بقلم الأسير: كميل أبو حنيش..

مقال بعنوان: "على صفيحٍ ساخن" الحلقة الثامنة

كميل أبو حنيش.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

الحلقة الثامنة: نافذة الفرص المستحيلة 

تزايد في السنوات الأخيرة، ترديد العبارة المبتذلة التي تتهم الفلسطينيين بإضاعة الفرص (لا يفوتون الفرصة في إضاعة الفرص) التي استبطنتها بعض وسائل الإعلام العربية، وزمرة من القادة العرب، وبعض قادة الرأي والمحللين السياسيين. وهذه العبارة أو الجملة السياسية السوقية، كانت قد رَوجّت لها الدعاية الصهيونية والدوائر الاستعمارية الغربية منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى اليوم، وذلك لإلصاق "تهمة" الرفض والعناد بالفلسطينيين، وإبراء ساحة المستعمرين الصهاينة الذين كانوا أكثر "مرونة" وقبولاً لما يُقدم لهم من مشاريع سياسية، حيث ترددت هذه العبارة على ألسنة القادة والزعماء الصهاينة في مختلف محطات الصراع، لاسيما في مقاربات التسوية، منذ زهاء 30 عاماً.

إن هذا الاستخدام الفظ لهذه العبارة، من جانب الأعداء والأصدقاء على حدٍ سواء، يخفي في طياته اتهاماً سافراً وتزييفاً للحقائق التاريخية، ويضع الفلسطيني في كل مرحلةٍ في خانة المتشدد أو الرافض الأبدي، ويلصق به سمة "الغباء السياسي" و"التَحّجر الفكري" وافتقاده للبراغماتية المطلوبة للتسويات السياسية.

إن قراءة موضوعية للمواقف الفلسطينية في مختلف مراحل ومحطات الصراع، واحجامهم عن التساوق مع "الفرصة" المقدمة لهم إنما ينبع من حقيقة واحدة: رفض الشعب الفلسطيني المساومة على حقوقه التاريخية والوطنية، التي من شأنها أن تلحق ضرراً، أو تُشكّل خطراً على وجوده فوق أرض وطنه، وهذه الحقيقة مُنسجمة تماماً مع طبيعته الإنسانية، كأيِ شعبٍ يرفض المساومة على حقوقه إذا تعرضت للانتهاك.

إن اتهام الفلسطيني بالرفض، لسلسلة المشاريع السياسية التي جرى ويجري الترويج لها على أنها "فرصٌ مضاعة"، من دون فحص ودراسة وظروف وملابسات كل مرحلة تاريخية إنما يعفي القوى التي تآمرت على الشعب الفلسطيني، ومَكنّت المستعمرين من اغتصاب أرضه، من أيةِ مسؤولية عن هذه الجريمة غير المسبوقة في التاريخ، ويُعد خداعاً للتاريخ وللوعي وللوجدان الإنساني، ويضع الضحية الفلسطينية في موقع الطرف المعتدي، والمغتصب والعدواني، والرافض لأيِ حلٍ من شأنه أن ينهي الصراع على الأرض.

ففي مختلف مراحل الصراع، لن يجد الباحث الموضوعي، أيةِ فرصةٍ أضاعها الفلسطيني بسبب جهله أو غبائه السياسي لأن شروط كل مرحلةٍ تاريخية، هي من تحدد طبيعة الفرصة ومنطق القبول أو الرفض لها في التعاطي معها، فلا يجوز إسقاط الماضي بظروفه وملابساته على الحاضر بظروفه وملابساته أو العكس، كأن يقال مثلاً: كان ثمة فرصة أمامنا تَتمثّل بقرار التقسيم عام 1947، الذي يمنحنا حوالي نصف مساحة فلسطين، لكننا فوتناها برفضنا، وها نحن اليوم نطالب بأقل من ذلك بكثير. أو يأتي من يتهمنا بتفويت فرصة "الحكم الذاتي" التي عُرضت علينا في مفاوضات كامب ديفيد 1978 لأنها أفضل من "فرصة" اتفاقيات أوسلو. أو لو قبلنا بما قُدمّ لنا في كامب ديفيد الثانية سنة 2000، لوفرنا على أنفسنا معانيات وتضحيات، ولربما كان بوسعنا أن نحصل على دولة كاملة السيادة منذ ذلك الحين!.

