بقلم الأسير: منذر خلف مفلح

مقال بعنوان: "من أين جاءت الأحزاب الدينية والحريدية؟"

منذر خلف مفلح.png

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

قامت الحركة الصهيونية باعتبارها نقيضاً للدين اليهودي، واعتبرت نفسها حركة قومية لإنجاز مشروع الدولة أو الأمة مقابل الفكرة الدينية، حيث رفضت كلاً من الصهيونية كحركة علمانية، والاتجاهات الدينية بعضهما بعضاً.. فاعتبر الصهاينة أنفسهم علمانيون متنورون، لكنهم استخدموا الرموز والطقوس والتعاليم الدينية لإنجاز ميثات تقوم عليها القومية المتخيلة، حيث زرعوا الأساطير الرابطة ما بين المُستوطن المزعوم والأمة المتخيلة التي تقوم بحسب الصهيونية "بنفي المنفى" أي نفي اليهودية معها لخلق إنسان جديد،  وفي ذات الوقت باعتباره فكرة تهدف لربط اليهود بفلسطين باعتبارها الأقليم الذي نشأ عليه "التراث اليهودي" باعتباره هو أيضاً تراثاً للأمة المفترضة الصهيونية، ووصفت الدولة كنهاية للتاريخ بدلاً من "المسيا" المسيح القادم لإحلال التاريخ.

وبهذا المعنى فإن أحد مهام الصهيونية كانت إحلال الفكرة القومية عاملاً موحداً لليهود بدل الدين، وهو ما أدخلها في تناقض مع الاتجاهات الدينية. وقد أشار الحاخام "حاييم هاليفي" للصهيونية باعتبارها "طائفة انتظمت بقوة، وأعلنت أن هدفها اقتلاع أسس ديانتها". في حين أشار لهم الحاخام "غور" موجهاً حديثه لليهود آنذاك " على اليهودي ألاّ ينضم إلى الأشرار".

حيث أن الحاخامين السابقين هما مؤسسا المدرسة الدينية التوراتية، في حين أن أتباع "سارتمر" الذين يقطنون في أمريكا بالغالب، وكذلك "ناطوري كارتا" اعتبرتا الصهيونية "المسيح الكذاب" أي أنها "حركة مسائية تحاول تعجيل النهاية بوسائل دنيوية"، في حين أن كافة المدارس والاتجاهات الدينية، تعتبر أن مهمة إقامة مملكة "اسرائيل" أو النهاية والدنيوية هي عملية سماوية لا أرضية، ولا تتم ضمن حركة التاريخ.

وعلى ذلك رفضت كافة الحركات الدينية المنطلقات الصهيونية وخاصة الأرثذوكسية التي رأت فيها حركة لتحويل اليهودية من دين متميز إلى أمة كباقي الأمم، ذلك أن إقامة الدولة هو عمل الله خارج التاريخ وبعد نهايته، وليست وظيفة اليهود في الدنيا، كما أن التيارات اليهودية رفضت مهمة بناء اليهودي الجديد بموجب قاعدة نفي المنفى الصهيونية، والذي كان بناء "الجيش" هو الأداة لانتاج اليهودي الجديد على قيم غربية ليبرالية عصرية تتحدد حصراً بالقيم الاشكنازية ذات الصبغة العمالية التي بنت الدولة باعتبارها جزءاً من عملية القطع مع القديم، والتي اعتبرت أن الدولة إحدى المحطات المهمة في تحديد الهويات، وفي الصراع ما بين الصهيونية واليهودية بتياراتها المختلفة.

وعلى ذلك، فإن إقامة الكيان قد احتواه مشروع دستور مؤقت نُشر بتاريخ 19-12-1949، ورأى "بن غوريون" آنذاك بتأجيل موضوع الدستور كون المشروع لم يُستكمل لناحية الحدود البشرية (يهود العالم).

والحدود الجغرافية (أقيم الكيان على حدود الخط الأخضر) وقد تحاشى هذا الدستور أو مشروع قانون الانتقال بدل الدستور  بتاريخ 16-2-1949، ولم تناقش مسألة من هو اليهودي، وعلاقة الدولة باليهودية، وغيرها من القضايا الشائكة مثل حرمة يوم السبت، وهي القضايا التي عادت للظهور اليوم بمطالب الأحزاب الدينية والحريدية المقدمة لتشكيل الحكومة 2022، وهي قضايا مَثّلت ما يُسمى اتفاقية الوضع الراهن بين الحكومة الصهيونية والمتدينين بذلك الوقت، تتضمن قضايا (الأحوال الشخصية، وفتح البقالات يوم السبت وحركة السير، واستيراد اللحوم، وشهادات الحلال، والتعليم، والرياضة.. الخ).
 

بكل الأحوال تطورت العلاقة ما بين الصهيونية والتيارات الدينية عبر مجموعة أحداث تَشكّلت:

1. وعد بفور الذي فُسر على أنه نوع من العناية الالهية، أو معجزة، وإشارة لإرادة الخالق.

