المنطقة العربية "بين الماضي القريب والراهن وآفاق المستقبل"

eBx5f
المصدر / اللجنة الثقافية لمنظمة الجبهة الشعبية/ فرع السجون

مع نهاية الحرب العالمية الثانية وفي حالة الدول الأوروبية الاستعمارية، استقلت المنطقة العربية من الاستعمار العسكري، والذي سيطر عليها طويلاً واستلم دفة الحكم في معظم هذه البلدان الجيوش العربية بشكل مباشر، أو من وراء ستار، وذلك لأنها كانت أكثر القوى تنظيمياً، وكذلك ضعف الأحزاب الوطنية والتهتك الاجتماعي والاقتصادي الذي أحدثه العبء الاستعماري الطويل.

وعلى الرغم من أن أغلبية ضباط الجيوش العربية جاءت من أوساط شعبية وبرجوازية وطنية صغيرة واتسمت بوطنيتها وانتمائها الوطني، وعلى الرغم من نواياها الصادقة في خدمة الوطن والمواطن وعدائها للإمبريالية، إلا أنها لم تكن على درجة من الوعي والإمكانيات لقيادة دفة الحكم في البلدان العربية نحو استكمال مرحلة التحرر الوطني من شرك التبعية وبناء الاقتصاد الوطني الصناعي الزراعي المنتج وتحقيق الكرامة الوطنية، هذا إلى جانب فشل هذه القوى في تعزيز الوحدة القومية، بل وعلى العكس وتحت ضغط مصالح البرجوازية المحلية تعززت ال قطر ية، فرفعت أطراف حزب البعث والأحزاب القومية شعارات قومية، واتخذت إجراءات تأمينية وتوسيع قطاع الدولة الصناعي وبعض خطوات الإصلاح الزراعي، ولكن مع الأسف دون حماية شعبية، ورغم أنها قد لاقت هذه الخطوات دعماً شعبياً ومقارعة من قوى اليسار والاشتراكية في المنطقة، مع التحفظ بعدم قناعاتها بكافة هذه الخطوات لتحقيق فك التبعية.

كانت هزيمة حزيران كافية لبدء الانفضاض من حول القوى القومية العربية وما تبعها من يسار، وتعزز التراجع بسياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهجها السادات في مصر، والذي جعلها مصدراً لنهب البرجوازية الطفيلية المحلية والشركات الخليجية والعالمية، فبيع القطاع العام المصري في سوق النخاسة، وعزز هذا التراجع بالهزائم التي لحقت بــ م.ت.ف على الساحة الأردنية واللبنانية، واتفاقيات كامب ديفيد وسقوط منظومة الدول الاشتراكية ودخول القيادة المتنفذة فلسطينياً في دهاليز اتفاقيات أوسلو التدميرية، كل ذلك قلّص مواقع القوى القومية وما تبعها من يسار وقوى التحرر الوطني، وعزز مواقع الإسلام السياسي في المنطقة والذي تحالف في الماضي مع سادات مصر وأجرى تشابكات مع الأنظمة الخليجية وتلّقى تمويلها تحت حجج ومبررات هذه الأنظمة والدفاع عنها، وتصدرت قوى الإسلام السياسي المشهد في ضوء نتائج الحراك العربي الواسع من فترة "الربيع العربي" خصوصاً في كل من مصر وتونس، إلا أنها فشلت بالاحتفاظ بالسلطة في كلا البلدين، وذلك لعدم مراعاتها بل معاداتها لاستحقاقات الثورة البرجوازية، والتي تتطلب ضرورة ترسيخ العلمانية والمواطنة ونشر الحريات الديمقراطية من صحافة وحرية تعبير ومعتقد وتشكيل أحزاب سياسية هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه القوى الإسلامية لم تستوعب بأن الإشكاليات الواسعة للأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمن القومي متراكمة منذ عشرات السنين، ولا يمكن حلها واستكمال مرحلة التحرر الوطني إلا بتحالفات وطنية واسعة، وبالبعد عن محاولات السيطرة على كافة جوانب الدولة وفرض الهيمنة على المجتمع، ومن جانب آخر فقد أثار الحراك الشعبي العربي الواسع حقيقة وقوع الإمبريالية ومخزونها الرجعي في المنطقة تحت ذعر شديد، مما جعلها تلتقي مع قوى الإسلام السياسي ودعمها على حساب القوى الديمقراطية السلمية والأكثر اعتدالاً في المنطقة، ولم تكتفِ بهذا فحسب، وإنما تدخلت بقوة في تدمير المنطقة والتنكيل في شعوبها وظهر هذا جلياً في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن، حيث أن الوهم قد أصاب قوى الإسلام السياسي وخصوصاً القوى المسماة بالجهادية والإخوان المسلمين، والذين اعتقدوا بأن السلطة في المنطقة العربية أصبحت قاب قوسين أو أدنى، فشاركت بكل قوة في الصراع، ووصلت الأمور إلى مشاركة بعض أفراد من حماس بالقتال في سوريا وإصدار القرضاوي فتوى بأن "الجهاد في سوريا" له الأولوية هذه الأيام، ويكفي هنا ما اعترفت به أمريكا وعلى لسان هيلاري كلينتون، بأنها هي من أطلقت يد داعش في المنطقة.

