بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

مقال بعنوان: نطاح الكباش في دولة الأوباش (الحلقة الخامسة)

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحقلة الخامسة: عُري الملك

أظهر بنيامين نتنياهو منذ عودته عام 2009 إلى سدّة الحكم، تشبّثًا مرضيًّا بكرسي رئاسة الحكومة، ودافع عنه باستماتة، ولم يسمح لأحدٍ من داخل حزبه، منافسته على رئاسة الحزب، وعلى هذا الموقع. كما قاتل بشراسةٍ خصومه السياسيين من خارج الحزب، لمن نافسوه أو فكروا بمنافسته في سلسلة الانتخابات التي جرت منذ عام 2009، حتى آخر انتخابات عام 2022. عاقدًا العزم على تولّي هذا المنصب مدى الحياة، ومؤمنًا من صميم أعماقه أنّه السياسي الوحيد الذي يستحقُّ هذا المنصب، بل إنّه أهمُّ رئيس حكومة في تاريخ "إسرائيل" على الإطلاق، لذا عمل نتنياهو بكفاءةٍ عاليةٍ وبصورةٍ بارعة ليحظى بالتميز، فسعى إلى تحقيق الإنجازات الصغيرة والكبيرة بكل عزيمةٍ وتصميمٍ ولم يفوّت أية فرصةٍ في تحقيق المزيد من المكاسب والإنجازات، وأحسن الاستثمار بها سياسيًّا؛ كي يضمن له القوّة والتأثير في عيون الناخبين.

ومن ناحيةٍ ثانية استطاع ببراعةٍ ودهاء، تفادي المصائد وإدارة الأزمات التي كان يصطنعها خصومه وحلفاؤه على حدٍّ سواء، أو تلك الأزمات الناجمة عن سوء الإدارة أو الحروب، أو العلاقات الخارجيّة، حتّى أنّهم أطلقوا عليه لقب "الساحر" الذي يستطيع بحنكته تحويل الخسارة إلى مكسب، والأزمة إلى فرصة، أو المأزق إلى نافذة حلّ.

كان يتحدّى رؤساء الولايات المتحدة في عقر دارهم، ويرفض ضغوط الأوروبيّين، ويسخر من المؤسّسات الدوليّة، ويستهين بالعرب والفلسطينيين. كما واجه توترات السياسة وضغوطها وأحابيلها في "إسرائيل"، ولقّن خصومه دروسًا لن ينسوها، وكان يدير الدولة بكفاءةٍ منقطعة النظير. لقد أدار خمس حكوماتٍ وعالج عشرات الأزمات، ومرّر موازنات الدولة، وكان يعمل كالبندول محاطًا بجيشٍ من الخبراء والمستشارين.

وقد سلّم الكثيرون في "إسرائيل" بحقيقة أنّه الجدير الوحيد بكرسي الحكم، ورأوا به رجلًا أمنيًّا على مصلحة الدولة والشعب. فقد تطوّر الاقتصاد في عهده إلى مستوياتٍ قياسيّة، وانخفضت المخاطر الأمنيّة إلى مستوياتٍ متدنّية، واستطاع أن يجلب أربع دولٍ عربيّة في غضون عام للتطبيع مع "إسرائيل"، وأن يبني علاقاتٍ شخصيّةً مميّزةً مع رؤساء الدول الكبرى، ويجعل بعضهم، كدونالد ترامب، ألعوبةً في يده.
هكذا ساد الانطباع عن نتنياهو طوال توليه للحكومات المتعاقبة منذ عام 2009، إلى أن انفجرت أزمة ملفات الفساد وتسببت بانفجار أزمةٍ سياسيّةٍ كبرى بدأت عام 2019، وتفاقمت لتصل بدولة الكيان إلى حافة الهاوية في الوقت الراهن.

بدأ نتنياهو يفقد حلفاؤه الطبيعيين (ليبرمان، بينيت، شاكيد، ساعر) ومنذ أن بدأت الأزمة في عام 2019، أخذ يفقد سحره، وسيطرته على الأوضاع، وبدأ عاجزًا عن تشكيل الحكومة، كافح كفاحًا مستميتًا، واستطاع بدهاءٍ أن يفكّك معسكرين مناوئين (أزرق أبيض والقائمة العربية المشتركة) وأن يجلب غانتس لحكومته الخامسة التي لم يطل عمرها أكثر من عام، وخسر في نهاية المطاف في انتخابات 2021، لصالح حكومة غريبة الأطوار جمعت ليبرمان مع ميريتس وبينيت مع منصور عباس مدة عام. لكنّه توعّدهم بالعودة سريعًا إلى كرسي الحكم.

وعاد بالفعل وترأس ائتلافًا يمينيًّا بالكامل. لكن عودته هذه المرة لم تكن دون ثمن؛ فقد ظهر نتنياهو أمام الجميع عاريًا تمامًا، وأنّه مستعدٌّ لفعل أي شيءٍ في سبيل البقاء السياسي والإفلات من المحاكمة، وأن يخضع لابتزاز شخصياتٍ كانت توَّها منبوذةً في الساحة السياسيّة، كإيتمار بن غفير.

أصبح الملك نتنياهو عاريًا تمامًا حين وضع مصلحته الشخصيّة والحزبيّة فوق مصلحة الدولة. وحينما قَدمّت حكومته خطة الإصلاح القضائي التي تسعى لتقويض سلطة القضاء. وحينما سمح لأتباعه وأركان حكومته بالتطاول على مؤسسات الدولة ورموزها من جيشٍ ومحكمة عدل عليا ومستشارين قانونيّين وقادة عسكريّين وأمنيّين.

بدا عاريًا تمامًا، وهو يخضع لابتزاز صبيان التلال في حكومته، كسمويترتش وبن غفير، ويسمح لهم بليّ ذراعه والتحكّم بقواعد اللعبة السياسيّة. بدا عاريًا، وهو يتوسّل اللقاء مع بايدن الذي لم يدعوه للقائه في البيت الأبيض.

لم يعد نتنياهو كما كان عليه الحال قبل انفجار الأزمة؛ لقد فقد سحره وقدرته وتأثيره. لم يعد رجلًا قويًّا وحاسمًا وحازمًا، أصبح ضعيفًا ومكبّلًا، وفقد مكانته المحليّة والإقليميّة والدوليّة. حتى الأنظمة العربيّة التي طَبّعت علاقاتها مع "إسرائيل" قبل ثلاث سنوات، التي كانت تتسابق لاستقباله على أراضيها، أصبحت اليوم تتلكّأ في دعوته، ولم يعد هو ذاته وسيطها لدى الولايات المتّحدة.

ويزداد الساحر كراهيةً من قبل الشارع، فقد جلب لهم بن غفير، الشخصيّة الأكثر نفورًا وكراهيةً في "إسرائيل"، ليتولى وزارة الأمن الداخلي، ويهينهم ويشتمهم ويصفهم بالفوضويين والمخرّبين. جلب لهم سمويترتش الذي يتصرّف بالاقتصاد كأنّه إقطاعيّةٌ شخصيّة، ويوزّع المال لمن يريد ويحرم منه من يريد. وجلب لهم ثلاثة أحزاب دينية تقاسموا موازنة الدولة، ويسعون لتحويلها إلى دولةٍ دينيّة.

ولن يستطيع الساحر أن يستر عريه هذه المرة، إلا إذا نكس رأسه، وعاد يتلفع بالعباءة الأمريكيّة.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش