كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة السادسة، "الثورة الرابعة"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / حنظلة

شكّل كتاب "الثورة الرابعة" باكورة أعمالي الكتابيّة في السّجن، حيث شرعتُ في العمل على إنجازه منذ الأشهر الأولى لاعتقالي، وبدأت رسمياً في العمل في بدايات العام 2004 في سجن شطه. وعنوان الكتاب "الثورة الرابعة" هو كتابة عن الانتفاضة الثانية، بوصفها إحدى الثورات الكبرى التي فجرها الشعب الفلسطيني في مواجهة الاستعمار الصهيوني العنصري، وهي الرابعة بعد ثلاث ثورات كبرى ( ثورة العام 1936، والثورة المعاصرة بعد العام 1965، والانتفاضة الأولى التي اندلعت عام 1987).

كان لي شرف المشاركة في الأنشطة المسلّحة للانتفاضة الثانية، وكنتُ أحد القيادات الميدانية للانتفاضة مدة تجاوزت العامين والنصف قبل أن يتمكن العدو من اعتقالي في نيسان 2003. كانت صدمة الاعتقال إحدى العوامل التي حفزتني للكتابة، أما العامل الرّئيسي الذي كان يدفع بي للكتابة عن الانتفاضة يتمثّل في إخفاقها في إنجاز الأهداف الوطنيّة، رغم حجم التّضحيات والعمليات الفدائيّة والبطولات التي جسّدها الآلاف من الشهداء والأسرى، وكان السّؤال الذي يلحّ على الذهن: لماذا أخفقت الانتفاضة؟ ومن يتحمل مسؤولية هذا الإخفاق؟

كنّا مجموعة كبيرة من القادّة الميدانيين للانتفاضة ومقاتليها نلتقي في ساحة السّجن، والبوسطات، والمعابر، وغرف الانتظار. نتجادل مطوّلًا حول الانتفاضة، وأسباب تراجعها، ولاحقًا حول إخفاقها، والثّغرات الخطيرة التي رافقت عملنا، والأخطاء التي وقعنا بها في الميدان، إلى جانب نقاشات تلقي باللّوم على القيادات السّياسية والتّنظيميّة، وضعف الإمكانيات، وقوّة العدو وأجهزته الأمنيّة والعسكريّة. فضلًا عن الأوضاع العربيّة والإقليميّة والدوليّة التي كانت في غير صالحنا.

وفي خضم هذه النّقاشات، وطغيان اللّحظة السّياسية الرّاهنة، ولدت فكرة هذا الكتاب وكانت فكرته ترتكز على بحث أسباب إخفاق الانتفاضة من ناحية ميدانيّة بالأساس، إلى جانب الأسباب الأخرى: السّياسيّة، والاقتصاديّة، والعوامل الخارجيّة... الخ، وباشرتُ منذ بدايات العام 2004 في عملية البحث وإعداد المراجع، وإجراء المقابلات مع أعداد كبيرة من الأسرى، والمتابعة الحثيثة للصّحف ووسائل الإعلام. واجه مشروع الكتاب في عامه الأول مجموعة من العقبات؛ إذ كان يحتاج إلى عشرات وربما مئات المراجع والمعطيات والدّوريات من صحف ومجلات ودراسات، وهو ما كان يفتقده السّجن في تلك المرحلة سوى أعداد قليلة من الكتب والصّحف التي كانت تدخل السّجن. فقد كان غالبية الأسرى ممنوعين من الزّيارات اللازمة لإدخال الكتب والمراجع. أما العقبة الثانية فتمثلت بالوقت، إذ إنّ المشروع يحتاج إلى تفرغ شبه كامل، وهو ما لم يكن متاحًا، في ظل انهماكي بعدد من المهام والأنشطة التّنظيميّة والثّقافيّة والاعتقاليّة، واستعداد الحركة الأسيرة لخوض الإضراب عن الطّعام في شهر آب من عام 2004. فضلًا عن عراقيل أخرى كمداهمات السجّانين ومصادرتهم لعدد من الكراسات والأوراق بين الفينة والأخرى، وهو ما أعاق من تقدّم المشروع في السّنة الأولى.

