الأسير محمود أبو وهدان من قلب زنزانته في سجن نفحة يكتب

صفقة القرن ما بين الجذور التاريخية والظروف الموضوعية، بقلم الأسير محمود أبو وهدان

FB_IMG_1586533336317

صفقة القرن ما بين الجذور التاريخية والظروف الموضوعية - بقلم الأسير محمود أبو وهدان - مركز حنظلة للأسرى والمحررين

وقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليعلن عن ما أسماه "صفقة القرن" لحل الصراع الفلسطيني الصهيوني هو وفريق إدارته ورئيس الوزراء الصهيوني "بنيامين نتنياهو" وحضور سفراء بعض دول التبعية والرجعية العربية.

وفي جو من الحماسة والتصفيق الذي ما كاد يتوقف للحظات أعلن ترامب عن صفقة القرن وتحدث باستفاضة عن الكيان الصهيوني وحقه في العيش في أرضه التاريخية بأمان وتطرق إلى إلى الشعب الفلسطيني وضرورة أن يحقق العدل له، الأمر الذي يثير السخرية كما وأثنى على فريق العمل الذي ضم كل من صهره "كوشنير" و"ديريم بلاك" و"فريدمان" الذي عمل حسب زعمه على وضع بنود وصياغة صفقة القرن على مدار أكثر من ثلاث سنوات من العمل الدؤوب لتشكّل حلًا للصراع الفلسطيني – الصهيوني.

إلا أن الحقيقة التي لا تكاد تخفى على أحد أن هذه الخطة أو الصفقة تم وضعها وإعدادها وصياغة بنودها منذ أكثر من 52 عامًا مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة في التفاصيل وتغيير أو استبدال بعض المسميات حيث أن ما تناولته صفقة القرن يعود بالأساس إلى المشروع الذي أعده الوزير الصهيوني "إيغال ألون" والذي عرف باسمه مشروع ألون.

إيغال ألون صهيوني ولد في فلسطين وشغل منصب نائب قوات "البلماخ" عام 1943 ومن ثم تولى قيادتها ولعب دورًا عسكريًا مهمًا في حرب عام 1948م وانضم بعد ذلك إلى حزب اتحاد العمل واُنتخب في الكنيست الصهيوني في عام 1954م ثم أصبح وزيرًا للعمل ثم نائب رئيس الوزراء ووزيرًا لاستيعاب المهاجرين الصهاينة القادمين إلى فلسطين كما شغل منصب وزير التعليم والثقافة ثم نائبًا لرئيس الوزراء ووزير الخارجية حتى قيام حكومة الليكود في ربيع عام 1977م.

أعد ألون مشروعه في تموز عام 1967م أي بعد مرور شهر على نكبة حزيران ولكنه قام بتعديل طفيف عليها عام 1976م واُشتهر باسمه هذا المشروع الذي يهدف إلى تحقيق تسوية زائفة تقوم على أساس جعل نهر الأردن حدًا أساسيا وسياسيًا للحدود الشرقية للكيان الصهيوني على أن تكون الأراضي المتبقية بعد تنفيذ مشروعه على الأرض التي اُحتلت عام 1967م خاضعة للوجهة الإدارية بحكم ذاتي عربي أو لكيان فلسطيني هزيل يخضع عمليًا لسيطرة الكيان الصهيوني.

فقد انطوى هذا المشروع على ضم ما يتراوح ما بين (35%-40%) من الأراضي المحتلة عام 1967م إلى الكيان الصهيوني على أن يتم هذا الضم من خلال الدمج ما بين ضم أكبر قدر من الأراضي بأقل عدد من السكان والمحافظة في ذات الوقت على إبقاء الدولة اليهودية من الناحية الديموغرافية وذلك من خلال خلق وجود مدني وعسكري صهيوني عبر نقاط وتجمعات استيطانية واعتبار هذا الوجود تصحيحًا للحدود.
حيث أن هذا الوجود برأيه لا يشكل عقبة أو مشكلة أمام الفلسطينيين وأنه يجب على الكيان الصهيوني أن يضم منطقة الأغوار بشريط يتراوح عرضه (10كم-15كم) على امتداد غور الأردن بحيث يمتد من بيسان حتى شمال البحر الميت ليشكل تواصل جغرافي بين بيسان وصحراء النقب وتشمل فيما ذلك السفوح الشرقية ما يُسميه " صحراء يهوذا" وشريط عرضه عدة كيلومترات من شمال طريق المواصلات بين القدس والبحر الميت ليتصل مع المنطقة الواقعة شمال طريق عكارون وبيت حورون- النترون بما في ذلك منطقة اللترون ويجب أن تكون في هذه المناطق مستوطنات ريفية ومدينة وقواعد عسكرية دائمة وذلك بأسرع وقت ممكن مع ضرورة السيطرة الكاملة على القطاع الشرقي في التجمع الغربي المتمركز على قمم جبال الخليل والقدس ونابلس "السفوح الغربية" أي* القطاع الجاف الواقع بين نهر الأردن في الشرق والسلسلة الشرقية لجبال ما أسماه "يهودا والسامرة" في الغرب وبين جبال فقوعة في الشمال المطلة على غور بيسان، بالإضافة إلى إقامة ضواحي سكنية يهودية شرقي القدس وتوسيع هيكل المدينة مع تجنب ضم السكان الفلسطينيين من الكيان الصهيوني قدر الإمكان، وأن تظل القدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني سيرفض ألون رفضًا قاطعًا تقديم القدس كونها عاصمة ومركزًا للشعب اليهودي.

