كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من زنزانته في سجن ريمون..

رعاع الإمبراطورية والنفاق الصـهـيوني

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

في العام 1899م صرَّح الرئيس الأمريكي الأسبق "ثيودور روزفلت" قائلًا: "لن تنتصر قيمنا الحضارية ما لم نتخلق بالأخلاق البربرية".

 لم تسقط عبارة روزفلت من السماء كما أنها لم تكن مجرد زلَّة لسان بقدر ما كانت تعبيرًا عن التاريخ الإجرامي للولايات المتحدة الذي بموجبه جرت عملية إبادة لعشرات الملايين من السكان الأصليين الذين يُطلق عليهم تسمية "الهنود الحمر"، كما أن هذه العبارة لا تُشكِّل توصيفًا للتاريخ الأمريكي والدولة في قادم السنوات.

فالأخلاق البربرية التي تحدث روزفلت قبل أكثر من قرن والتي رافقت الولايات المتحدة منذ إنشاء مستعمراتها الأولى وحتى الآن هي ذاتها التي تشبَّع بها قطعان الرعاع الذين أطلقهم الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" وتحريضهم لاقتحام مبنى "الكابيتول"، فبعد الصدمة التي أصابت المجتمع الأمريكي في أعقاب هذا الهجوم البربري وما أثاره من حالة من الذعر والبلبلة وإظهار إحدى الوجوه القبيحة للديمقراطية الأمريكية، استنفرت مؤسسات الدولة ونخبها بهدف التصدي لثقافة البلطجة التي يتبعها ترامب منذ توليه الحكم قبل أربع سنوات وبالأخص منذ رفضه لنتائج الانتخابات الأخيرة واتهامه مؤسسات الدولة بتزويرها، ووصلت ذروتها بتحريضه لجمهورٍ واسع من أتباعه بالهجوم على مبنى الكابيتول، وهو ما أطاح بغرور الأمريكيين وتبجُّحهم بديمقراطيتهم الزائفة.

في الواقع وإذا ما شئنا الدقة، فإن ما جرى ليس سلوكًا شاذًا عن السياق الأمريكي البربري، كما أن ترامب لا يُشكِّل استثناءً للرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه في البيت الأبيض، إن هذا الحدث إنما يعكس وجهًا من وجوه المجتمع والتاريخ الأمريكي المتشبِّع بالبربرية والإجرام والعنف والغرور والقوة والروح البهيمية، أما ترامب فإنه لسلسلة الرؤساء والقادة الذين حكموا هذا البلد ولا يكاد يخلو رئيسٌ منهم من جنون العظمة وروح المغامرة الطائشة والكذب والخداع.

فالتاريخ الأمريكي زاخرٌ بالعنف والإبادات الجماعية منذ أن بدأ الرجل الأبيض ببناء مستعمراته في هذا البلد، وإبادته للسكان الأصليين طوال قرون، وجرى أثناء عملية الإبادة استخدام كل الوسائل التي تقشعر لها الأبدان، حيث شارك في هذه الإبادات مختلف الرؤساء والمؤسسين للجمهورية الأمريكية من (جورج واشنطن، جون آدمز، جيمس ماديسون، توماس جيفرسون، آندرو جاكسون، بنيامين فرانكلين، وثيودور روزفلت..إلخ)، ويُنسب لكل واحدٍ منهم عدد من الممارسات والمواقف الفظيعة.

لقد اُعتبر هؤلاء القادة البرابرة عظماء وملهمين في نظر المستوطنين البيض وأبناءهم وأحفادهم، وباتت خطبهم وأقوالهم الغريبة والشاذة تُحفظ وتُدرَّس في المدارس والجامعات.

لم تكن مواقف ترامب وتصريحاته الغريبة شاذةٌ عن مواقف وتصريحات من سبقوه، وبمقدورنا أن نذكر قائمة طويلة من هذه الأقوال والعبارات الواردة على ألسنة رؤساء الولايات المتحدة، ولكننا لن نثقل هذا المقال بمثل هذه المواقف، ونكتفي بالبعض منها على سبيل المثال لا الحصر.

 ثمة من سبق ترامب من الرؤساء المهووسين بـ"أمريكا أولًا" وأمريكا فوق العالم، فالرئيس الأمريكي "جون آدمز" قال سنة 1789م: "إن استيطان أمريكا الشمالية يُمثِّل تحقيقًا لمشيئة إلهية"، أما الرئيس ثيودور روزفلت فقال "إن أمركة العالم هي مصير وقدر أمتنا"، فيما صرَّح الرئيس "ويليام تافت" عام 1912م: "نصف الكرة الأرضية سيكون في الواقع ملكًا لنا كما هو حاليًا على الصعيد المعنوي وذلك بسبب تفوُّق جنسنا".

افتتحت الولايات المتحدة القرن العشرين بهذه الروح العدوانية لشعوب وأمم العالم، وأخذت بالتحوُّل التدريجي إلى إمبراطورية عظمى محكومة بنزعات القوة والغطرسة والاحتلال والسيطرة على العالم، لقد كان القرن العشرين الذي يُعد قرنًا أمريكيًا بامتياز، شاهدًا على سلسلة طويلة من الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في مختلف القارات وجنبات الأرض الأربعة، وكانت مسؤولة عن عشرات الانقلابات والفتن وإذكاء الصراعات الداخلية في العديد من الدول، فلدى هذه الإمبراطورية الخارقة تاريخٌ حافل بالجرائم والحروب والإبادات والمؤامرات وتجويع الشعوب ونهب ثرواتها.