إن هذه المواقف الاختزالية، تُعبّر عن ضحالة تفكير أصحابها، لأنها مواقف غير علمية، وغير تاريخية، وغير موضوعية، وتجانب الصواب فيما تحمله من معطيات، وتستسهل قذف الضحية بالاتهام، وتحميلها المسؤولية عن مأساتها، ولا تكترث للحقائق الساطعة، وفوق كل ذلك فهي مواقف انهزامية، ومنها ما هو متآمر ومتساوق مع المواقف العدائية.

وإذا حاولنا التعاطي مع لعبة "الفرص المضاعة" من جانبنا يمكننا أن نُسجل أول فرصة مضاعة تَتمّثل برفضنا القبول المبدأي بالمشروع الصهيوني، بوصفه - على حد مزاعم أصحابه- مشروعاً جاء لخدمة البلاد وتعميرها، والأخذ بيد سكانها "المحليين" وتطويرهم، وإدخالهم للحضارة، ورفع مستواهم الثقافي والمعيشي، وسيجعل من صحراء البلاد تعج بالخضرة والازدهار، وسينقل هذا المشروع بذرة الحضارة والتنور والتطور إلى المنطقة برمتها.

إن ما أسلفناه، ليس مجرد دعابة، وإنما العسل الذي دُس فيه السّم، لإغواء الفلسطيني، لقبول المشروع الصهيوني والترحيب به. لكن الشعب الفلسطيني لم ينطلي عليه الخداع، وأدرك بحكم تجربته التاريخية، مع الغزوات الاستعمارية، وبوعيه لمرامي المشروع الصهيوني، وقرر أن يرفض من حيث المبدأ هذا المشروع، ويصّر على مقاومته لأنه ببساطة يستهدف وجوده على أرض وطنه، وإذا سلمنا جدلاً بحقيقة أن الشعب الفلسطيني قد عجز في تلك المرحلة عن لجم المشروع الصهيوني المدعومن من أقوى دولة استعمارية في ذلك العهد، والذي فرض وجوده الاستيطاني بالقوة، وأنه صار يتعين على الفلسطيني أن يتعاطى سياسياً مع هذا الواقع، ويسلم بحقيقة هذا الوجود، فإن ثمة فرصة سياسية قُدمّت له في عشرينيات القرن الماضي، تَمثّلت بمشروع المجلس التشريعي الفلسطيني بالشراكة ومناصفة مع المستعمرين الصهاينة الذين لم يكونوا يُشكّلون أكثر من ربع عدد السكان في تلك الآونة، مع وجود بعض الأعضاء الانجليز في المجلس، وذلك لحفظ التوازن بين الطرفين المتنازعين، ولا ننسى أن الحصة المخصصة للفلسطينيين في المجلس، كانت تُقسمهم على أساس ديني وطائفي، ولا تتعاطى معهم كقومية لكن الشعب الفلسطيني رفض المشروع، وفوت "فرصة" تاريخية لو أتيح لها أن تتحقق لما وصلنا إلى هذا الحال حسب منطق من يتهموننا بإضاعة الفرص. فالمشروع يقسم الفلسطينيين إلى طوائف دينية ولا يعترف بهم كشعب أو قومية، أسوةً باليهود الذين كان يُعترف بهم كشعب وكقومية. من ناحيةٍ ثانية كان المشروع يمنح اليهود حصةً أكبر من حجمهم، والأهم من كل ذلك تكريس الهيمنة الاستعمارية الانجليزية على المجلس وعلى الحياة السياسية. 

إذن من الطبيعي أن يرفض الفلسطيني مشروع المجلس التشريعي، وبهذا لم يكن ثمة فرصة جرى إضاعتها، أما "الفرصة" الأخرى التي نُتهم باضاعتها، فتتمثل بمشروع التقسيم عام 1937. حيث اقترحت بريطانيا تقسيم البلاد بين العرب واليهود، ولم يكن اليهود يُشكّلون أكثر من ثلث السكان، وجاء هذا المشروع في خضم الثورة الفلسطينية التي اندلعت عام 1936 واستمرت حتى العام 39. وبالرغم من بعض الأصوات الواهنة التي أبدت استعدادها للتساوق مع المشروع، غير أن الثورة كانت قد أكسبت الفلسطينيين قوةً وهيبة تتيح لهم فرض الشروط وتحسين الأوضاع، أو الرفض المبدأي، وذلك انسجاماً مع موقفهم الرافض من حيث المبدأ لبيع بلادهم أو التنازل عنها، أو عن جزء منها.

