مشروع كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش

الكتابة والسجن، الحلقة السابعة "خبر عاجل"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون_حنظلة

يتعيّن علي الاعتراف بأنّني قد تعجّلت في كتابة رواية "خبر عاجل"، كما سأتعجّل في إنجاز معظم أعمالي الكتابية – كما سنرى في سلسلة هذه الحلقات- من دون أن أتيح الوقت الزّمني اللازم لإنجازها لتنضج. وأعيد ترتيبها وتنقيحها بشكل أفضل. أما الأسباب التي كانت تدفع بالكتابة على هذا النّحو، فهو سلسلة الهواجس المشار إليها في حلقة سابقة (الحلقة الثالثة) وأهمّها على الإطلاق هاجس السّجن والإجراءات القمعيّة المتواصلة والتي تحرم أيّ كاتب في السّجن من شروط الرّاحة النفسيّة والاستقرار والحريّة في الكتابة. 

شكّلت رواية "خبر عاجل" أولى محاولاتي الأدبيّة في حقل الرواية، وشرعتُ في كتابتها في صيف العام 2005. أما المناخ الذي كتبت به الرواية فقد كان ضاغطاً على الأصعدة كافة. فعلى الصعيد السّياسيّ العام بدأت مرحلة سياسيّة جديدة في حياة الشعب الفلسطينيّ في أعقاب رحيل الرئيس ياسر عرفات، وانتخاب قيادة جديدة تمثّلت بالرئيس أبي مازن، والآمال الكبيرة التي حاولت إحياءها هذه القيادة عن قرب للتوصل إلى حلّ سياسيّ، وإقامة الدولة، وتحرير الأسرى، كما أن مختلف الطيف السّياسيّ والوطنيّ الفلسطينيّ توصّلت إلى تفاهمات حول عدد من القضايا، منها :الشراكة السّياسيّة، وخوض الانتخابات التشريعية، وإعادة ترتيب البيت الفلسطينيّ.

أما على صعيد السّجون، فقد خففت مصلحة السّجون من قبضتها وإجراءاتها القاسية في عام 2005، وسمحت بالزّيارات العائلية، وتحسين بعض الشّروط الاعتقاليّة، وهو ما سمح بحالة من الاسترخاء النّسبيّ الذي يشجع على الكتابة والثّقافة.

وعلى صعيدي الشّخصيّ، استرحتُ من متاعب البوسطات والمحاكم بعد أن حوكمت بالسّجن المؤبد لتسع مرات متراكمة. أما العامل الذي أشعل شرارة المباشرة في كتابة هذه الرواية هي تلك الرسالة التي تلقيتها من الرفيقة والصّديقة نهى نهزال والتي تعلن فيها عن تضامنها معي بعد الحكم وشدّ أزري، وتشجعني على الاستفادة من السّجن بالكتابة، وتعهّدت بمساعدتي بموضوع الطّباعة والنشر والمتابعة. 

كان موضوع الرّواية مختمرًا في ذهني منذ سنوات، فالرّواية تروي قصّة الاستشهادي البطل أسامة بشكار ابن مخيم عسكر الجديد شرقي مدينة نابلس، والذي فجر نفسه في قلب مدينة نتانيا الإسرائيلية بتاريخ 19/5/2002. حيث ساعدته في هذه العملية والوصول إلى المكان المناضلة والأسيرة المحرّرة دعاء الجيوسي، وكان قد ساهم في إنجاز العملية عدد آخر من الشّباب منهم علام كببجي- محمود أبو وهدان- الشهيد فادي حنيني- والشهيد أمجد مليطات.

في اليوم التالي للعملية التقيت بالرّفيقة دعاء قبل اعتقالها بأيام، وكنتُ لا أزال ملاحقاً، وروت لي بعض تفاصيل هذه العملية التي هزت أعماقي في بعض جوانبها الإنسانيّة. فقد روت لي دعاء عن السّاعات الأخيرة التي أمضتها مع الاستشهادي أسامة بشكار، وكيف تعلّق بها والعلاقة الإنسانيّة الوجدانيّة التي ربطت بينهما في تلك اللّحظات التي تتكثّف بها العواطف الإنسانيّة. كنتُ أصغي لدعاء بكل حواسي وجوارحي. بيد أن أكثر ما هزّ أعماقي هو ذلك الخاتم الذي أرتني إياه دعاء في أصبعها وكان قد ألبسها إيّاه أسامة قبل أن يدير ظهره ويفجّر نفسه بعد دقائق قليلة، وبمكان ليس بعيداً عنها. 

