بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

مقال بعنوان: نطاح الكباش في دولة الأوباش (الحلقة السادسة)

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحقلة السادسة: القيم والفساد

من بين المزاعمِ الكبيرةِ التي تدّعيها "إسرائيل" لنفسها، أنّها دولةٌ تتّسم بالنزاهة والشفافية وسيادة القانون، وأنّ لدى جيشها وأجهزتها الأمنية وسائر مؤسّساتها أخلاقيّاتٍ وقيمًا تميّزها عن كثيرٍ من دول العالم. ونحن لن ندخل في مجادلات تفنّد تلك المزاعم أو تثبتها أو تنفيها. ونكتفي بالقول: إنّنا نحن الفلسطينيّين جُرّبت تلك "القيم والأخلاق" على جلودنا، وتذوّقنا طعم "العدالة الصهيونيّة". ولكنّنا نعترف أنّ اليهود في الدولة الصهيونيّة يتمتّعون بحقوقٍ وامتيازاتٍ لا نجد لها نظيرًا في عشرات الدول، كما نعترف أنّ الدولة العبريّة شهدت محطّاتٍ ذهبيّةً في تاريخها، كان يتّسم فيه "جيل المؤسّسين" من ساسةٍ وقضاةٍ وعساكرَ وأكاديميين، بالتقشّف والنزاهة السياسيّة الداخليّة، وتغليب مصلحة الدولة على مصالحهم الشخصيّة. فقد كان بن غوريون وبيغين وغولدا مائير ورابين وديان وعشرات من القادة والضباط الكبار يقطنون في بيوتٍ متواضعة، ولا يعيشون حياة البذخ والاستهلاك، كما هو عليه حال قادة اليوم. لذلك كان أولئك القادة يحظون بالاحترام والتقدير من قبل الجمهور. ولم يكن الفساد الحكومي والاجتماعي والسياسي متفشّيًا على الأقل في العقود الأربعة الأولى من عمر الدولة، قبل أن تبدأ التحوّلات الاقتصاديّة ذات التوجّهات الليبراليّة، ويبدأ معها تغيّر المجتمع.

كما أنّ مؤسّسات الدولة الأساسيّة، كالجيش والأجهزة الأمنيّة والشرطة والقضاء كانت تتمتّع بالاحترام والتقدير.

غيرَ أنّ الصورة أخذت تتزعزع منذ بداية تسعينات القرن الماضي بعد أن أصبح الفساد جزءًا من بنية الدولة والمجتمع. فقد تزايدت مستويات تفشي الفساد الحكومي والاجتماعي، كالاختلاسات وتلقي الرشاوي والتحايل والتلاعب بالمال العام والقرارات الإدارية والسياسية، وتزايدت وتيرة الاعتداءات الجنسية، ووصلت إلى حدودٍ قياسية، وذهب إلى السجن وزراء ورؤساء حكومات وأعضاء كنيست وزعماء أحزاب وضباط كبار. ولم تعد مؤسسة أو دائرة حكومية إلا وطالها الفساد، وازدهرت المافيات وعصابات الإجرام، وباتت تحتل بواجهات وهمية قطاعات مهمة في الاقتصاد. ووصل الفساد أيضًا إلى المؤسّسات التعليميّة والصحيّة والثقافيّة والأمن، واتُهم رجال دينٍ بالانحراف الأخلاقي، وقُدّمت مئات من لوائح الاتهام في العقود الثلاثة الأخيرة، ضد شخصيات مهمة وازنة في الدولة والمجتمع.

غير أن سلطة القضاء القوية وأجهزة الدولة الفاعلة، كانت تكافح ظاهرة الفساد المستشرية، وكانت تفرض سيطرتها بشكلٍ تام ولم تقدم شكوى أو ترتكب مخالفة صغيرة أو كبيرة، إلا وكان القضاء ينهمك في معالجتها من دن أي تحيز أو محاباة.

بيد أن الصورة أخذت تتصدع منذ أن قُدّمت لوائح الاتّهام ضد نتنياهو، الذي يستقوي بحزبه ومعسكره، رافضًا تلك الاتهامات، بل ووصل الحد إلى قلب الآية، باتهام أجهزة الدولة بتلفيق التهم؛ بهدف إقصاء نتنياهو عن الحلبة السياسية.

ومثلت هذه القضية، احدى أهم الأسباب المباشرة لاندلاع الأزمة المتفاقمة منذ عام 2019، ووصلت هذه الأزمة ذروتها بعد أن قَدّمت الحكومة خطّتها لإصلاح القضاء؛ الهدف من وراء هذه العمليّة، تطويع القانون وحماية نتنياهو من المحاكمة، إضافةً لإنجاز بعض المصالح الشخصيّة والفئويّة والحزبيّة في إطار معسكر اليمين الحاكم، لضمان هيمنة أحزاب اليمين على السلطة سنواتٍ طويلةً قادمة.

ولا يرى الشارع الغاضب بالخطّة الإصلاحيّة للقضاء، إلا محاولة لشرعنة الفساد عبر إجراء سلسلةٍ من التعديلات القانونيّة.

فماذا يعني إقرار قانون يسمح لرئيس الحكومة بتلقي الهدايا من الأصدقاء؟ أليست محاولةً للالتفاف على إحدى ملفات الفساد ولوائح الاتهام الخاصة بنتنياهو، ماذا يعني تعديل قانون العزل السياسي سوى منع إمكانية عزل رئيس حكومة متهم بالفساد؟

ماذا يعني إقرار قانون لصالح أرييه درعي يسمح له بتولي حقيبة وزارية؟ ماذا يعني تحجيم دور محكمة العدل العليا، والمستشار القضائي للحكومة، وإلغاء فقرة المعقولية وفقرة التغلّب.. الخ.

