الحب بين جدران الأسر

الحب في الزمن الموازي بقلم الأسير كميل أو حنيش

المصدر / ​خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

 

سيتذكر البعض عند مطالعته العنوان بعض الروايات التي تحدثت عن الحب في إطار الزمن من "الحب في زمن الكوليرا" لغارسيا ماركيز إلى " العشق والموت في الزمن الحراشي" للطاهر وطّار، أما " الحب في الزمن الموازي" فهي كناية عن " الحب بين جدران الأسر" خاصة في السجون الإسرائيلية. و" الزمن الموازي" هو عنوان مسرحية للأسير الفلسطيني وليد دقة الذي أمضى حتى الآن 32 عاماً في الأسر. ومغزى الزمن الموازي لدى وليد هو ذلك الزمن المختلف عن الزمن العادي الذي يعيشه البشر في حياتهم الطبيعية بحيث يصبح الزمن في الأسر موازياً للزمن البشري في الحياة العادية ولا يتقاطع معه إلا في أمور نادرة تخترق القواعد والإجراءات الصارمة التي يفرضها السجن على السجين، ويصبح هذا السجين معزولاً تماماً عن الزمن الطبيعي، ويغدو خاضعاً لشروط زمن من نوع آخر.

في المحصلة يفقد الأسير احساسه بالزمن وتغدو ساعاته الزمنية تقاس بالأحداث ولا تسير مع عقارب الساعة الاعتيادية، وفي هذا الزمن يشعر الأسير بالاغتراب إزاء الزمن الحقيقي الذي يواصل سيره، بينما زمن الأسر يبقى ثابتاً دون أن يشعر به الأسير إلا من بعض الأحداث التي يطل من خلالها على الزمن الحقيقي إما عبر الزيارة أو عبر وسائل الإعلام وحينها فقط يتلامس الزمنين بصورة مؤقتة وهو ما يُولّد في كثير من الأحيان مشاعر الألم والاغتراب لدى الأسير الذي يعيش الاغتراب فترات طويلة في الأسر.

أما الحب فلن نسعى لتعريفه فلا يكاد الجميع إلا خبره وعرف معناه ووقعه في النفس الإنسانية. وفي حالة الحب وهو يلتقي مع الزمن الموازي فإنه يصبح الحدث الهام الذي يتداخل فيه الزمنين : زمن الأسر والزمن الطبيعي وبهذا التداخل وبهذه العلاقة الجدلية بين الزمنين يكتسي الحب معناً أكثر إثارة ورونقاً وفانتازيا ويأخذ بعداً أكثر تجريداً، ويفقد صبغته الحسية المباشرة، وبهذا المعنى يصبح الحب عابراً للزمن في أرقى أشكال عبوره وتجليه في النفس الإنسانية.

 ومن عايش تجربة الأسر الطويلة سيكون شاهداً على أغرب وأجمل حكايات الحب لنبلها ونقائها وجنونها، كما سيذكر هذا العالم نهايات الحب المفجعة لتأخذ بعداً مأساوياً، وسيشهد كذلك على معجزة في صمود الحب وتحديه المستحيل وولادة علاقات دافئة ونبيلة وجميلة أقرب إلى الأسطورة في تفاصيلها.

 وفي كل الأحوال فإن عظمة هذا الحب وروعته تشهد على عظمة المرأة العاشقة في هذه الحالة، لأن المرأة هي من تضحي وتصمد وتقاوم أكثر من الرجل.

 شهدت عشرات حكايات الحب في عالم الأسر، فمنها ما كان مبتذلاً، ومنها ما كان يمكن وصفه بالعادي، ومنها ما يلامس الحب المستحيل.

في هذا الحب المستحيل سنجد العلاقات أكثر غرابة وإثارة وسيقف فيها المتأمل فيها دائماً مندهشاً وكأنه يقرأ رواية رومانسية خيالية أو يشاهد فيلماً أو مسلسلاً مثيراً بمشاهده الحالية.

والاثارة في هذه العلاقات لا تنبع من أحداثها الدرامية، وإنما تنبع من بساطتها ووجعها ونبلها وصمودها وعمقها واستثنائيتها.

 أبدأ بحكاية الأسير وليد دقة وزوجته سناء؛ فالأخيرة ربطت مصيره بمصير وليد قبل أكثر من عشرين عاماً وهي تعرف أنه محكوم بالسجن المؤبد، زارته أول مرة عام 1997 وهناك على شبك الزيارة ولدت قصة حب بين وليد وسناء وتتوج بعد عام بالزواج، وانفكت حكاية الحب هذه تتسع وتتجذر وتغدو أكثر إشراقاً ونضجاً وتحدياً كلما واجهتها العقبات ومهما طال عليها الزمن.

 وسناء ارتبطت بوليد وهي في سنوات شبابها الأولى فلا ينقصها الجمال ولا الثقافة ولا المال ولا التعليم وستنتظر وليد بكل ما أوتيت من قوة وصبر وعزيمة، وسيمر عليها وعلى وليد عشرات الإفراجات وصفقات التبادل، وكلما اقتربت بشائر الحرية فوق رأسيهما كلما هبت الرياح والعواصف لتبعدها من جديد، ورغم ذلك تشبثت سناء بالأمل، رغم السنوات الطويلة والمرض الذي أصاب وليد في سنواته الأخيرة ورغم رحلة المعاناة الطويلة من العزل والاضرابات والتنقل بين السجون والزيارات والاعتصامات والمظاهرات.

ووليد حدثني عن تفاصيل حكايته مع سناء وهيامه بها ومع الوقت يغدو هذا الحب أكثر عمقاً، وسأصغي له بالكلام وهو يتحدث عن سناء بتلقائية وسلاسة وعن صدق حكايات غير متصلة ولكنها مكثفة، ومع هذه الحكايات سيكون بوسعك أن ترى عاشقاً مختمراً بالعشق، وستشهد له الحب في أكثر حالات صفاءه، وسترى أجمل حالات الحب في مرحلة النضال، وفي هذه الحالة لن يحتاج العاشق كما درجت حالة العشاق للتغزل بالعيون والقوام والقسمات فسيحدث هذا الحب بين فواصل الصمت وهو يتألق بوقار بين الزمنين الطبيعي والموازي.

 سناء ووليد زوجان منذ عشرين عاماً لم يتلامسا أبداً ولن يكتفيان بالزيارة الدورية كل أسبوعين، ومن خلف الزجاج سيتلامس زمن وليد مع زمن سناء ويترابطان برابط عشقي يخترق الحديد والفولاذ والجدار الاسمنتي، ويخترق جدار الزمن الموازي . قبل سنوات قليلة هاتف وليد سناء في سجنه ليبلغها بأن لديه فحوصات في المستشفى. لمعت فكرة في رأس سناء بأن المشفى هو المكان الوحيد الذي سيكون بمقدورها أن تراه بلا زجاج . قالت له سناء " سآتيك إلى هناك لأراك على الطبيعة" وفي اليوم المحدد تخرج سناء صباحاً ليقودها قلبها إلى ما تعصف بها عواصف الشوق المجنونة، كان حلمها بسيطاً أن ترى وليداً بلا زجاج وانتظرت في ممرات المستشفى وأحست بتباطء الوقت ولم تلبث أن أطلت سيارة شرطة السجون وهي تقل وليد وستراه من بعيد وتشعر وكأن قلبها سيخرج من جسدها، وهي تراه مقيد اليدين والقدمين ومحاطاً بحراس السجن وهو الآخر سيراها من بعيد ضرب بعضهما في كرادور المشفى، وتظاهرات سناء بأنها زائرة أو عاملة بالمشفى اقتربت أكثر من وليد المحاط بحراس السجن ليغمرها عاصفة من الشوق والذهول، تلعثم لسانها ببعض كلمات حدقت بوليد اقتربت أكثر كان يبعد عنها مسافة ذراعين لا أكثر ، لم تتمالك نفسها لم تصمد وتهاوت عليه واحتضنته بشوق وانخرطت بالبكاء، ارتبك الحراس أمام هذا المشهد، وهو ما سمح لهما بعناق استمر لحظات أضفى القليل من الشوق الملتهب.

 لأول مرة يلامس زمن وليد الموازي مع زمن سناء الطبيعي، قبلت سناء في هذه اللحظة الخاطفة التي جاد بها عليها عالم الزمن الموازي وستؤرخ هذا بمقياس زمنها العادي، بينما وليد الذي هطل المطر في صحرائه الجافة ستشرق روحه وسيؤرخ الحدث في مقياس زمنه الموازي عندما التقى سناء بالمشفى.