أما الفرصة الأخرى "المضاعة" حسب زعم من يتهموننا بإضاعة الفرص فكانت مشروع التقسيم سنة 1947، وهو إعادة إنتاج للمشروع السابق، ولكن بشروط أفضل للصهاينة الذين تزايدت أعدادهم على الأرض، وقويت شوكتهم بعد تشكيلهم لعصاباتهم المسلحة، وقيامهم بتنفيذ عمليات إجرامية بحق الفلسطيني طوال عقد الأربعينيات. لقد كان المشروع بمثابة استسلام، يجري بموجبه تنازل الفلسطينيين عن نصف مساحة بلدهم، ويسمح باقتلاع عشرات الآلاف من الأهالي من قراهم وبيوتهم وأراضيهم، ونقلهم غلى القسم المحد للدولة العربية. وكانت ثمة إجماع شعبي وسياسي، علاوةً على الاجماع العربي برفض المشروع والإصرار على القتال.

إن الرفض الفلسطيني "للفرص المضاعة" قبل النكبة ينسجم تماماً مع شروط المرحلة التاريخية في ذلك العهد. فمن ناحيةٍ لم يكن الشعب الفلسطيني قد تعرض لنكبته المعروفة، وأبدى استعداداً للمواجهة، كما أن اليهود لم يكونوا قد أنجزوا دولتهم القوية بعد، الأمر الذي يعني أنه بحسابات الربح والخسارة، والنصر والهزيمة، كان ثمة إمكانية لقتال العصابات الصهيونية ودحرها، لا سيما في ظل الرفض العربي الشامل للمشروع، واستعداد الجيوش العربية للقتال إلى جانب الفلسطينيين.

بيد أن الشعب الفلسطيني الذي احُتلت أرضه، وجرى اقتلاع مئات الألوف من أبنائه من بيوتهم وقراهم، تمسك بحقوقه، ورفض التفريط بوطنه، ولم يلبث بعد أقل من عقدين أن أطلق ثورته المعاصرة التي أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية، وأحيت الهوية الوطنية، مصمماً على استعادة حقوقه كاملة، ولم يكن ثمة فرص أضاعها الفلسطيني في تلك المرحلة الثورية العاصفة، إلا إذا كان مشروع الحكم الذاتي المعروض على السادات في ملحقات اتفاقيات كامب دفيد سنة 1978، "فرصة" جرى إضاعتها مبكراً برفض الفلسطينيين المُطلق لها، غير أن جميع الأوساط تعتبر المشروع مجرد عرض تكتيكي "اسرائيلي"، لإرضاء السادات، وبث الانطباع بأنه لم يتخلَ عن القضية الفلسطينية. كما أن المشروع الذي لم يجرِ نقاشه أو تفعيله، استثنى منظمة التحرير وفصائل الثورة من امكانية التفاوض السياسي، واقتصر على حكم ذاتي "للسكان المحليين" في الضفة والقطاع.

وكان الرفض الفلسطيني للمشروع، في الداخل والخارج على حدٍ سواء، ينسجم مع شروط المرحلة التاريخية، حيث كانت الثورة الفلسطينية قويةً ومتماسكةً وقادرةً على مواجهة الضغوط، كما أن المشروع ينتقص بشكلٍ سافر من الحقوق الفلسطينية، ولم يتطرق للقضايا الكبرى كحق العودة والقدس والاستيطان والدولة...الخ، ويبقي الفلسطينيين تحت الهيمنة "الاسرائيلية" الشاملة والدائمة.

ومنذ مشروع الحكم الذاتي في اتفاقية كامب ديفيد وحتى اندلاع الانتفاضة الأولى لم يكن ثمة فرصة سانحة رفضها الفلسطينيين، لتأتي محطة مدريد ومن بعدها أوسلو، حيث ذهب الطرف الفلسطيني المفاوض إلى أبعد مدى في البحث عن "فرصة ذهبية" للحل. وإذا أردنا المضي قُدماً مع لعبة الفرص ومنطق أصحابها، فإن أوسلو مَثّل أكبر "مرونة" من جانب الفلسطينيين، وقبلوا لأنفسهم ما لم يكونوا يقبلوه من قبل، من تجاوز للمحرمات السياسية والوطنية، بالاعتراف "باسرائيل" والتنازل عن 78% من فلسطين، والقبول بالحل المرحلي، وبالحكم الذاتي تحت السيطرة "الاسرائيلية"، وبالتنسيق الأمني، وملاحقة المقاومة...الخ، مع هذا لم يجرِ التوصل إلى حل، ولم تتمكن القوى الإقليمية والدولية على إرغام "اسرائيل" على التسليم بجزءٍ من الحقوق الأساسية للفلسطينيين، وفي تحويل الاتفاق إلى "فرصة" لإنهاء الصراع، والأنكى من ذلك، وتحت غطاء عملية السلام، واصلت "اسرائيل" ممارساتها من سرقة للأراضي والاستيطان، وتهويد القدس، والحواجز والقتل والاعتقال...الخ، وهو ما كان يُبعّد عملياً من إمكانية إحراز اتفاق للسلام الدائم، وإنما فرض الحقائق على الأرض، بما لا يسمح إطلاقاً بتطوير "الفرصة" السانحة.

