هلال جرادات وما بعد 27 عاماً من الاعتقال..

أسير محرر يستعرض مرارة الإبعاد عبر "فيلم" على نفقته الخاصة

thumb
المصدر / مركز حنظلة للأسرى والمحررين - أسامة الكحلوت

بداية الحكاية

دفع إعدام شقيقين في العاشرة من عمرهم بشكل متعمد على يد متطرفين وجنود "إسرائيليين" عام 1980 ، بتحرك شقيقهم الأكبر هلال محمد جرادات آنذاك للانتقام والثأر لدماء شقيقيه بقتل ثلاثة من جنود الاحتلال في جنين طعنا بسكين على فترات متفاوتة، وألقي القبض عليه في المرة الثالثة بعد قتله لجندي آخر ، بمحاصرته  قرب سجن مجدو.

وقد قتل شقيقه الأول دهسا بسيارة مستوطن في  شارع عام وسط جنين ، وقتل الثاني بعدما قام مستوطن "اسرائيلى" بإغراقه داخل البحر أمام أعين والده ، وبحسب تحليل المعمل الجنائي الذي اقر بقتله خنقا داخل البحر ، بعدما توجه للتنزه على بحر نتانيا برفقة والده ، حيث كان شائعا في تلك الأيام قتل اليهود لاى مواطن يتحدث اللغة العربية هناك.

جرادات في نهاية العقد الرابع من عمره حمل تاريخ طويل في القضية الفلسطينية ونضاله ضد الاحتلال، بدأ بنشاطه داخل صفوف حركة فتح بتخطيط شعارات معادية للاحتلال، ووقوفه لمخططات صهيونية بتسميم مدارس بنات جنين على أيد العملاء لإحداث عقم دائم لديهن.

اعتُقل هلال جرادات، بعد قتله الجنود، ثم تقرّر إبعاده لقطاع غزة بعد الإفراج عنه ضمن صفقة وفاء الأحرار قبل عامين، ليجسد حياته طوال الفترة الماضية بفيلم وثائقي صوره على نفقته الخاصة ، يشرح فيه سنوات الاعتقال والإبعاد عن الأسرة موجها رسالته للمشاهد الغربي .

وكانت عملية القتل الأولى استهدفت يهودي فرنسي بتل أبيب قتله بمطرقة تلاها بمستوطن أخر بعد أيام ، ليختتم جولته النضالية في الثمانينات بقتل جندي "اسرائيلى" على بوابة سجن مجدو بمطرقة واختطاف سلاح ومغادرة المكان.

عن الاعتقال

بعدما انسحب جرادات من مكان العملية الأخيرة، سرعان ما حاصر جيش الاحتلال المنطقة وألقى القبض عليه، ليدخل عالم جديد استقر فيه 27 عاماً، وهو عالم المعتقلات "الإسرائيلية".

تعرض الأسير المحرر، لعملية تعذيب خلال دخوله السجن، واعترف بقتله الجندي "الإسرائيلى" واختطاف سلاحه فقط، وبعد نقله لسجون الخليل تفاخر أمام المساجين بقتله جنديين أيضا قبله ولم يعترف عليهم خلال التحقيق، ليكتشف أن المساجين هم  عصافير " عملاء " ليتم إعادة اعتقاله والتحقيق معه وتمثيل المشاهد في الأماكن التي قتل فيها الجنود والمستوطنين ، وحكم عليه  بالسجن "99 عاما".

وبدأ جرادات حياة جديدة داخل السجن، بدت بعزل انفرادي لمدة 3 أشهر ، كانت من أسوأ الأيام حيث تم عزله عن الحياة  بمكان منعزل لا يعرف فيه الأيام ولا التواريخ ولا الأوقات وجعلته دائم الانتظار لاى صوت يقترب من وحدته لعله يكون أملاً له.

وجع الذكرى

ويستذكر جرادات بعض تفاصيل الأيام السيئة التي قضاها داخل سجون الاحتلال قائلا " مارس الاحتلال ضدي حرب نفسية بعدما ابلغني بهدم بيتي وبيت والدي وإخوتي وأبناء عمومتي وبالفعل شعرت بالضيق ، ولكن بالحقيقة هم هدموا بيتي فقط لحظة اعتقالي ، وصادروا ملابسي التي كانت تحمل أثار دماء الجندي القتيل ، وبقيت عاريا بدون ملابس لعدة أيام لحين وصول ملابس من أهلى عن طريق الصليب الأحمر".

وأشار جرادات خلال حديثه، إلى مدى الألم الذي يشعر بها حتى الآن بمجرد استذكار ما عاشه من تعذيب، لافتاً إلى أن كل ما يُعبّر عنه ويصفه من أساليب و أوجاع التعذيب والشبح ليس إلا قدراً بسيطاً من ما اختبره وشعر به.

