مقال للأديب إبراهيم نصرالله حول إضراب الأسرى

إبراهيم نصرالله.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

بقلم: الأديب والروائي والمفكر إبراهيم نصرالله

لا يكتب المرء، فقط، عن أسرى في إضراب حريتهم وكرامتهم، حريتنا وكرامتنا، فهؤلاء تحرّروا، تحرروا حين اختاروا الجهة التي اختاروها طريقا لأرواحهم، وطريقا لضميرهم، وحريتهم وحرية شعبهم، وتحرروا حين استطاعوا أن يتمسكوا بأعمق وأغلى ما في الإنسان من مبادئ، حتى وهم في الأسر.

لم يكن نضال الأسرى جديدا، فمنذ أن وطأت دبابات الاحتلال أرض فلسطين، وهناك التّحدي، وهناك الإصرار على المواصلة، وهناك قيمة كبرى لم يقبلوا، وشعبهم، التنازل عنها، هي قيمة الحرية.

ومنذ عام 1967، بعد حرب حزيران، راح الاحتلال يزجّ بالمناضلين في سجونه، لكنه لم يدرك أن قمعه لن يُجدي، وقوته لن تُجدي، ورهانه على انهيار خيولنا لن يجدي.

رُبْع الشعب الفلسطيني دخل سجون العنصرية الصهيونية، واحد من بين كل أربعة على الأقل، وكل الشعب الفلسطيني أعتُقِل خلف الحواجز، أمام الجسور، وفي الاجتياحات، وفي حصار يتلوه حصار، سُجن الآباء في طريقهم إلى العمل، وسُجن التلاميذ في طريقهم إلى المدارس، وسُجنت الأمهات في خوفهن على كل من يغادر عتبة البيت؛ لأن عدم العودة أقسى الاحتمالات، وسُجن الأطفال في أرحام أمهاتهم، ومات منهم كثيرون لأن جنود النازية الجديدة لم يسمحوا لهم بالوصول إلى المستشفيات.

لم يكن السجن هو ذلك الحيز الذي يُزج فيه السجناء في الزنازين أو سواها، وحسب، بل كان، أيضا، كل بقعة من فلسطين، يقبض الاحتلال الصهيوني بكل أسلحته على عنق أصحابها؛ وإن كانت غزة، منذ زمن، هي النموذج الأوضح، لأكبر وأقبح سجون التاريخ، إلا أن الضفة لم تتذوق طعم الحرية إلا عبر مكعبات كمكعبات مرق الدجاج، بعد انسحاب الصهاينة إلى أطراف بعض مدنها وقراها، واحتفاظهم بحق الغطرسة في اجتياح أي بقعة فيها، ليلا نهارا؛ وليس هناك إنسان واحد فيها يملك اليقين في أن قوات الاحتلال بعيدة عن غرفة نومه، إذ، ولألف سبب، قد يفتح عينيه في أي لحظة، ويجد الجنود الصهاينة فوق رأسه، يعتقلونه أو يعتقلون أبناءه وبناته وزوجته، أو يغتالون من يريدون من أهل بيته.

لا يختلف أي بيت عن أي زنزانة، فكما يقتحمون غرف السجن بحثا عن كتاب أو ملعقة ملح، يقتحمون البيوت، كل البيوت، حتى تلك البيوت والمكاتب التي تظن أنها محميّة بتواطئها، تلك التي لا يدخلونها ببساطيرهم، ولكنهم يدخلونها بربطات عنقهم، ثم بأجهزة تنصتهم وكاميراتهم.

في السجن، عانى السجناء طويلا، ولم يزالوا من "العصافير"، وهؤلاء هم الخونة، عيون الاستخبارات الصهيونية على السجناء، وآذان هذه الاستخبارات وأفاعيها، وفي الخارج، لا يقل الأمر سوءا، فالعصافير، أو الغربان، موجودون، وليس عليهم أن يتخفّوا، كما يتخفى أشباههم في السجون، فهنا، وعبر الاتفاقات الأمنية، يعرفهم كل السجناء في السجن الكبير، وهؤلاء، يفعلون ما على الاحتلال أن يفعله، متى شاء هذا الاحتلال، وأن يختفوا من الطرقات تماما حين يداهم الاحتلال المدن بحثا عن واحد من أبطال هذا الشعب، كما حدث مع الشهيد باسل الأعرج، حيث صمتت هذه "العصافير"، بل هذه الغربان، واختبأت إلى أن توقّف إطلاق النار، وأكملت قوات الاحتلال مهمتها.

مأزق أسرانا أنهم في سجن داخل سجن، ومأزق الشعب الفلسطيني أنه موزع بين سجن أكبر وسجن أصغر، وفي السجنين ثمة احتلال، وعصافير وغربان.

هكذا، يتسع معنى إضراب الأسرى في زنازينهم، ليأخذ معناه الأبعد، ضد همجية الاحتلال، و(سلطة وطنية) أيضا، سلطة لطالما أبقتْ قضية الأسرى في أدنى مراتب مطالبها، واكتفت بتلك الأعداد الصغيرة التي تمّ إطلاق سراحها، بعد كل اتفاق سلام، ومعظم من خرجوا كانوا على وشك إنهاء مدة السجن، وبعضهم، لحقت بهم قوات الاحتلال واعتقلتهم ثانية، برعاية صمت السلطة نفسها.