لتأتي محطة مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، بعد سبع سنوات من المفاوضات العبثية، وتبين للفلسطينيين أثناء مفاوضات كامب ديفيد أن ما تعرضه "اسرائيل"، ما هو إلا تطوير للمرحلة الانتقالية من خلال التحايل على الفلسطينيين بهدف سرقة أجزاء واسعة من أراضي الضفة، والانتقاص من سيادتهم على القدس، ورفض حق العودة، أما الدولة، فهزيلة ومنزوعة السلاح، مع سيطرة "اسرائيلية" على حدودها البرية والبحرية وأجوائها. لقد رفض الفلسطينيون ما قُدمّ لهم من عروض "سخية" وقاوموا الضغوط التي مورست عليهم من قبل الإدارة الأمريكية وأطراف أخرى، لتصل عملية التسوية إلى طريقٍ مسدود، وكان رد الشعب الفلسطيني بتفجير انتفاضته الثانية.

لم تكن كامب ديفيد 2000، تُمثّل فرصة للفلسطينيين، لأن الحل انطوى على تنازلات ملموسة تمس بالحقوق التاريخية والسيادية، وتُكبّل الفلسطينيين لعقود طويلة. ومن الطبيعي أن يجري رفضها رغم موازين القوى المختلة بالكامل لصالح "اسرائيل". أما الرد "الاسرائيلي" على الانتفاضة، فقد جرى إعادة احتلال مناطق السلطة، وتكثيف وتيرة القتل والاغتيالات والامعان في إذلال الفلسطينيين، ولم تتعاطى معهم كشريك للسلام؛ وإنما كعدو ينبغي ذبحه و"كي وعيه" بالمجازر، وإخضاعه وإرغامه على الاستسلام، والقبول بأي حلٍ يُقدم له.

وفي ظل احتدام الاقتتال، ومباشرة "اسرائيل" في فرض اجراءاتها على الأرض، كتعزيز الاستيطان، وبناء الجدار العازل، أعلنت الإدارة الأمريكية، في صيف 2002، عن نيتها بلورة خطة سياسية جديدة تُمهد لإقامة دولة فلسطينية، وتنهي الصراع، وهي الخطة المعروفة بـ " خريطة الطريق"، وجاء الإعلان عن هذه الخطة، في ظل التحضير لإحتلال العراق، وهو ما أعطى الانطباع للفلسطينيين والعرب، أن هذه الخطة، ما هي إلا محاولة لامتصاص الغضب، واشغال الفلسطينيين. وبعد أن جرى عرضها في ربيع العام 2003، قَبِل بها الطرف الفلسطيني، رغم ما يعتريها من عيوبٍ قاتلة، وقَبِل مبدأ معاينة "الفرصة السانحة"،  ثم تبين أن "اسرائيل" سجلت على الخطة 14 تحفظاً، وكل تحفظٍ من هذه التحفظات من شأنه أن ينسف عملية التسوية برمتها، والأدهى قبول الولايات المتحدة بتحفظات "اسرائيل" ليجري اختصار العملية برمتها، بإعلان نيتها الانفصال عن الفلسطينيين من جانبٍ واحد، وأعلنت عن نيتها الانسحاب من قطاع غزة صيف العام 2005، وألمحت عن نيتها للانفصال عن الفلسطينيين في الضفة  "خطة أولمرت" بعد ضم أكثر من 58% من أراضي الضفة، وفرضت حلٍ على الشعب الفلسطيني الذي عُرف "بالدولة المؤقتة" على 42% من مساحة الضفة. بعبارةٍ أخرى تمديد المرحلة الانتقالية لأجلٍ غير مسمى، وبصورةٍ دائمة، كتصورٍ نهائي للحل السياسي. غير أن تسارع التطورات السياسية على الأرض وفوز حركة حماس بالانتخابات عام 2006، والحرب الفاشلة على لبنان، أضعف من امكانية فرض مثل تلك التسوية.