عوامل عدة تُرسم ... في تلك المنطقة

شهدت المنطقة العربية وتشهد هذه الأيام تحولات عميقة ستنقل المنطقة إلى ركاب الديمقراطية موضوعياً، وهذا ما يُجمع عليه الكثير من علماء السياسة والاجتماع والمفكرين والمحليين العالمين، وفي طليعتهم نعوم تشومسكي والذي يقول: بأن من لا يلاحظ التحولات في كل من تونس ومصر فإنه مصاب بالعمى السياسي، من ضمن هذه العوامل هناك انعطافه بطيئة للإمبريالية الأمريكية عن منطقة الشرق الأوسط نحو مناطق المحيط الهادي، فمن جانب يضغط الرأي العام الأمريكي بعدم التدخل عسكرياً في إشكاليات المنطقة وعودة الجنود إلى بلادهم، ومن ناحية أخرى فإن وقف تدفق النفط الأمريكي ومصالحها المتعاظمة مع الصين والهند والنمور الآسيوية واليابان، والصراع القائم بينها وبين روسيا على مناطق النفوذ تعدد القطبية في العالم، وكل هذا يدفع أمريكا لرفض إشكاليات الشرق الأوسط والتوسع نحو مصالحها الحيوية في الشرق الأقصى، وهذا سيفقد الرجعيات العربية والكيان الصهيوني حليفاً مع مرور الزمن.

ثبت بالملموس أن الدكتاتوريات والأنظمة الموجودة في المنطقة كانت من أهم أسباب تغيّبها وتخلف شعوبها ووصولها إلى مرحلة الأزمة والانفجار، وهذا يؤكد استحالة العودة إلى نفس النمط من الحكم، وذلك على أثر الدمار الهائل في بلدان المنطقة، فما بعد سوريا والعراق لن يكون كما قبلها.

لقد ثبت عجز قوى الإسلام السياسي في قيادة المرحلة، ولاقت رفضاً شعبياً بعد تجربتها القصيرة في كل من مصر وتونس، حيث لوحظت محاولات الإسلام السياسي إعادة الديكتاتورية بفرض الإسلام من جهة، ومن جهة أخرى، إنتاج الإخوان المسلمين لجماعات الجهادية الإرهابية التي عاثت فساداً وتخريباً ودماراً.

بسبب هذه العوامل وعوامل أخرى يبقى المجال مفتوحاً وبالتدريج أمام القوى الديمقراطية الواسعة سياسياً واجتماعياً لقيادة المرحلة، وذلك من خلال تحالفات وطنية وديمقراطية واسعة، تخرج المنطقة من أزماتها المتعددة الجوانب، يبرز هذا بالتحولات العميقة على الساحة التونسية التي رفضت حزب النهضة الإسلامي وتعمق فيها دور القوى الليبرالية والاتحاد التونسي للشغل وتعزز الدور في حالة قوى اليسار بقيادة الجبهة الشعبية.

لقد بدأت تونس بتعزيز خطواتها بقومية تشريعية وآخرها قضية المرأة وطريقة زواجها من الرجل حتى في عقد الزواج بغض النظر عن ديانة الزوج، وفي مصر تجري التحولات وتتسم بالبطء إلا أنها تتجه للأمام رغم استنهاض دور الدولة الرجعي العميق وخصوصاً الجيش، إلا أن كل هذا لا يصمد أمام كسر الشعب لحاجز الخوف وحاجز الصمت، حيث بدأت في عقد طريق الحداثة والتقدم وتبنيه لشعار "عيش - حرية - كرامة وطنية".. وعلى ذات المنوال، نرى التحركات الجماهيرية والسياسية والتغيّرات البرلمانية على صعيد بعض الدول العربية الأخرى.

ومن هنا على قوى اليسار والديمقراطية والاشتراكية العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً، أن ترى هذه الصورة الواسعة بإيجابية، وأن تسعى لعقد تحالفات أكبر اتساعاً وأكثر تحقيقاً للكرامة الإنسانية، إن كان ذلك على صعيد الأحزاب السياسية الديمقراطية أو ميدانياً على صعيد التجمعات الشبابية والنقابات الطلابية والعمالية والنسوية والمهنية، والتي بدأت تأخذ دورها على ساحة الفعل، وصولاً للحظة الديمقراطية الحقة.