بقلم الأسير: صلاح الحموري

مقال بعنوان: "الضحية تتحدث ولا تعتذر"

صلاح الحموري.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

"قوم... قوم..."

هذه الكلمات التي استيقظت عليها عند الساعة الرابعة صباحًا عندما كان يحيط بسريري نحو 15 فردًا من قوة اليمام المختصة بكل عدّتها وعتادها، وفي لحظات وقبل أن تشتعل إنارة المنزل، كانت فقط أضواء الليزر الأخضر المصوب من البنادق هي الإنارة الوحيدة في الغرفة، وعند إضاءة الغرفة أدركت أنه صحو من نوع آخر يحترف الاحتلال صناعته، ففي هذا الصحو يُستبدل صوت فيروز بصوت القيود البلاستيكية وهي تتشكل على يديك لتدرك لحظتها أن الرحلة قد بدأت.

إنها المحاولة الثامنة؛ السادسة بالاعتقال وإداريًا هذه المرة، والسابعة بالإقامة الجبرية والإبعاد القسري لأسرتي عن أرض الوطن، والثامنة بسحب الهوية. 

إنها قواعد الطرد القتالية، قواعد الاقتلاع تدريجيا والإبعاد القسري عن ارضي، بيتي، محيطي الاجتماعي، ذاكرة مكاني، حكاياتي، إنها ليست حكايتي بل حكاية شعب لم تتوقف نكبته منذ عام 48.

يوميا اعتقال، وطرد، ومراقبة، ومتابعة، وتضييق، وقتل، وتهجير، فانا الفرد والجماعة وانا الأسرة والوطن.

نحن نواجه مشروعًا استعماريًّا استيطانيًّا يريد أرضك دونك، يصادر حلمك ويحطم واقعك ويحاول نفي ذاكرتك ويتهمك بالإرهاب والتخريب، يحاول جعلك تسأم، ويعمل على تجريدك من بعدك الإنساني وعناصره مع تطويعك وإخضاعك بكل السبل والطرق، يحمّلك مسؤولية قتله لك وتعذيبك وملاحقتك اليومية ومراقبتك، وتحويلك إلى حقل تجارب واسع لأسلحته قديمها وجديدها، لوسائل قمعه ومتابعته وملاحقته، حتى أجهزتنا الخلوية لم تسلم من رقابة الاستعمار الصهيوني الشاملة، وكان لي نصيب منها، أنا وشعبي وعائلتي وأرضنا وهويتنا وثقافتنا وذاكرتنا، كلها تحت الاستهداف الشامل.

ربما أتعرض للإبعاد وسأواجه هذا الخيار، فالوطن والانتماء وتحدّي الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لا يحتاج إلى بطاقة هوية، يحتاج وعيًا وهوية ومشروعا، يحتاج إرادة ورؤية، فكل منا يتحدى بموقعه ومكانه، يشارك ويقاوم، ولا يستأذن ولا يعتذر.

أنت الآن لا تملك بطاقة شخصية تدل على أنك مقدسي المولد والهوى، لكن ما حاجتك لهذه الشهادة؟! فأزقة البلدة القديمة وأحياء القدس وترابها وجدرانها وناسها يزوّدونك بهذه الهوية والانتماء.

يمكن للاحتلال إرسالك إلى الضفة، أو إلحاقك بمن سبقوك منذ عام 48، فأنتم مقسمون ما بين فلسطينيي الخارج والداخل، ما بين داخل العام 48 والضفة وما بين القدس وغزة، تعيشون حالة انشطار لا تتوقف وتتعايشون مع ما حددناه لكم من قواعد جغرافيّة، تبنّت كل منها ثقافة وهوية وحدودها حدود جغرافيتنا.

إنها جغرافية الاستعمار قديمة عربية وقديمة فلسطينية، تفرض عادة ما وتتحول إلى قوة تمزق الشعب، والهوية والقضية؛ جغرافيا ملموسة تنتج أفكارًا وتصورات ويصبح "النحن" (نحن وانتم) حراسها الذين لا يحرسون نارًا مقدسة بل يحرسون جريمة.

تمنع هذه الجغرافيا قصة حب بين شاب وشابة، تمنع العلاقة الإنسانية وتحاول أن تشكل فلسطيني داخل وآخر في الضفة والقدس وغزة وغيرهم في الخارج، وتحاول أن تنتج هوية تشبهها وثقافة محددة بحل وتتحول إلى قيد وسلك شائك تخطّيه ممنوع، لكنا كما قلنا دومًا نقاوم النسيان ونتحدى من يحاول أن يفرضه، وهذا الواقع لا يستطيع أن يمنع إرادة التواصل وقوة الانتماء التي لا تقوى أن تهزم الهوية.

نتحدى هنا وهناك، وما زلنا نعتقد بإيمان أن خيارنا هو ذاك المشروع الوطني المؤسس على قاعدة الشعب الواحد والقضية والخيار والمقاومة الشاملة، المؤسس على المشاركة الشاملة، على قاعدة "قوم قوم..".

التحرير والمقاومة وتحدي جغرافيا الاستعمار، فالفلسطيني أينما حلّ يحمل هموم شعبه ووطنه وهويته وتحلّ معه حيثما حل.

وأنا ما زلت أترقب، ربما أتعرض للإبعاد وسأواجه هذا الخيار، فالوطن والانتماء وتحدي الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لا يحتاج إلى بطاقة هوية، يحتاج وعيًا وهوية ومشروعًا، يحتاج إرادة ورؤية، فكل منا يتحدى بموقعه ومكانه، يشارك ويقاوم، ولا يستأذن ولا يعتذر.

بقلم الناشط الحقوقي، المقدسي، الفلسطيني، الفرنسي