كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من داخل زنزانته في سجن ريمون

"المتصهّينون العرب"، بقلم الأسير كميل أبو حنيش

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif

بقلم الأسير الأديب: كميل أبو حنيش

لن ننزلق إلى مربع الشتائم والعبارات المقذعة في توصيف ما آلت إليه الحالة العربية لا سيما الأنظمة الخليجية التي أقامت وتقيم علاقات وتحالفات سرية وعلنية مع إسرائيل، مع أن التصريحات التي تفوه بها بعض المسؤولين والإعلاميين في هذه الدول في أطناب المديح للدولة العبرية وقادتها تثير الكثير من التقزز، وتبعث على الغثيان، وتنم عن جهل وضحالة وعدم إدراك لما يجري في الواقع المتعين، كما أننا لن نتهم أحدًا بالخيانة كما درجت عليه العادة، مع أن هذا السلوك وهذه المواقف فاقت مستوى الخيانة والتواطؤ والمؤامرة.
ولكن دعونا نقارب المسألة من زاوية سياسية وفكرية ونتظاهر بأننا نناقش هذه الفئة الضالة بوصفها جماعة ناضجة ومدركة لأفعالها وغير مستلبة الوعي والقرار ولا تعاني من الضحالة.
وقبل ذلك، قد يكون من المأساة أن نشتق مفهوم "الصهيونية العربية" لموازاتها مع صهيونيات أخرى كالصهيونية المسيحية واليهودية والليبرالية والعلمانية والاشتراكية والعمالية والقومية والدينية..إلخ، بل ومن الخطأ الكبير اشتقاق مثل هكذا مفهوم في حالتنا العربية لأنه مفهوم غير واقعي وغير موضوعي وينطوي على مبالغة نظرًا لمحدودية الظاهرة، وسنكتفي بمفهوم "المتصهينون العرب" لإنه ينسجم مع هذه الظاهرة الشاذة التي تكيل المديح لإسرائيل وزعمائها وقادتها ومنبهرة بسياساتها ومجتمعها وحتى حروبها "وديمقراطيتها" وتقدمها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، وتُمعن في جلد الذات العربية، وتُلقي باللائمة على الضحية أي الفلسطينين وبشكل يتقاطع تمامًا مع الخطاب الصهيوني، وبهذا وقعت في فخ الدولة العبرية في استدخال الهزيمة للوعي والوجدان العربي وتحويل هذه الفئات من أعداء إلى أصدقاء وحلفاء لإسرائيل وهو ما يسمونه في علم النفس "التناقض الوجداني"  حيث تزدوج في وجدان نفس الشخص في ذات الوقت مشاعر الحب والكراهية إزاء نفس الموضوع، وهذا قد ينطبق تمامًا على هذه الظاهرة من المتصهينين العرب. 

والسؤال المطروح على هذه الفئة: كيف يمكن أن تتقبل إقامة علاقات مع إسرائيل وإطناب المديح لها، وهي تقوم على أنقاض الشعب الفلسطيني، الذي يعيش نصفه تحت الاحتلال فيما النصف الآخر يعيش في الشتات وفي مخيمات البؤس واللجوء. 

وهذه الدولة تضطهد الشعب الفلسطيني وتمارس بحقه أبشع صنوف التعذيب والإذلال، ليس هذا وحسب وإنما يجاهر المشروع الصهيوني ودولته بأنه لا يكتفي بفلسطين وإنما سيتوسع في الأراضي العربية ولا يتوفر أية فرصة للنيل من العرب والسعي لإضعافهم وتفتيت دولهم وتخريب مجتمعاتهم وإثارة الفتن والحروب الطائفية والمذهبية والسيطرة على الثروات العربية، ولم تسلم أية دولة عربية من الحروب العدوانية أو التآمر عليها وعلى مصالحها وتوريطها بالحروب الأهلية مع دول الجوار، فالمسألة ليست مجرد تحليل أو توقعات وإنما وقائع مثبتة تاريخيًا، وممارسات يدركها أي سياسي أو مثقف ويستشعر بها حتى الإنسان البسيط بحسه العفوي. 

إذًا فالمشروع الصهيوني المجسد بإسرائيل يستهدف الوجود العربي برمته، ولم يتوقف يومًا عن حروبه وتخريبه للمنطقة، فكيف يمكن وصف هذا الكيان بالديمقراطي أو المسالم؟! فإسرائيل تُعرِّف نفسها بأنها دولة استعمارية معادية للعرب، وهذه الدولة يوجد من يصفها بالعنصرية والعدوانية حتى من داخلها وأنها غير ديمقراطية، ولا يمكنها أن تحيا من دون الحرب والعدوان. 

إن دفاع "المتصهينون العرب" عن إسرائيل وإلقائهم باللائمة على الفلسطينين، إنما يُعبِّر إما عن جهلٍ وإما عن تواطؤ أو كليهما معًا الأمر الذي ينطوي على انحطاط هذه الفئات.
فما الذي تغير بإسرائيل منذ الإعلان عنها وحتى اليوم حتى تثير كل هذا الاعجاب والهرولة إلى أحضانها؟ هل تحوّلت إلى دولة ديمقراطية تحترم حقوق مواطنيها وغير مواطنيها وجيرانها؟ وهل تخلت عن ترسانتها العسكرية وسلاحها النووي؟ 
أم أنهت احتلالها للأراضي العربية وتهديداتها العدوانية ضد دول المنطقة؟ وهل كفَّت عن إنتاج الثقافة العنصرية التي لا يوازيها سوى الثقافة النازية؟ هل قرأ المتصهينون العرب شيئًا عن الفكر الصهيوني واستراتيجياته وأهدافه ومعسكر أعدائه ومعسكر أصدقائه؟ وهل جربوا أن يَلقوا نظرة على مناهج التعليم في مدارس إسرائيل أو يطالعوا القليل من الأدب والثقافة الإسرائيلية المشبعة بالعنصرية والعنف والطمس والتزوير؟ 
إن هذه الأسئلة يُدركها الإنسان العربي البسيط، لذا فإننا نثق بالانسان العربي ووجدانه ولن ينجح المتصهينون العرب في تسويق أفكارهم ومشاريعهم، فهذه الظاهرة ستظل محدودة ولن تشهد اتساعًا ملفتًا، لإنها ظاهرة شاذة ولإن أطروحاتهم فاسدة ولا يمكن لأي عقل سليم أن يهضمها، ولن تُنتج سوى ثمارًا معطوبة لإنها تتغذى على مياهٍ آسنة، فالصهيونية ليست فكرة تقدمية أو إنسانية أو أخلاقية كي يجري اعتناقها والترويج لها وإسرائيل ليست دولة ديمقراطية ومسالمة ولن تكون في يومٍ من الأيام. 
أما ما يجري في الواقع بين إسرائيل وهذه الأنظمة وبعض نخبها الفاسدة، ليس تطبيعًا بين دولٍ  وكيانات طبيعية وإنما تحالفات في الباطن والظاهر، ولم تصل هذه الأنظمة إلى هذه الدرجة من الانحطاط إلا بعد أن تعفنت من الداخل وباتت مستلبة القرار السياسي والاقتصادي وحتى الأخلاق بالكامل، ولن تكون سوى زبد بحرٍ لا ينفع الناس بأي شيء.

الأسير كميل أبو حنيش 
سجن ريمون
نوفمبر 2020