وفي العودة إلى جهود الرعاع الذين أطلقهم ترامب على مبنى الكابيتول، فإن هذا الجمهور كان موجودًا في مختلف الحقب والمحطات التاريخية في الولايات المتحدة، ويُشكِّل نِتاجًا طبيعيًا لمجتمع استيطاني قام على أنقاض الغير، وتشبَّعت أجياله بالروح العدوانية البربرية، فهذه المجموعات الكبيرة ليست هامشية وإنما متأصلة في بنية المجتمع، كما أنها لم تنشأ من فراغ، وإنما هي ثمرة لتاريخٍ طويل من التربية والثقافة التي نشأ عليها المجتمع الأمريكي، فلقد رأينا مثل هذه الروح البهيمية في أفغانستان والعراق وسجن أبو غريب في السنوات الأخيرة على سبيل المثال.

إن استنكار وشجب أفعال ترامب ورعاعه في الداخل الأمريكي إنما ينطوي على غرور وعنجهية مختلف القادة والنُخب الأمريكية بصورة عامة، فلم يوفر ترامب فرصة إلا ووجَّه الإهانة للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية واليونيسف والصين والعرب وإيران ولم يسلم منه حتى حلفاؤه الأوروبيين، كما أن هدد فنزويلا والمكسيك وكوريا الشمالية وقطع الأموال عن المنظمات الإغاثية وانتهج سياسة العربدة والبلطجة والابتزاز حتى مع حلفاء الولايات المتحدة من الدول الخليجية الذين أرغمهم هلى دفع جزية بمئات مليارات الدولارات، وعلى عقد صفقات الأسلحة بمئات المليارات الدولارات وتوريطها بحرب اليمن، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وإهانة الدول والشعوب، كما لو كانت هذه الدول بدون سيادة أو رموز أو كرامة وطنية.

كما أنهم لم يستنكروا أو يشجبوا محاباته المطلقة لإسرائيل ومنحها القدس والجولان كما لو كانت إقطاعيات شخصية، وقطع المساعدات عن السلطة وعن الأونروا وأرغم أربعة أنظمة عربية بصورة مذلة على التطبيع مع إسرائيل، فضلًا عن شطبه لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين وأن أعدادهم 40 ألف لاجيء وليس ستة ملايين بطريقة تنم عن وقاحة وغباء وعنجهية. 

أما الغريب في المشهد الأخير للهجوم على مبنى الكابيتول، يتمثل بالنفاق الصهيوني وانقلابهم على ترامب، فبالأمس القريب وحتى عشية الانتخابات الأمريكية كان ترامب يعد من أهم رؤساء الولايات المتحدة بالنسبة لإسرائيل وقادتها لاسيما رئيس حكومتها "نتيناهو" حيث قدَّم له ترامب ما لم يقدمه له أي رئيس أمريكي وكان يفضِّل فوزه في الانتخابات، الإسرائيلين بصورة عامة فضلوا فوز ترامب، حيث أشار استطلاع للرأي أجري عشية الانتخابات الأمريكية أن أكثر من 70% من الإسرائيلين يفضلون فوزه على بايدن. 

وبعد إخفاق ترامب بالانتخابات تغيَّر المشهد كليًا وأخذت إسرائيل تنأى عن ترامب بل وأخذت تتنامى في وسائل الإعلام الاستنكار والسخرية من كلامه وتصريحاته وإصراره على الفوز بالانتخابات، وبعد الهجوم على الكابيتول أخذوا يعبرون عن استهجانهم من أفعاله والدهشة من أتباعه المحسوبين على مجموعات يمينية ونازية وجرى وصفهم بالرعاع، وانضم الإسرائيليين لجوقة منتقديه وكأنهم لم يكونوا حتى الأمس القريب يتمنون فوزه بالانتخابات.

وقد أشار "داني ديان" القنصل الأمريكي السابق في نيويورك في مقالٍ له في صحيفة "يديعوت أحرنوت" بتاريخ 13-1-2021 إلى أن ترامب كان بمثابة كنز بالنسبة لإسرائيل لكنه كان كارثة على الولايات المتحدة، فيما نصح إسرائيل بالتنصل من ترامب واسمه والاكتفاء بما حصلت عليه إسرائيل من مكاسب في حقبته، واقترح أن يجري البحث عن اسم ملائم لمحطة القطار في القدس، وللمستوطنة التي سُميت باسم ترامب في هضبة الجولان.

إن هذا النفاق والانتهازية الصهيونية ليست مُستغربة، لأن إسرائيل دأبت على تحصيل ما يمكن تحصيله من مكاسب من هؤلاء الرؤساء الأغبياء، ثم لا تلبث أن تتخلى عنهم وبيعهم بأبخس الأثمان.

أما نحن الفلسطينيون فيجب أن نُعبِّر عن سرورنا وبالغ سعادتنا بهذه النهاية المخزية والمجللة بالعار لهذا الرئيس البربري، ويتعيَّن علينا ألا ننسى ما قدمه لإسرائيل على حسابنا (القدس، إلغاء حق العودة، صفقة القرن،...) كلها "مكاسب" لا معنى لها وباتت في حكم الباطلة لأنها صدرت عن رئيس فاقد للشرعية الأخلاقية وللأهلية العقلية بنظر العالم أجمع، ولن يكون بمقدور إسرائيل التفاخر بأن ترامب قد منحهم القدس أو الجولان او اعترف بشرعية الاستيطان في الضفة أو إلغاء لحق العودة، كما أنها لن تجرؤ على طرح مشروع صفقة القرن على الطاولة لأنها وُلدت ميتة أولًا، ولأنها سيجري دفنها مع انتهاء حقبة ترامب.

 

الأسير كميل أبو حنيش

سجن ريمون 

يناير 2021