وأضاف لـ"بوابة الهدف": إن الاحتلال يُمارس أسوأ أنواع العذاب ضد الأسرى بعد دراسات نفسية ومخططات ممنهجة، لهدم شخصيتهم وقتل نفسيتهم.

وخلال تواجد جرادات داخل السجن التقى بالدكتور أنور أبو الرب، حيث نصحه الأخير أن رحلته طويلة داخل السجن وحتما سيخرج بصفقة، وعليه أن يضع نمطاً جديداً لحياته ويبدأ بالدراسة والتثقيف، لأن المعركة مع العدو الصهيوني ليست معركة إطلاق نار ورصاص فقط، بل هي معركة وتحدٍ بالعلم والثقافة أيضاً، وكافة الأبواب مفتوحة.

الثقافة سلاح

وبالفعل بدأ جرادات بتطبيق نصيحة الدكتور بالقراءة كل صباح، وحفظ 7 أجزاء من القران الكريم، واهتمّ بقراءة التاريخ وتحليل الكتب التي توثق القضايا الفلسطينية والصراع مع المحتل، و قال إنّه قرأ خلال فترة أسره ما يقارب 5000 كتاباً.

 جرادات أتقن 16 لغة، محادثة وقراءة، من خلال الفلسطينيين العائدين للضفة الذين يتم اعتقالهم على المعابر بتهمة نشاطهم في الدول الغربية التي كانوا يدرسون بها. وعدّد لنا بعضاً منها، فهو أتقن الإنجليزي والعبري والفرنسي والروسي واللاتيني والاسباني واليوغسلافي والصربي والايطالي والألماني والآرامي والسيريالي، مشيراً إلى اندثار بعض اللغات التي تعلّمها، في الوقت الحاضر، وكان الهدف من تعلّمها حسب قوله فضح "إسرائيل" بكل لغات العالم.

حريّة.. ولكن !

في إحدى الليالي، وقبل أسبوعين من الإفراج عنه ضمن صفقة وفاء الأحرار، وبينما كان هلال نائماً منتصف الليل، جاءته رؤيا، على لسان "شيخ" أطلعه على نبأ الإفراج عنه ضمن صفقة تبادل، ليتحقّق ما رآه جرادات في المنام بعد أسبوعين.

بعد إرجاع الراديو من قبل إدارة السجون، تحقّقت الرؤيا، و بدأ الرجل داخل المذياع يتلو أسماء المُفرج عنهم، لتأتيه الصدمة، فقد كان اسمه ضمن قائمة المُبعدين إلى غزة، وسينال حريّته ، بعيداً عن أهله، وعن جنين.

هي حريّة، ولكن دون أهل، يلوّحون لكَ عند اقتراب الحافلة التي تُقلّك عائداً من الأسر، ولا حضناً يضمّكَ، ولا اشتياقاً عطِشاً يرتوي بوجوهٍ طال انتظار رؤياها، حتى حلمه بالحرية، الذي عاشه 27 عاماً، ها هو اليوم يُلملمه بعدما هشّمه الإبعاد.

عن الفيلم

وعن تفاصيل الفيلم الذي أنتجه، قال جردات لـ"بوابة الهدف": من خلال حديثي مع الناس، لامست قلّة معرفتهم بتجربة السجون، وتفاصيل حياة الأسرى، حتى أنّهم يعتقدون أن المُبعد يعيش رفاهية كاملة، أن لا حقاً ينقصه، فيتم تعويضه بسكن وسيارة وراتب وغيره، ولكن في الحقيقة، عنّي أنا شخصياً، لم أستلم أي استحقاق سوى منحة الرئيس محمود عباس.

ويُتابع "لهذا فكّرت أولاً بما أريد أن أوثّقه في الفيلم، ثم بدأت العمل به، لأرسّخ لدى المواطنين أن المبعد هو منزوع عن أهله، مفصولٌ عن أرضه، وهو إنّما يُكمل تعذيب الاعتقال في الإبعاد.... حتى الأناس الجدد الذين يتعرّف إليهم، ويقابلوه دوماً بالمجاملات مثل عبارة "كلنا أهل"، فهل يُعوّضونه بالفعل عن الأهل، هم الأخوة والوالديْن، والأبناء والأصدقاء والجيران وغيرهم؟! ناهيكَ عن تجاهل المسئولين الذين لا يعرفوننا سوى لحظة خروجنا من الاعتقال واستقبالنا.. ولو وافتنا المنيّة لن يذكرنا أحد!"

المشهد الأول في الفيلم الوثائقي كان لمجموعة من الشبان، أحدهم بملامح قريبة جداً من هيئة الأسير جرادات، يجلسون في منطقة جحر الديك وسط قطاع غزة، ليُعتقل بعدها، ومن ثمّ تتوالى مشاهد تُعبّر عن غربة الأسير المُبعد، بتأمل البحر والسير في شارع الرمال بمدينة غزة، وبعدها مشاهد للأسير وهو يسترجع ذكرياته بتأمل صوّر قديمة له، مع أسرته، ويستكمل الفيلم بمشاهد أخرى توضّح مدى عزلة الأسير المبعد، ومن ثمّ محاضرة في أحد الجامعات حول مفردات الإعلام "الإسرائيلي" عن الأسرى وأهمية التعليم في مواجهة الاحتلال، ليُختتم الفيلم بمشهد لأسرة الأسير التي كوّنها خلال إبعاده لغزة بعيداً عن أهله، وتكرار لمشاهد في منطقة جحر الدّيك، للدلالة على أن الإبعاد هو غربة أخرى وسجن آخر للأسير.

ويقول جرادات، عن أحد المواقف التي واجهها خلال تصوير الفيلم، إنه بكى عند تصوير مشاهد داخل سجن السرايا، حيث تذكّر الأسرى الذين تركهم خلفه في السجون بعد تحرّره ، وهو مشهد أبكاه.

مخرج الفيلم، محمد الزطمة، قال في حديثه لـ"بوابة الهدف": إن الفيلم يركز على قضية الإبعاد أكثر من قضية الأسر، فهذا الأخير هو جريمة مركّبة.

أمّا كاتب السيناريو، محمد الوحيدي، فقال لـ"بوابة الهدف": جاء هذا الفيلم ليقدم رسالة واضحة بأن الحرية لا تعني بالمطلق استبدال سجن صغير بسجن أكبر، حتى لو كان داخل الوطن، ومن اسم الفيلم "هلال ترانسفير" فهو عبارة عن مصطلح مطلق الحدود لا يقر بحال من الأحوال تغيير نمط الاعتقال أو الأسر أو منح بعض الحرية و ترك بعضها الآخر مرهوناً بمزاج الاحتلال، مؤكداً أنّه محاولة واعدة لرفض سياسة الإبعاد و التهجير للشعب الفلسطيني عموماً و للأسرى المحررين خصوصاً.

صعوبات التنفيذ

حسبما أفاد طاقم إنتاج الفيلم، فإنّ أبرز الصعوبات كانت بمحاولة إعادة ترتيب الأولويات من ناحية الأهمية، وعمق الجريمة "الإسرائيلية" و أثرها، فبين سبعة و عشرين عاماً من الاعتقال، إلى مأساة أخرى لا تقل وجعاً وصعوبة، وكما قال الأسير المحرر هلال جرادات "فإنّ وجع الإبعاد قد يطغى على وجع سنين الاعتقال الطويلة"

ومن بين الصعوبات كانت الحاجة لإعادة بعض المشاهد مرات عديدة نظراً لعدم احتراف جرادات التمثيل بعد السجن طوال فترة 27 عاماً .

وأكد الأسير المحرر أن هدف الفيلم هو رسالة للعالم الغربي لفضح الاحتلال، ورسالة للجمهور الفلسطيني بأن كل ما يشاع عن حياة الأسرى "الرغيدة" غير صحيح وأن السياسيين الذين يتغنوْن بالأسرى، ليس إلا تجارة، ويطمح لتسويقه وبيعه في مهرجان "قرطاج" بتونس والقاهرة وعدة دول غربية مبدئياً، ليقوم بعدها بتصوير فيلم جديد عن أسري ومبعدين آخرين لتوثيق رحلة العذاب في حياتهم ، وأمنياته بلقاء الأهل.

وحسب جرادات فإن عدد الأسرى المبعدين لغزة وصل إلى 300 أسير.

حقوق مُهملة !

تمنى جرادات أن تبذل القيادة الفلسطينية جهدها لإنقاذ ما تبقى من حياة الأسرى المبعدين، وعنه خصوصاً بنقل مقر إقامته للأردن ليكون قريباً من أهله ويسهل زيارته باستمرار بدلاً من سفر أهله من الضفة الغربية للأردن ثم مصر ثم قطاع غزة لزيارته، بتكاليف تفوق الـ5000 آلاف دينا أردني.

ووجّه رسالة للمؤسسات التي تهتم بشؤون الأسرى، بضرورة توثيق حياة المناضلين والمُبعدين بأفلام أو بغيرها، لفضح الاحتلال الإسرائيلي، لتغيير نظرة العالم الغربي عن الفلسطينيين.

وأضاف: نتمنى تفعيل دورنا وقدراتنا وإمكانياتنا وتقديمنا لنقل صورة الأسرى الحقيقية.

وأشار الأسير المحرر إلى وجود فئة من النشطاء يتحدثون باسم الأسرى ويأخذون مواقعهم، وهم بلا تجربة اعتقال، فلا يعرفون طعمها المر أو عذابها الحقيقي.

وتمنّى من الرئيس أبو مازن الاهتمام الأكبر وبشكل جاد بطرح وتفعيل ملف الأسرى الفلسطينيين في المحافل الدولية، وخاصة في المحكمة الجنائية الدولية ليتمكنوا من مقاضاة وملاحقة "إسرائيل" على جرائم الأسر والإبعاد.