وأما بخصوص اللاجئين الفلسطينيين فقد طرح ألون بأن يتم حل مشكلة اللاجئين على أساس تعاون إقليمي يتمتع بمساعدة دولية دون السماح لأي لاجئ فلسطيني بالعودة، كم طرح ألون إقامة حكم ذاتي للفلسطيني في الضفة الغربية بالمناطق التي لم يضمها الكيان الصهيوني على أن تكون هذه المناطق التي يقوم عليها الحكم الذاتي الفلسطيني مجردة كليًا أو جزئيًا من السلاح وتحت إشراف عربي – إسرائيلي مشترك إضافة إلى ضمان عنصر دولي إن أمكن، كما أن ألون رأى حاجة إلى وجود مشروع للتسوية يطرحه الكيان الصهيوني أساسًا للمفاوضات في اتفاق شامل أو جزئي ويتحمل الجانب العربي المسؤولية في حالة رفضه أو فشل المفاوضات.

فإذا أمعنا النظر بما حمله مشروع ألون وما حملته صفقة القرن لا نكاد نرى سوى بعض التعديلات الطفيفة واختلاف في المسميات التي لا تؤثر فعليًا على جوهر المشروع الذي أعده ألون.. فاستبدال إقامة دولة فلسطين بدلًا من إقامة حكم ذاتي فلسطيني لم يغير من جوهر المشروع ما دامت هذه الدولة العتيدة فاقدة للسيادة والقدس الشرقية ليست عاصمة لها ولا حدود جغرافية تربطها مع العالم الخارجي، ووجودها الأساسي يكمن في إدارة شؤون السكان الفلسطينيين فهي ال تختلف كثيرًا عن الحكم الذاتي ويبقى أمر قيامها مرهون بمجموعة من الشروط التعجيزية، المطلوب من الجانب الفلسطيني الموافقة عليها وتنفيذها وأخذ شهادة حسن سير وسلوك من الكيان الصهيوني ومن ثم يجري التفاوض على ما قد يمكن أن يمنحه الكيان الصهيوني من الأرض للفلسطينيين وقبولهم به ليكون لهم بعد ذلك دولة.

فصفقة القرن ليست سوى عملية اشتراط صهيونية لمشروع آلون قام بها كل من كوشنير وجنين بلاك* وفريدمان وهم من غلاف الصهاينة.. فمشروع آلون سابقًا أو صفقة القرن حاليًا هو ذات المشروع الذي بالرغم من أن الحكومات الصهيونية المتعاقبة لم تتبناه، لكنها عملت على تنفيذها على أرض الواقع فبعد مرور 51 عامًا ونيف على وضع مشروع آلون يمكن القول أنه تم تنفيذه بالكامل حتى أصبح واقعًا ملموسًا نشاهده فوق السفوح الجبلية والتلال من شمال الضفة الغربية حتى جنوبها وعن اعتداد منطقة الأغوار التي تشكل ما مساحته 1600كم2 أي 28.8% من مساحة الضفة الغربية.

إن ما يسمى بصفقة القرن جاءت لتشرعن الاحتلال وما فرضه على الوضع الواقع من وجود استيطاني وتهويد للقدس واقتلاع الفلسطيني من أرضه بكل وسائل إرهاب الدولة المنظم من قتل وتهجير وتدمير.. بعد أن تم استكمال المخطط الصهيوني على الأرض من ناحية ومن ناحية أخرى نضوج الظروف الموضوعية على المستوى الدولي والإقليمي والعربي والفلسطيني خاصة.