إنّ محاولة إقرار هذه الرزمة من القوانين هو محاولة لشرعنة الفساد وتقنينه رسميًّا دفاعًا عن الفاسدين، حيث أثبتت الأزمة الحالية هشاشة الدولة مقابل الأحزاب.

وتجد مؤسسات الدولة نفسها في حالة إرباك، ووصل إلى حدّ الاستفزاز، خاصّةً مؤسّسات الجيش والشرطة والقضاء؛ إذ تجري عملية تمرير مثل هذه الإصلاحات التي تضرب أسس الدولة أمام أعينها، من دون أن يكون بمقدورها إيقاف هذه العملية. كما تدرك هذه المؤسّسات أنّها مستهدفةٌ من خلال محاولة تحجيمها والانقلاب على وظائفها، وصولًا إلى حدّ الهيمنة عليها من الداخل، وبهذا تجري عملية تسييسها بالقوة؛ فإصدار نتنياهو ومعسكر اليمين على إخضاع تلك المؤسسات والتغلغل إلى داخلها والسيطرة عليها، يعني تحويل "إسرائيل" حسبما يرى المعارضون للخطة من دولة "ديمقراطية" إلى دولة شمولية تقوم على أساس حكم الفرد، الحزب، المعسكر.

وهو ما يفسر ثورة الشارع "الإسرائيلي"، الذي يرى بتغوّل قوى اليمين واستقوائها على الدولة، لا يخدم إطلاقًا مصلحة الدولة، وإنّما يخدم مصالح شخصيّة وحزبيّة، ويؤدّي إلى تفاقم الأزمة، ما سيقود إلى تصدّعاتٍ جديدة، قد تصل إلى حدّ اندلاع العنف بين مكوّنات المجتمع الصهيوني.

إنّ وصول "إسرائيل" إلى هذه الحالة من الانقسام، يدلّل على أنّ الدولة ماضية بطريقها إلى مزيدٍ من الانحطاط. فما كانت تتباهى به "إسرائيل" حول قيمها وأخلاقياتها، بات اليوم محطّ تندّرٍ وسخريةٍ لدى الإسرائيليين أنفسهم، الذين باتوا يدركون أكثر من أي وقتٍ مضى أن الدولة قد بدأت في طور التحلّل القيمي والأخلاقي.

وقد يكون من المبكّر الحديث عن أنّ أزمة الفساد قد تصل بالدولة إلى مرحلة الخطر الوجودي، باعتبار أن الفساد موجود في كل مكان في العالم، وأن بمقدور الأنظمة "الديمقراطية" معالجة هذه الظاهرة من خلال القانون. غير أنّ ما يميّز "إسرائيل"، أنّها دولةٌ ليست كسائر الدول الأخرى؛ إذ إنّها لا تزال تعيش المخاطر والهواجس الأمنيّة على أنّها مخاطر وجوديّة، ولا يمكنها الصمود طويلًا مع الأزمات العميقة، كالأزمة الحالية.

وباختصار، فإنّ ما يجري حاليًّا هو محاولة لقوننة الفساد، بحيث يصبح قيمة بحد ذاتها. ولسان حال نتنياهو يقول " أنا رجل متميز ومختلف عن غيري ولن أقبل باتهامي ولا بمحاكمتي من حيث المبدأ، وإذا كان ثمة خلل، فهو لا يكمن بسلوكي المخالف للقانون، وإنما يكمن بالقانون نفسه، لذا يجب تغيير القانون حتى يتمكن شخص موهوب مثلي، أن يزاول مهمته دون إزعاج".

لقد التزم أولمرت وحوكم وذهب إلى السجن بتهمة تلقي الرشاوي، والتزم كتساف وحوكم وذهب إلى السجن بتهمة الاعتداء الجنسي، وذهب العشرات من وزراء وأعضاء كنيست وقادة وضباط إلى السجن من دون أن يشكك أحد بشرعية القانون، ولا بنزاهة القضاء، بيد أن نتنياهو يرفض حتى الآن أن يصدق فكرة أنه رجل فاسد، ويرى أنه الأولى من غيره بكرسي الحكم؛ لأنّ ما قدمه "لإسرائيل"، يفوق ما قدمه سائر رؤساء الحكومات السابقين. لذا فعلى "الإسرائيليين"، ألا يتنكّروا له ولإنجازاته ومواهبه، وإذا كان ثمة أخطاء قد جرى ارتكابها، ويعدّها القانون اختراقًا أو إساءةً للأمانة أو خيانةً للثقة أو فسادًا، فإنّ عليهم أن يغضوا الطرف عنها؛ لأنّها حسب رأيه، قضايا تافهة ولا يجوز لهم أن يحاكموه ويرسلوا به إلى السجن، وإذا كان الجميع مصرًّا على رأيه؛ إذًا فليتغير القانون، ولتذهب الدولة إلى الجحيم.

هذا هو منطق نتنياهو بالضبط. بالنسبة لأولمرت وكتساف والآخرين، لم يجدوا أحزابًا أو معسكرًا قويًّا يدافع عنهم ويحميهم من سلطة القانون. بينما في حالة نتنياهو نجد حزب الليكود ومعسكر اليمين يدافع عن زعيمه باستماتة.

ليس لأنّه بريء من التهم المنسوبة إليه، وإنّما لأنّهم يفتقدون لشخصيّةٍ قويّةٍ كارزيماتية تقودهم في معاركهم الانتخابيّة، وتصل بهم إلى سدة الحكم، غير بنيامين نتنياهو.

لذا تقتضي المصلحة أن ينجو نتنياهو ولو على حساب الدولة ولتذهب مؤسسة القضاء إلى الجحيم. هكذا يفكر نتنياهو ومعسكر اليمين بأحزابه قاطبةً.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش