كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من زنزانته في سجن الرامون

يرنو إلى مرآته

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif

تُطالع ذات يوم نصاً شعرياً درويشياً مدوخاً، وهو يقول:

"يرنو إلى مرآته"

فيرى غريباً مثله يرنو إليه..

يتلبَّسك النص لسنوات، ولسانك ما فتِئ يلهج به كلما انتابك بعضٌ من حالات الاغتراب، لم تدهشك ظاهرة النص بل عمقه، فيعيد التفرس لوجهك في المرآة، لعلَّك تجدُ فارقاً بينك وبين ما تطالعه، غير أنك لا تفلح في إيجاد أي غريب يطالعك.

تغادر المرآة، تغذُّ خُطاك نحو الذات، ربما تجد الغريب هناك، تمسحُ الغبار عن مرآة ذاتك كي يتسنى لك رؤيتها ومعاينتها، تطوفُ متجولًا في دهاليزك، وكهوفك العميقة، بحثاً عن الفارق وإن كان ثمة تصدعات قد أصابت أعماقك، وتبدلات تجعلك تغمض عيناك جزعاً من تحولات الذات المرعبة.

ترنو أيها الغريب الطاعن بالاغتراب إلى مرآتك لتتفحص ما حل بك، وما تركه الزمان من جراحات وندوب في خبايا روحك. 

فمن هو ذلك الكائن الغريب الذي بات يحتلك من الداخل ؟ ولأنك ترى وجهك في المرآة كل يوم، لن يكون بوسعك أن ترى الفارق، أما ذاتك التي شرعت لتوك في سبر أغوارها، ستدهشك مدى تبدلاتها، هل أنت أنت؟ أم أنت غيرك؟ أين الطفل البريء الذي كان يسكنك؟ أين الشاب الثائر والمغامر والعاشق الذي كان متوهجاً في أعماقك؟ أين الأحلام التي كانت مزهرة يانعة؟ لماذا اهترأت أحلامك وتكلَّست؟ 

ومن هو هذا الغريب الذي يلهث في صحرائك؟ 

ترنو إلى مرآة ذاتك فتشهد خرابها، فتحاول الوقوف على أطلالها مستعيداً زمناً غارباً، كنتَ أخضراً ومزهراً ويانعاً وعابقاً في ربيع العمر، وإذا بك تحيا مع الجفاف، تحاول أن تغض بصر القلب لئلا تعذب نفسك، وكيلا تفتضح بهذه التشظيات؟ من أنت الآن وأنت تمشي الهوينى نحو الأبدية وفي كل محطة تترك فيها شيئاً من القلب، شيئاً من الماضي الجميل الذي لا يعود، ومن هو هذا الغريب المتربع فوق عرش روحك؟

تجتازُ ذاتك بعد أن أصبحت مُغترباً عنها فتتفحص من هم حولك : الأهل ..الأصدقاء.. الناس.. كلُّ شيءٍ يتبدل، لم يعد الناس ناساً كي يعرفوك أو تعرفهم، من هم هؤلاء البشر المتحولين؟ من هؤلاء الذين تسكنهم أرواح ميتة لا قبس فيها؟ 

تتأمل الذات الفلسطينية النازفة...المهملة لذاتها...التي لم تعد تحفل بقدرها ولا الاعتداد بوجودها...وما صنعته من مستحيل البقاء...تلك الذات الواهنة المتسولة...المتذمرة...المتصالحة مع جلادها... فلسطينيتك التي تقطع أصابعها وتطعن نفسها ولم تفلح بعد من وقف تطاحن الأنباء...تتجاوزها الى الذات العربية...الراجفة...المرتعشة... ترنو الى مرآة الذات العربية فترى عرباً لا يشبهون عروبتهم، يتنكرون لها بالكاد يظهر حرف الضاد وسط سديم الهزائم والنكبات، أين دعاة البعث والنهضة والثورة والحرية؟

هل مضى زمن العمالقة وجاء زمن الأقزام المتطاولين ؟... تغادرها لعلك تعثر على ذاتك في المربع الإنساني الأوسع...في المثل والاحلام الكونية الكبرى...الحرية والعدالة والاشتراكية والأخوَّة الإنسانية...أين اختفى الكبار والرموز..

لماذا لم تعد البشرية تنجب العظماء...أيَّة لعنة حلَّت على العالم لتأتي بالصغار المارقين ؟ 

تُصاب بالفزع وأنت ترنو في مرآة عالم بات غريباً عنك ذاته... تغادر عالمك الإنساني المثقل بالمآسي والأوجاع والاغتراب والعبودية واليأس، لعلك تعثر على فسحة تنفذ منها خارج الوجود الإنساني لتتفحص إن كان ثمة ما يمكنك التعرف إليه أو التعرف إليك في تلك المجاهيل الشاسعة، ربما تعثر على معنى ينئى بك عن العدم، تسافر بين الكواكب والنجوم والمجرات والثقوب السوداء لعلَّك تَألف هذا المدى أو تلمع فيك لحظة حدس أو لحظة إلهام خارقة للزمن...تحاول...لكنك تعجز...تغمض عيناك لترى مالم ترهُ الحواس ... يداخلك العجز من جديد...فتعود للحظتك الإنسانية المستغرقة بأوحال جهلها، اللاهثة في بيداء يأسها...لكنها تصبوا لما هو متجاوز لإدراكها...فتدرك أنك تنتمي لجمهور الغرباء في هذا الوجود...أولئك المغتربين عن ذواتهم، المُحتفين بلحظات من عمر الزمن قبل الإنطواء في أبديته الصارمة، من أنت لتخيب ظنَّ العدم؟ 

بيد أنك تتغابى كما سائر الغرباء وتحاول أن تخلع المعنى على هذا العالم، ستقول لنفسك: "كفى لا تحدق في أية مرايا وتعال انظر إلى ما هو أجمل لكي تعيش.

حدق في زهرة ناضرة تعبق بالأريج... بطفلٍ لم يتجاوز بعد عمر البراءة الغضة...بفتاة متفتحة الأنوثة والجمال...وانظر إلى وجه أمك كلما أعياك الاغتراب لتدرك أن ثمة ما هو مألوف في هذا الكون...فلا ترى أي غرباء بعد اليوم...لا ترنو لأية مرآة بل حدِّق في شمس القلب لكي ترى ما تحب أن تراه...فمرايا الكون ليست صقيلة...إنما مُقعَّرة...متصدعة... ومسحورة....وحده القلب من يدُلَّك أين ترنو...

فارنو إلى قلبك...

حتى ترى ما تحبّ

واهجر مراياكَ..

مهما كانت صقيلة...

 

الأسير كميل أبو حنيش

سجن رامون الصحراوي