إلى قوى وتيارات اليسار التقدمي بلعبه، وهذا من خلال العمل على اصدار وثيقة تتعلق بوحدة اليسار، وبأن البدء بخطوات ملموسة على هذا الجانب تمثل نداءً واضح لإنجاز هذه المهمة.
ختاماً، إن تجاوز ذاتية الأزمة تستدعي التكتل بين قوى اليسار أولاً، والحوار الصريح وتحديد جوانب الخلل ثانياً، والانشداد للشرط القيادي وفق معايير ومواصفات ثالثاً، وإعادة ربط اليسار بنبض الشارع رابعاً، وتجديد أدوات ووسائل العمل، وتطوير الخطاب السياسي والتحالفات المطلوبة خامساً.
إن الإشارة إلى عناوين ذاتية الأزمة لا يشكّل مس بقدر ما يمكن أن يشكل حافز وأمل بإمكانية صياغة مشروع يساري تحرري حقيقي.