أسير محرر يروي قصة العذاب

شمعة الأمل من وراء القضبان

حكاية أسير

ما أعظم أن يستنشق الإنسان نسيم الحرية , بعد كبت وظلام وراء قضبان السجون , فضريبة الجهاد والمقاومة تدفع بالمرء بأن يضحي بأغلى لحظات عمره فداء لوطنه وبلده .

قصة أخرى عاشها أسير فلسطيني قضى عشرين عاما من عمره بعيدا عن أهله وأحبته .. دون أن يهتز له طرف أو تنحني منه الجبين ..

فأن يضحي الإنسان بعشرين عاما من عمره من اجل دينه ووطنه وشعبه ومقدساته , ويُحرم من كل متاع الدنيا .. لأمرٌ يستحق الوقوف ويستوجب الاحترام والتمعن والتقدير ..

مخيم البريج وسط قطاع غزة .. لا يخلو هذا المخيم من قصص الأبطال والمجاهدين , فكل بيت تجد فيه رواية وحكاية , وجوانب المخيم تحمل في ذاكرتها صفحات ٍ بأسماء الشهداء الذين أبوا البقاء في مرارة العذاب .. فأنهوا حياتهم الأزلية .. ليعيشوا بعدها حياة ً أبدية ..

الأسير المحرر " محمد نهاد الحشاش " لاجئ فلسطيني من مدينة يافا المحتلة , ويبلغ من العمر سبع وأربعين حولا ً, اتهم بالقتل المتعمد لجندي إسرائيلي في منطقة البريج وحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاما , قضاها جميعا بعيدا عن أهله وأحبته وأصحابه ..

كيف كانت البداية ؟

يقول " الحشاش " : اعتقلتُ بشكل مفاجئ وبدون سابق إنذار , وكان شعوري صعبا للغاية لقسوة الطريقة التي اعتقلت بها , وعندما نقلتُ للسجن أخذوني لمكان يسمى " المسلخ " فهناك يرى الأسرى اشد الويلات وأعتى آلات التعذيب ..

عندما صدر الحكم ضدي .. وعلمت ُبأني سأقضي عشرين سنة ً من عمري خلف القضبان , شعرت بأني أحمل كاهل الوطن على ظهري .. فانا لست أفضل ممن وهبوا حياتهم كلها فداء ً للوطن , فدعوت ُ الله أن يلهمني وأهلي الصبر .. على ما كتبه لنا القدر ..

الحياة داخل السجون

بعد أن ختم " الحشاش " حديثه عن حادثة مضى على وقوعها أكثر من عشرين عاما ً تطرق ليتحدث عن البيت الجديد الذي انتقل إليه , فوصف حياة السجن قائلا ً: يعاني الأسرى معاناة صعبه داخل السجن لما يلاقوه من مضايقات واعتداءات جسدية ونفسية من إدارة السجن , فتارة يمنعون الزيارة وأخرى يضيقونها لأبعد الحدود , فلا يسمحوا إلا للأم بالزيارة ونادرا ما يزيد عليها , ومدة الزيارة لا تتجاوز الثلاثين دقيقة ..

ووصف " الحشاش " العزل الانفرادي بأنه أسوأ ما يكون على الأسير , فهو يقضي داخل الزنزانة ثلاث وعشرين سـاعــة لا يتحدث أو يتحدث معه أحد إلا ذاكرتـــه التي تستعيد أيام ٌمضت من حياتـــه .. ويضيف " الحشاش " قائلا ً: كنا نتعرض لاعتداءات متواصلة ومخطط لها لإرباك تماسك أوصال الأسرى , أو لإفشال مخطط للأسرى في الإضراب عن الطعام أو الاحتجاج على قضية معينه ..