ومع انتقالي من سجن شطه إلى سجن جلبوع صيف العام 2004 باشرتُ في جمع المواد، وما شحّ من كتب ومراجع، وأجريت منذ العام 2004 وحتى 2006 عشرات المقابلات مع أسرى كانوا قادة ومقاتلين ميدانيين. وقد أخذ المشروع بالنّمو، وساهمت إعادة الزّيارات العائليّة في بدايات العام 2005 بإدخال كميّات كبيرة من الكتب، وأذكر أنّني أنجزت خلال عام 2005 عدة مباحث للكتاب، أحدها كان مبحثًا وتحليلًا للعمليات العسكريّة طوال فترة الانتفاضة. وكان شاملًا، إذ استغرق من جهدي وقتًا ثمينًا، وكنتُ أوشك على إتمامه، وإذا بمداهمة تفتيشيّة روتينيّة، عثروا خلالها على المبحث بين أوراقي، وصادروه، وقد استدعاني ضابط الاستخبارات بعد أيّام، وسألني عن الكراسة فأجبته بأنها دراسة وسألني ثانية:

- من أين حصلت على هذه المعلومات؟ 

- فأجبته ساخرًا ....

- من يديعوت أحرنوت ومعاريف . 

إلّا أنّ الضّابط رفض إعادة الكراسة... وبدوري رفضت الاستسلام، وواصلت البحث والدّراسة حتّى أواخر العام 2006، حيث استغرق العمل في المشروع ثلاث سنوات، وشارفت على إنجاز معظم فصوله. خصصتُ الفصل الأول للمقارنة بين الثّورات الثّلاثة مع الانتفاضة الثّانية وأبرز سماتها وإنجازاتها.

أما الفصل الثاني فقد بَحثَ في مرحلة التسوية منذ سنة 1993 وحتى 2000 التي مهدت لاندلاع الانتفاضة الثّالثة. وأنجزت الفصل الثالث من الكتاب الذي يبحث في الانتفاضة وكنتُ قد أتممت البحث في عامها الأول، وما أن باشرت بالعام الثاني حتى أبلغوني بنيتهم بنقلي من جلبوع إلى سجن ريمون الصحراوي وقد كنّا في أواخر العام 2006. 

حزمتُ أمتعتي صباح السادس من كانون الأول لهذا العام، وانتقلت إلى سجن ريمون الذي كان قد افتتح منذ أشهر وحسب. كانت الرّحلة منهكة من أقصى شمال فلسطين إلى أقصى جنوبها، يتخلّلها المرور بمحطتين للمبيت والاستراحة وهما: معبار الرّملة ومعبار بئر السبع. وصلنا ليلاً إلى سجن ريمون وكانت صدمتي كبيرة حيث اكتشفت فقدان حقيبتين متوسطتي الحجم من حقائبي، تحتوي إحداهما على أهم متعلقاتي الخاصة من دفاتر وكراسات وأوراق ورسائل شخصيّة وصور ، والأهم هو مخطوطة كتاب "الثورة الرابعة".

أمضيت الأسابيع والأشهر التّالية في الضّغط على ممثلي السّجن؛ ليضغطوا بدورهم على الإدارة للبحث عن الحقائب واستعادتها. ورفعت عددًا من الشّكاوي، ولكن دون جدوى، ومع الوقت فقدتُ الأمل في إمكانية العثور عليها، وأصبت بالإحباط. مضت مدة أصبحتُ فيها بعيدًا عن القراءة والكتابة، إلى أن عدت بالتّدريج، وكان يجب عليّ أن أبدأ من الصفر.

ذات ظهيرة، عاد الرفيق داوود هرماس من البوسطة. وما أن دخل الغرفة حتى دنا مني وقال: 

عثرتُ على حقيبة من حقائبك في مخزن معبار الرّملة، كدت أطير من الفرح لهذا الخبر السّار. وسارعت لإخبار ممثّل السجن بهذا الخبر. أكدت الإدارة بعد إجرائها اتصالاً مع إدارة سجن الرملة بأنّه ثمّة حقيبة واحدة لا غير تخصني موجودة في مخزن السّجن. وكان عليّ الانتظار بفرحة منقوصة قدوم حقيبة من أصل حقيبتين. 

وصلت الحقيبة بعد أسبوعين من المماطلة، لكن تبدّدت سعادتي سريعًا حيث اكتشفت أنّ الحقيبة تحوي بعض الثّياب والسّجائر. فيما لا تزال الحقيبة الأهم ضائعة. يئست تمامًا من إمكانية العثور عليها، ونسيت أمرها وعدتُ للانهماك بحياة السّجن وتفاصيله اليوميّة.