في أمريكا يراهن ترامب على إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية على قوة اللوبي الصهيوني والمسيحية – الصهيونية أو ما بعرف بالمسيحية الإنجيلية التي تعتبر أكبر طائفة مسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي لها تأثير كبير على السيادة الأمريكية بسبب قوتها الانتخابية التي تبلغ ما نسبته 26% من نسبة الناخبين في أمريكا، فالمسيحية الإنجيلية في أمريكا تعد من أهم الداعمين للمشروع الاستيطاني الصهيوني في الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة وتقف في معارضة إنهاء الاحتلال الصهيونية وتسعى جاهدة إلى تأبيده من منطلق قانون الوحدة والصراع بينهما وبين اليمين الصهيوني الاستيطاني فالإنجيليين لها تأثير كبير على العلاقة الصهيونية الأمريكية وترفع عاليًا صوت اليمين الاستيطاني ليسمع مدويًا في أروقة البيت الأبيض وقوتها تعود بالأساس للقوة المالية والتنظيمية ومنها تستمد تأثيرها القوي على صناع القرار في البيت الأبيض عبر ممارسة ضغوطات جبارة على القادة السياسيين في أمريكا، فالإنجيليين يرفضون فكرة تقسيم القدس وعدم وجود سيطرة كاملة مباشرة على الحرم القدسي "جبل الهيكل" فهم يعلمون من منطلقات أيدولوجية دينية وليس حبًا لليهود أو للصهيونية وإنما قد يجاهر البعض منهم بكرههم لليهود ولكن كل ما يقومون به بهدف يهدف بالأساس لتحقيق نبوءتهم الدينية في سعيهم لتجويع اليهود في فلسطين كشرط لعودة يسوع المسيح.

وأما دوليًا فإننا نرى الهيمنة الأمريكية على المؤسسات الدولية والدول الأوروبية والسعي الحثيث إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي والذي بدأ فعليًا بخروج بريطانيا منها وذلك بدعم أمريكي، إضافة إلى الحرب التجارية على الصين ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا وفرضها للعقوبات الاقتصادية على الدول الرافضة لسياستها كإيران وفنزويلا وروسيا وغيرها من الدول ودعمها السياسي والمالي لوصول اليمين إلى سدة الحكم في دول أمريكا اللاتينية كما حدث في البرازيل وبوليفيا.

وأما على المستوى الإقليمي فإننا نشهد نزاعًا متناميًا بين إيران والكيان الصهيوني وإيران وبعض دول الخليج من ناحية أخرى ونجاهة السعودية التي تسعى إلى لعب دور إقليمي وترى في إيران عقبة تقف أمامها وتشكل خطرًا عليها وكذلك نزاعها مع تركيا التي ترى فيها عقبة امامها في أن تلعب دورًا إقليميًا وخاصة أن تركيا تلعب دورًا كبيرًا على المستوى العربي من خلال دعمها للإخوان المسلمين وتحالفها مع قطر في هذا الجانب أو من خلال الدور التي تقوم فيه في سوريا وليبيا في الوقت الذي كانت فيه السعودية غارقة في وحل الحرب في اليمن، فبعد مرور قرابة 5 سنوات على الحرب التي تشنها على اليمن لم تحقق السعودية أي هدف بل إنها على العكس من ذلك فلقد أُنهكت ماديًا ومعنويًا وأصبحت عرضة للهجمات اليمنية على أرضها ولا تجد مخرجًا من هذا المأزق يحفظ لها ماء الوجه مما زاد من حدة التوتر بينها وبين إيران التي تتهمها بدعم الحوثيين باليمن بالسلاح والمال، بالإضافة إلى اتهامها بقصف منشئآت آرامكو النفطية.

أما الكيان الصهيوني الذي يعد فعليًا اللاعب الإقليمي الأقوى فقد استغل هذه النزاعات لصالحه وعمل على إذكاء النزاعات القائمة في المنطقة وعلى مدى عقدين ونصف استخدم كل ثقله على مستوى وسائل الإعلامية العالمية والعربية سواء وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو المكتوبة وعمل على توجيهها لتضليل الرأي العام في الشارع العربي عامة والخليجي خاصة من أجل حرف البوصلة عن كون الكيان الصهيوني العدو الأول للعرب وتحويل البولة نحو إيران وجعلها العدو الأول للعرب وأنها تشكل الخطر الحقيقي عليهم وعلى العدو الصهيوني وبما أن هذا الخطر مشترك على العرب والكيان الصهيوني فمن الضروري خلق حالة من التحالف لدرء هذا الخطر بحيث يشكل الكيان الصهيوني الأساس وحجر الزاوية للتخلص من هذا الخطر للأنظمة العربية عامة والخليجية خاصة.. ويذكر بأن هذا المخطط باستخدام وسائل الإعلام لتضليل الرأي العام العربي وجعل إيران العدو الأول للعرب قد تم وضعه موضع التنفيذ في عام 1996م وهذا ما كشف عنه الجنرال عاموس جلعاد في لقاء صحفي أجرته معه صحيفة يديعوت أحرنوت الصهيونية، ويذكر أن عاموس جلعاد قام بعدة مهما في مؤسسات الكيان الصهيوني العسكرية والسياسية، حيث عمل مسؤولًا لجهاز "آمان"  استخبارات الجيش ومنسقًا لعمل الحكومة الصهيونية في المناطق المحتلة ومستشار الأمن القومي الصهيوني ومبعوثًا خاصًا لرئيس الوزراء الصهيوني وقد التقى سرًا وعلانية بملوك ورؤساء وقادة ومسؤولين عرب، وحسب قول جلعاد فإن المخطط الصهيوني قد نجح في تحقيق أهدافه.