أما مفاوضات أنابوليس (2007-2008)، التي استمرت عاماً كاملاً، فقد ظلت تدور في ذات الحلقة المفرغة، ولم تفضِ إلى نتائجٍ ملموسة. لتأتي الانتخابات الجديدة بحكومة "نتنياهو" منذ العام 2009، وتَتعطّل العملية السياسية، ويجري إغلاق نافذة الفرص بإحكام طوال أكثر من عقد، تتخللها مفاوضات عُرفت بـ (الاستكشافية) أو (غير المباشرة) في عهد إدارة أوباما، والتي جاءت كمحاولةٍ أخيرة، لفحص إمكانية التوصل إلى حل. لكنها لم تسفر عن أيةِ نتائج لأن المفاوضات بقيت تُدار على ذات الأسس السابقة. 

أما الصيغة الأخيرة "للفرصة" فقد تَمثّلت بخطة "صفقة القرن". لم تكن الخطة أمريكية بالمطلق، وإنما خطة "اسرائيلية" بالكامل صاغها "نتنياهو" وفق تصوره للحل السياسي مع الفلسطينيين، وتبناها "دونالد ترامب" حرفياً. وقبل أن يجري طرحها وكصيغة للحل، تصرف "ترامب" بسياسة رعناء، حيث اعترف بالقدس عاصمة "لاسرائيل"، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، وقام بتجفيف مصادر تمويل الأونروا تمهيداً لتصفية قضية اللاجئين، واعتبر المستوطنات في أراضي الضفة، شرعية تماماً تمهيداً لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، ومارس عدة ضغوط سياسية ومالية واقتصادية على الفلسطينيين لإرغامهم على قبول الخطة سلفاً قبل طرحها رسمياً.

وقد استغلت "اسرائيل" والولايات المتحدة، لحظة زمنية صعبة يمر بها العالم والإقليم، لفرض حلٍ نهائي على الفلسطينيين. حيث جرى الإعلان عنها في ظل تفشي وباء الكورونا، وانهماك العالم بمعالجة هذه الأزمة سنة 2020، في ظل استمرار حالة الانقسام الفلسطينية، وانشغال البلاد العربية بأزماتها الداخلية، والأهم بروز بعض القادة والأنظمة العربية، ممن تحمسوا للخطة وقبلوا بها، ومارسوا ضغوطاً كبيرة على الفلسطينيين لإرغامهم على قبولها. 

غير أن الشعب الفلسطيني بكامل أطيافه، رفض "الفرصة" الجديدة، وقد أجمع العالم بما فيها أوساط في الولايات المتحدة وحتى في "إسرائيل"، على أن هذه الخطة لا تُمثّل أيةِ فرصة، وأنه لا يمكن لأيِ شعبٍ أن يقبل بخطةٍ على هذا الطراز.

لقد كانت "صفقة القرن" آخر "الفرص" المعروفة وأسوأها على الإطلاق. ولم تتأخر الأصوات المعادية وبعض الأبواق العربية، في التنديد برفض الفلسطينيين للخطة واتهامهم من جديد بإضاعة الفرصة السانحة.

إن إغلاق نافذة الفرص، بعرضِ حلٍ هزيل على شاكلة "صفقة القرن"، من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه، إلى انفجار الأوضاع، وتنامي حالة الرفض الشاملة، وترسيخ إصرار الفلسطينيين على استعادة حقوقهم وخلاصهم من الاحتلال.

وباختصار، لقد كانت الفرص المستحيلة القبول بها فلسطينياً في كل مرحلة، تنطوي على مساومة شعبٍ على وطنه وأرضه ومياهه وكرامته الوطنية ومستقبل أبنائه، ولا يجد الشعب الفلسطيني أيةِ خيارات أمامه إلا بالتشبث بالأمل والمقاومة.

إن موازين القوى المختلة دائماً لصالح العدو، عجزت في كل مرحلةٍ من فرض الحلول على الفلسطينيين، رغم حالة العجز، أما الفرص التي يُتهم الشعب الفلسطينب بإضاعتها، ما هي إلا صيغ "للتحايل"، والالتفاف على حقوقه المشروعة، وإرغامه على الاستسلام.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.