بعد أكثر من ثلاثة شهور وصلتني رسالة قصيرة من الرّفيق ماهر أبو كرش، وكان في قسم آخر في السّجن وهذه الرسالة حملت جملة صغيرة: حقيبتك الضّائعة، عثر عليها شابٌ في مخزن معبار بئر السّبع. سررتُ لهذا الخبر. وسارعت لإبلاغ ممثّل السّجن. وكما المرّة الأولى اتصلت إدارة السّجن بإدارة بئر السبع، التي أكّدت وجود حقيبة منذ بضعة أشهر أحضرتها وحدة " التخشون" المسؤولة عن حراسة البوسطات إلى إدارة السّجن. 

أبلغتني الإدارة أنّ الحقيبة ستصل بعد يومين مع البوسطة، ثم جاء اليوم الموعود، وبعد الظّهيرة أبلغت بأنّ الحقيبة وصلت مع البوسطة، غير أن شرطة الحراسة نسيت إنزالها من السيارة، وعادت ثانية إلى بئر السّبع. 

جنّ جنوني، وعبرت عن غضبي واحتجاجي، واتهمتُ الإدارة بأنّ نسيان إنزالها لم يكن عفويًا، وإنّما كان متعمّدًا. ارتبك الضّابط وأكّد لي أنّها مجرّد نسوة، وأنّه سيهتم شخصيًا بمتابعتها. وبالفعل أبلغت بعد أيّام بوصولها، تسلمها ممثّل القسم وأحضرها. كانت سعادتي بالغة وأنا أتفقد محتوياتها. عثرت بداخلها على كل الكراسات بما فيها المخطوطة والرّسائل والصّور جميعها. أما بقية الحاجيّات من أدوات كهربائية وأقلام فعلى ما يبدو سرقت من داخلها. انتشلت المخطوطة من قاع الحقيبة، ضممتها لصدري وقبّلتها، فانتهى بذلك فصل طويل من العذاب. 

كنّا في ربيع العام 2007 وكانت الجامعة العبريّة المفتوحة قد قبلت طلبي لدراسة الماجستير في برنامج الديمقراطيّة، وصار يتعيّن عليّ الاستعداد للدراسة إلى جانب انهماكي في الأنشطة التّنظيمية والاعتقاليّة والثّقافيّة، كما كنت قد أنجزت جزءًا مهمًا من مشروع كتاب جديد سأروي عنه لاحقًا. وبعد عودة مخطوطة "الثّورة الرّابعة"، تملكني الإرباك فكيف يمكنني التّوفيق بين كلّ هذه الأنشطة والانشغالات والأعباء؟ قررتُ تأجيل العمل في كتاب "الثورة الرابعة". وقلتُ في نفسي بعد إتمامي للماجستير سيكون بوسعي إنجاز الكتاب على نحو أفضل، وتأجّل المشروع، وفي كل عام كان يداهمنا حدث أو تطوّر يحول دون العودة لاستكمال بقيّة المخطوطة، فظلت في حقائبي لسنوات أخرى، وانشغلت بأعمال كتابيّة أخرى وتراجع شغفي بإنجازها. 

في ربيع العام 2014 نقلتُ إلى سجن جلبوع بعد أكثر من سبع سنوات في سجون الجنوب، وكانت حقيبة الدّفاتر والكراسات قد تضخمت، وباتت عبئًا كبيرًا في تنقلاتي، واشتملت أيضًا على الرّسائل والصّور وأبحاث وكتب الجامعة. وجدتُ فرصة لإخراج محتويات هذه الحقيبة الكبيرة عبر الزّيارات العائليّة وعلى مراحل. 

قال لي ماجد المصري – ممثّل القسم –: سأساعدك على إخراجها جميعًا. وبالفعل بدأت بإخراج كمية من هذه المحتويات مع كلّ زيارة، كانت والدتي كل أسبوعين تحمل كيسًا كبيرًا من الدّفاتر والكراسات إلى البيت. 

وفي الزّيارة الأخيرة كان متبقيًا لديّ بضع كراسات إلى جانب مخطوطة "الثّورة الرّابعة"، أمسكت بها قبّلتها وودّعتها، واعتذرت لها؛ لأنّني لم أفلح في إنجازها بعد أن رافقتني لأكثر من عشر سنوات، ووعدّتها أن أنجزها ذات يوم إذا ما تحررتُ من السّجن. نجحت في مهمة الحفاظ عليها على الأقل. ونجحت في إيصالها للخارج، وها هي الآن تنتظرني في بيتنا إلى جانب عدة كراسات مكمّلة لها. وإذا كان لها نصيب بأن ترى النّور ذات يوم، سيتحقق فقط بعد تحرّري من السّجن.