2. انجازات الاستيطان اليهودي، ومشروع لجنة بيل، والتقسيم، لتصبح للتيارات الدينية مواقف مؤيدة للدولة من منطلق انتهازي بعدم البقاء على هامش السياسة اليهودية، ومن أجل التأثير بها بمعنى رفض الدولة العلمانية، والتعاطي مع مفهوم (أرتس اسرائيل) باعتباره تعريف توراتي للدولة، وعشية إعلان الدولة أقرت الحركات الدينية أنها لا ترفض الدولة، ولا تقبلها علانيةً، ولكن شاركت بعض الاتجاهات بالحكومة وفعاليات إقامة الدولة، وفاوضتها على ذات النقاط (الأحوال المدنية، السبت، قوانين الغذاء، حرية التعليم، عدم الزامية التعليم العلماني، اتفاقية الوضع الراهن). وفي المحصلة وافقت التيارات الدينية على الدولة باعتبارها، اعتراف بالأمر الواقع DEFACTO، وعدم اعطائها اعترافاً أيديولوجياً، وهو ما دفع التيارات الدينية خلال 30 عاماً من إقامة الكيان من هامش الحياة السياسية إلى مركزها في العام 1973 عام (الانقلاب) على وقع توسع الكيان 1967، وهزيمة 1973.

حيث طرأ تطور على موقف الأحزاب الدينية بعد العام 1967 باعتبار الحرب معجزة وإشارة ربانية لبداية الخلاص.
 

وهو ما لخصه "بن لوبوفيش" الحاخام والأب الروحي للحركات الصهيونية الدينية واليمينية الجديدة:

الدولة بوصفها كياناً صهيونياً هي تعبير عن الكفر والتمرد على إرادة الله، ولذلك فهي ليست تعبيراً عن الخلاص، ولكن " أرتس اسرائيل" سيادة يهودية تنطوي على مغازٍ ومعانٍ دينية ذات أهمية بالغة، لذلك ندعو لعدم التنازل عن الأراضي من منطلق أحكام الشريعة، رغم أن التيارات الدينية الحريدية (الأرثذوكسية) تعتبر الدولة علمانية، ونوع من أنواع المنفى بالمفهوم الروحي، ليصبح مجهود التيارات الدينية محاولة ربط الدولة بالشريعة لينمو اسم الصهيونية الدينيية كتيار وهو ما تُعبّر عنه اليوم كتلة المتطرف "بين غفير" الصهيونية الدينية كنوع من الدمج بين الدين والصهيونية كتيار توفيقي ما بينهما، مستنداً إلى الكثير من  الحاخامات الذين اعتبروا أن الصهيونية لم تفصل أصلاً الانتماء الديني عن الانتماء القومي، وعلى ذلك تعمل هذه الأحزاب الدينية الحريدية (الأرثذوكسية) المتزمتة بتعاليم الدين للتوفيق أو إخضاع إرادة الدولة بمفهوم أدق، والتي تستمد سلطتها من الشعب إلى الشريعة كمفهوم مستمد من إرادة الله (التوراة)، فقد أشار الحاخام "كوك" إلى ما أسماه "اللاهوت الثيلوجي" كانعكاس للفكرة الصهيونية التي اعتبرها استجابةً لنداء الرب، وخلط فيها مفهوم (ارتس اسرائيل) والاستيطان والزي العسكري كقيم مقدسة وخطة ربانية، بمعنى إنزال المقدس على أرض الاستيطان اليهودي، كقيم ومصادرة دور الله في الشريعة، واعتبار ذاته منفذ إرادة الإله اليهودي.

بمفهوم "بن غفير" و"سموتيرتش" وغيره بل أن الصهيونية ذاتها، والعلمانيون الصهاينة لم يختلفوا بهذه النظرة فقد أشار "وايزمن" القائد الصهيوني العلماني أمام المؤتمر الصهيوني 1937 " لقد وعد الله اليهود بمنحهم أرض اسرائيل، هذا الوعد هو وثيقتنا الأكثر أهمية"، وأمام اللجنة الملكية البريطانية 1939: " لا نكتسب حقنا على أرض اسرائيل من الانتداب البريطاني بل من التوراة".

صحيح أن الصراع على قيادة الدولة وليس على الدولة ذاتها دار بين الصهيونية أو التيار الاشتراكي العلماني الليبرالي أمام قوى اليمين الديني، إلا أن القوى الدينية بدأت تنتصر عبر سياسة الاستيطان والتوسع، والبحث عن أيديولوجيا تبريرية للتوسع قَدمتّه النخب والقوى العلمانية كهدية للقوى الدينية، التي أصبحت تنادي بالدولة اليهودية وقانون القومية ويهودية الدولة...ألخ، مما أسس لنتائج انتخابات 2022، وسيؤسس لقيام الدولة اليهودية بالمعنى الديني للدولة، وليس السياسي، وهو ما برز كانتصار ليس بنتائج الانتخابات، بل بمحور الجدل والنقاش والعمل السياسي من حيث المطالبة بمطالب دينية تتعلق بتطبيق إحكام الشريعة اليهودية، أو إعادة تحديد من هو اليهودي في صلب العملية الديمقراطية السياسية، وهو دليل على إبراز القيم اليهودية على حساب الديمقراطية، لتنتج الشكل الملائم لهذه السياسة الصهيونية الدينية، والتيارات الحريدية كتعبير عن الفكر الارثذوكسي المتزمت في الدين اليهودي.

بقلم عضو اللجنة المركزية العامة للجبهة الشعبية، مسؤول الإعلام في فرع السجون، مدير مركز حنظلة للأسرى والمحررين.