اعتقلت دعاء بعدها بأيام، وحكم عليها بعد مدة بالسّجن المؤبد ثلاث مرات متراكمة، فيما بقيت أنا ملاحقاً لعام إضافي إلى أن تمكّن العدو من اعتقالي في ربيع العام 2003. لقد تلبستني حكاية أسامة ودعاء، وبقيت هذه الصّورة تلاحقني لسنوات، فالعملية إنسانيّة بامتياز وتستحق أن تروى. عاهدت نفسي أن أكتب هذه الحكاية في حال بقائي على قيد الحياة. ورويت الحكاية لأحد الأصدقاء كعهدة أضعها بين يديه ليكتبها ويرويها للناس في حال استشهادي.

لكنّي بقيتُ حياً، ودخلت الأسر. وبقيت حكاية أسامة تلاحقني وتلح علي مدة ثلاثة أعوام إلى أن وصلتني رسالة نهى فباشرت في كتابتها. وكان الأسير مروان الكعبي يوشك أن يتحرّر في نهاية العام 2005. وكنتُ أعتزم إخراج الرّواية معه، لإنه لم يكن من السّهل إخراج الأعمال الكتابية إلا من خلال الأسرى المحررين وكان سجن جلبوع يضم مئات الأسرى معظمهم محكومين بأحكام مؤبدة وعالية، ويندر أن تجد أحداً يتحرر في أوقات متقاربة.

أنجزت الرّواية في بدايات أيلول، واحترتُ في إطلاق مسمى عليها أن استقر على " خبر عاجل"؛ لأن اخبار العمليات الاستشهاديّة كانت تسجل كسبق على شاشات الفضائيات بهذا العنوان. 

باشرتُ في عملية تنقيحها وتجهيزها لتكون صالحة للطّباعة والنشر، وبعد أيام أبلغتني الإدارة بنيتهم نقلي إلى سجن هدريم. لم أجد أمامي سوى إخراج المسودة الثانية أبقيتها لمروان الكعبي ليأخذها معه عند تحرّره في أواخر العام. فيما أبقيت المسودة الأولى لأنتهي من إنجازها في هدريم، وقلت في نفسي: أن تخرج مكسورة خيرٌ من بقائها في حوزتي عرضة للتّفتيش وربما للمصادرة. 

تنقّلت من جلبوع إلى هدريم، ولم ألبث حتى جرى نقلي إلى أيلون في بدايات أكتوبر، وفي بدايات كانون الأول ديسمبر عدتُ إلى جلبوع، وكان قد تبقى لمروان أيام للتحرّر، ولم يكن عندي في القسم ذاته، فغامرت بإخراجها كما هي، وكانت الآمال معقودة على إمكانية تحرّرنا في أي وقت. وعندها تأملت أن أعمل على تجهيزها للطّباعة في الخارج.

وصلت الرّواية إلى أيدي الصديقة نهى نزال، ولم يكن لدينا في تلك المرحلة أجهزة للتّواصل الهاتفي، فسارعت نهى لطباعتها وتدقيقها وتجهيزها للطباعة والنشر، مع أنها أشارت لي في إحدى رسائلها إلى الكثير من مواطن الضّعف بين دفيتها وتحتاج إلى جهد. ومرّت السّنوات واستمر المخاض العسير لولادة روايتي الأولى إلى أن رأت النّور في العام 2008 بعد ثلاث سنوات من كتابتها وتسريبها خارج الأسوار. 

كنتُ أنتظر السّماح بإدخالها على الزيارة كمن ينتظر مولوده الجديد، احتاجت بضعة أشهر حتى دخلت في آذار من العام 2009، طالعتها عدّة مرّات، ولمست ضعفها من جوانب مختلفة، كما لاحظت الكثير من الأخطاء المطبعيّة، وبقدر ما سرّني رؤيتها بين يدي بقدر ما شعرت بعدم الرّضا الكامل عن إنجازها بهذا الشكل، لا سيما وقد نضجتُ ثلاث سنوات وصار بوسعي الكتابة على نحو أفضل. 

قرأها العديد من الأسرى وأبدوا إعجابهم بها وبرسالتها ومضمونها، وما تقدّمه من أسئلة وإجابات على كثير من القضايا التي كانت تشكل مثار جدل واسع طوال سنوات الأسر. عن الانتفاضة والعمليات وأشكالها. 

لم تطل المدّة حتى جاء السجان كعادته في التّفتيشات بعد دخولها لطرفي بشهرين. جاء التّفتيش الروتينيّ للغرفة التي كنتُ أعيش فيها، وقد كنتُ حينها في قسم 6 في سجن ريمون. صودرت الرّواية ورفضت الإدارة إعادتها إليّ بحجة احتوائها على مادة تحريضيّة عالية. وألمحوا إلى إمكانية اتخاذ عقوبة بحقي على هذه الكتابات. 

لم أُعاقب ولم أرتدع، وواصلتُ رحلة الكتابة. لم أفلح في إدخالها للسّجن ثانية ونفدت الطبعة الأولى للرّواية، ولم أتحمس لإعادة طباعتها ثانية ورهنت إمكانية إعادة كتابتها إلى يوم تحرّري، وهذا ما سأسعى لإنجازة بعد انبثاق شمس الحرية.