ترغيب ٌوترهيب

يقول " الحشاش " : تمارس قوات الاحتلال كل ما بوسعها لتثني من عزيمتنا ولتقضي على إرادتنا , فتحاول ترغيبنا للعمل معها بوسائل عدة إما بالإفراج أو المال أو العلاج للأسير أو أحد الأقارب , وإذا لم يستجب لمطـالبهم تجدهم يهددونه بحياتــه وحيـاة أسرتــه , ولكنهم لا يعلموا أنهم اصطدموا بأقسى صـخـور الأرض " القلب الفلسطيني " ..

أجسادهم في السجن .. وقلوبهم مع المقاومة

يروي " الحشاش " قائلا ً : بالرغم من العذاب والحرمان الذي نعيشه داخل السجن .. إلا أننا لم ولن ننسى هدفنا في حياتنا .. وهو المقاومة .. طالما بقي هذا الاحتلال الغاشم جاثما فوق تراب أرضنا , فالأسرى يتشوقون لسماع خبر ضربة للمقاومة , وخاصة عندما يكون في العملية خطفا ً لجنود إسرائيليين , فعندما خطفت المقاومة في غزة الجندي الإسرائيلي " جلعاد شاليط " عاد الأمل لعيون الأسرى ليثبتوا على ما هم فيه من ألم , وأيضا كان الأسرى يتفاعلون مع عمليات الخطف التي يقوم بها حزب الله اللبناني , فالمقاومة هي الخيار الوحيد لفك أسرهم وإنهاء عذابهم ..

الأسرى .. في حرب غزة

يقول " الحشاش " : كل يوم كان يمضي خلال حرب غزة , كان بمثابة عام على الأسرى , وكنا متسمرين أمام شاشة التلفاز نتابع أخبار القصف والدمار , وكنت أنتظر في أي لحظة خبر استشهاد أحد أقاربي أو أصدقائي , وكنا نواسي بعضنا البعض عندما يصلنا خبر استشهاد قريب لسجين ونقف معه ليتحمل شدائده , ولم نبخل أبدا بالدعاء والابتهال إلى الله في صلاتنا بأن يحمي غزة وأهلها من هذه الحرب الضروس , فالدعاء هو سلاحنا الوحيد ولا نملك غيره ..

استقبال ٌ لأحبة .. وفراقٌ لأحبة

نعم .. إنها لحظة الخروج من السجن , يصف " الحشاش " ومعالم الفرحة ظاهرة على وجهه ويقول مبتسما ً: عندما حلت لحظة الخروج من السجن دمعت عيناي لفرحتين !! الأولى .. لأني أنهيت مدة جهادي في السجن لأكملها خارجه تحت ظلال سماء وطني , والفرحة الثانية .. لأني سأستقبل أهلي وأخوتي وأصحابي , ونلت التهاني من أحبتي الذين عاشرتهم لعشرين عاما ً داخل أسوار وحوائط السجن , ودعوت الله أن يمنحهم عبق الحرية ونسيمها ..

وعندما وصلتُ لغزة هاشم .. استنشقت نفسا ًعميقا ً لعله يبدل الهواء الداكن في صدري من سجن الاحتلال وويلاته , ووجدتُ أهلي وأحبتي في استقبالي بالورود والزغاريد والأحضان والقبلات .. فحقا ً إنها الحرية ..

أمنية أسير

سألتُ " الحشاش " بعد أن انتثرت ملامح البهجة والسرور في وجهه .. عن أمنيته .. فصمت قليلا ً.. فظننت أنه يفكر في أشياء ٍ مادية .. أو أخذه خياله ُ لأحلام ٍ وردية .. تنسيه الألم الذي لازمه طوال السنين العجاف , ولكني أسأت الظن فيه .. ورد قائلا ً: أمنيتي الوحيدة أن يرى جميع الأسـرى الفلسطينيين النور ويعودوا لأحضان أهلهم وشعبهم وأن يزول هذا الاحتلال عن أرضنا , وينتزع شـعـبـنـا الـفـلـسـطـيـنـي حقه في الحياة .. ويعيش كبقية شعوب العالم في طمأنينة وسلام ..