وأما على المستوى العربي ومنذ أن انطلقت الانتفاضات في الوطن العربي عام 2011م وما أطلق عليها باسم الثورات العربية أو "الربيع العربي" وما أدت إليه هذه الانتفاضات من تفكك في المنظومة العربية وفي بعض الدول العربية وخاصة بعد أن تحولت هذه الانتفاضات الشعبية المحقة في مطالبها العادلة إلى أداة لتدمير الدول نتيجة قيام بعض الدول النفطية الخليجية بإغراق مئات أو ربما بألوف المليارات لصنع ثورة مضادة أنهكت هذه الدول وخلقت حالة من الانكفاء الذاتي بحيث أصبح هم الوطن العربي البحث عن لقمة عيشه والإصلاح القطبي ولم نعد نرى الدعم والمساندة الشعبية العربية للقضية الفلسطينية التي اعتدنا على رؤيته على مدى عقودٍ من الزمن وأما على صعيد الأنظمة العربية التي تعيش حالة من التشرذم والنزاعات فيما بينها والتي أصبح شغلها الشاغل الحفاظ على وجودها إلى أن بلغ بها الأمر بأن تبدي بشكل واضح وصريح وجلي رغبتها في التطبيع مع الكيان الصهيوني والتنازل عن الحقوق الدنيا للفلسطينيين في سبيل المحافظة على استمراريتها في سلطة الحكم، فقد عملت بعض هذه الأنظمة على تشديد الخناق على الفلسطينيين من ناحيتي الدعم السياسي والمالي من أجل الضغط عليهم للقبول بصفقة القرن وخاصة من بعض الدول الخليجية والعربية الإفريقية وقد لوحظ بالآونة الأخيرة الدور التي تلعبه دولة عُمان التي استقبلت رئيس الوزراء الصهيوني بصورة علنية ودولة البحرين التي استضافت المعروف ب"ورشة المنامة" وهي الجانب الاقتصادي من صفقة القرن ودولة الإمارات التي تلعب دورًا هدامًا في الخفاء والعلن لضرب القضية الفلسطينية وفي سبيل تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني وقيامها بحث بعض الدول العربية على إقامة علاقات طبيعية والتطبيع مع الكيان الصهيوني والتي كان آخرها ترتيب اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الصهيوني "بنيامين نتنياهو" والمجلس السيادي السوداني "عبد الفتاح البرهان".

وأما على المستوى الفلسطيني وهو الأهم والذي يعاني من الانقسام الذي قام الكيان الصهيوني بتكريسه من خلال السياسة التي يتبعها في غزة والضفة الأمر الذي خلق حالة من المصالح المتضاربة بين طرفي الانقسام حيث أضحى من الصعب إعادة الوحدة الوطنية وتحقيق المصالحة في ظل تضارب المصالح إضافة إلى الفشل الذريع للنهج السياسي للثلة المهيمنة والمسيطرة والمتفردة بالقرار السياسي في منظمة التحرير الفلسطينية فكل هذه العوامل مجتمعة أنضجت الظروف الموضوعية للإعلان عن ما يسمى بصفقة القرن والتي تهدف بالأساس إلى تصفية القضية الفلسطينية.

فما بين الجذور التاريخية والظروف الموضوعية تحاول الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب وربيبتها الكيان الصهيوني وبغطاء وتآمر من الرجعية العربية تمرير صفقة القرن ولكن برغم كل الظروف يبقى الرهان الأول والأخير على الشعب الفلسطيني وفصائل العمل الوطني والفلسطيني الحية الرافضة للصفقة، فعندما يقول الشعب الفلسطيني كلمة لا فإن هذه الكلمة تمثل صلب الإرادة التي تتحطم أمامها كل مشاريع التصفية للقضية الفلسطينية حتى لو اجتمع العالم بأسره لن يحطم إرادة الشعب الفلسطيني العظيم.

بقلم الأسير: محمود أبو وهدان

سجن نفحة