من سجن رامون الصحراوي ..

" أحتاجُني يا قلب حياً " الأسير أمجد عواد يكتب ..

F3645EF0-8B94-41BB-AFD7-1AAF8402B4B0.jpeg

ذات خدعةٍ محكمة، تمكنت بعد سنوات عجاف من أن أنتزع فرصةً لالتقاط صورة لي ولأمي في أحد السجون الصهيونية، ولم يكن يفصلني عنها سوى بابٍ فولاذي عجوز وثلاثة أمتارٍ بدت وكأنها كوناً بأسره، كان هذا منذ أعوامٍ طوال، لكنّي أذكر تفاصيل تلك اللحظات كما لو أنّها بالأمس القريب. 

أذكُر.. 
أن المكان ضاق لذلك الحد الذي كان يسعني وأمي فقط، والصمت سادَ كأن معركةً حطت رحالها قبل قليل، فلا صوت يعلو فوق صوت الصمت في حضرة الوطن السائر باتجاهي، أماه أوتعلمين أني تُهت لحظتها، ضجّت أُذناي من نبض القلب الذي ازداد قرعاً كلما اقتربت، تاهت خطاي، ذاب الفولاذ حول معصمي، وغدى طوق ياسمين، غاص الإسمنت من حولي، تفكك وانكسر المكان على المكان حتى جثا شظاه راكعاً في حضرتك. 

أُمّاه..
غادرتني حينها الصفات جميعها، صمتي وتلك النظرات القاسيات في عيني وانعقاد الحاجبين فوقهما، وتحفُّزي وانتباهي، غادرني كل شيء، وكأنني غيري، و وجدتُني طفلاً يُغريه فضول الظل المقترب، تُعاندني الجهات، قدماي تُمسكان بالأرض، ثَقُلَ وزني، ارتبك فيَّ كُلُّ شيء، تُهت في فوضاي، لم أعد أستطيع مشياً، فاستحالت بضعُ بلاطاتٍ أمامي لأكثر الطرق اشتباكاً و وعُورة، تعثرت في عتمة الدرب. 

أماه..
ها أنت هنا الآن حقيقةً لا صوت أثيرٍ مهرب، ولا انعكاس يجرحه الزجاج، ولَكَم خشيتُ أن يَنتزع صوتُ أصفادي من اللحظة جماليّتها، وكم تمنيت لو تذكرت قبلها أن أُبعثرني قليلاً، كأن أنسى الزر الثالث في قميصي مفتوحاً، أو أن أُبعثر شعري، أو أترك لأحد جيوبي حريّة التسوّل خارجاً، أو أن أفتعل عراكاً مع أحد الرفاق أُضربُ فيهِ فأفوز بكدمةٍ تحتَ عيني اليُسرى، لا لشيءٍ سوى أن توبّخني أمي وتعود لممارسة مهمة ترتيبي كما اعتادت. 

أماه.. 
سقط الزمان سريعاً على المكان، فغَدت اللحظات عُمراً يمرُّ بجانبي لأراه، فهُنا تُعدّينَ لي الطعام، وهناك تعلميني الحياة، وهُنا قريباً تتلينَ عليَّ لاءاتُكِ الكثيرة، وبعيداً عن كومة الصدأ أراكِ تخيطينَ شيئاً، ويساراً قليلاً أراني أُعد لكذبة ما وأراك لم تصدقيها فتنظرين إلى السماء وتبتسمين. 

أماه..
ما كُنت أظن أن التقاط صورةٍ لأمٍ و ابنها سيستحيل امتحاناً لقدرة قلبي على الإحتمال، جنَّ جُنونه، هاجت دقّاته، يا قلبُ أستحلفك ألّا تُفقدني الوعي، يا قلبُ أحتاج عينيّ مفتوحتين لأرى حُلماً من لحمٍ ودم يقترب لاحتضاني، أحتاج أنفاً أشتمُّ به عبق الياسمين المشبّع بالتاريخ بالتراب بالزمن الذي تركتُ نصفي مُخبئاً فيه، أحتاج يديّ لألمس أُماً بحجم الدُّنيا، أحتاجني يا قلبُ حياً لدقيقتين وبعدها أعلن برأس الصفحة الأولى موتي وموتك يا قلب وأكتب:
كانَ اللقاء ستّونَ ثانيةً لا أكثر إلّا أنه احتضن أمه، علماً بأن سَجّانه حين اكتشف خدعته ألقى بالصورة في سلّة المهملات بعد أن تأكّد من دقّة تمزيقِها. 

‎أمجد عواد
‎سجن رامون الصحراوي