وليد المأسور منذ ثمانينات القرن الماضي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين حدثني عن قصة أخرى يوم زار المشفى قبل أكثر من عامين وشاهد حادثة غريبة رأى كل من يتواجد بالمشفى يحمل صحناً صغيراً من الزيت بيده اليسرى ويلمس بأصبع يده الأخرى السحن، لم يستطع تفسير ما تراه عينيه ظن أنه يحلم لكنه سيكتشف أن العالم تطور في غيابه وأن صحن الزيت ما هو إلا هاتف نقال جديد يعمل من خلال اللمس.

تعرفت على وليد قبل عام فقط أمضينا معاً بضعة أشهر في سجن جلبوع وهناك سأتعرف بعمق على وليد ...ثقافته وآرائه السياسية... حكايته الطويلة مع الأسر، وفي كل محطة وفي كل حكاية ستحضر سناء بكثافة الحضور المقدس، لا يمل ولا يكل في حديثه عنها وكأنها الروح التي تنزرع في شجرة ياسمين في أعماقه ويتنفس هواءه من رئتيها، يفتح ألبوم الصور ويريني صورها، صورة لها في فرنسا وأخرى في إيطاليا وأخرى أثناء اعتصام، وأنا أتعمد استفزازه وأطيل تحديقي بصورة سناء وأمتدح جمالها فيسارع لتقليب الصور، وأنا أبتسم وأسخر من غيرته، ومع كل زيارة كان وليد يبحث عني في الساحة إلى أن يجدني ليروي لي عن سناء.

 وذات مرة عاد من الزيارة وبحث عني ولم يجدني في الساحة، ووجدته يفتح باب غرفتي وكنت منشغلاً في الكتابة على الطاولة سحب كرسياً وجلس قبالتي وأشعل سيجارة وتظاهر بالغضب.

أما أنا فتظاهرت بالتململ فاضطررت للتوقف عن الكتابة ورحبت به وسألته: " ما الأمر؟" فأجابني متظاهراً بالغضب " سناء" فسألته ثانية " ما بها سناء؟ " فأجابني " سناء تنوي فعل كذا... سناء قالت كذا" ، وحتى أستفزه سألته قائلاً " ألست رجلاً لتقرر لماذا تسمح أن تتحكم سناء بتفاصيل حياتك؟" ورمقني يومها بنظرة غضب، ثم ما لبث أن هدأ وأخذ يروي لي عن سناء، كانت عيونه تلمع، وكأن التظاهر بالغضب ما هو إلا غطاء رقيق يخفي خلفه عشقاً عاصفاً لسناء وثقة عمياء بها واعجاباً شديداً بشخصيتها، وسناء التي اندمجت كلياً في عالم الأسرى وصارت تعرف عن قضاياهم أكثر مما تعرف الحركة الأسيرة عن نفسها من مطالب وإضرابات وشروط حياة في الأسر...الخ، وفي الاضراب الأخير في نيسان الماضي كانت متحمسة وأخذت بتحذير وليد بضرورة عدم خوضه الاضراب بجانب الأسرى، وعندها سألها وليد "إذا أنا سأدخل الإضراب" فتجيبه " أنت غير مسموح لك بالإضراب بسبب أوضاعك الصحية، يكفيك ما خضت من إضرابات طوال سنوات اعتقالك "، ويعود وليد من الزيارة ويأتي إليّ كالعادة وهذه المرة سيروي لي موقف سناء من الإضراب، ولكي أستفزه بسؤال " وما شأن سناء بالإضراب ؟" فيجيب " إنها متحمسة قالت كذا وكذا" فأجيبه بسخرية " حسناً عليك أن تخوض الإضراب معنا وإلا فإنه غير مسموح لك بالإدلاء برأيك" وهو يعرف أننا لن نسمح له بخوض الإضراب بسبب أوضاعه الصحية، لكنه سينهمك في عملية التعبئة، وسيكتب عشرات التعاميم والنشرات، ويعقد العديد من الجلسات التعبوية.

 سناء جعلت من وليد إنساناً حراً في عالم الأسر، جعلته إنساناً مرحاً ودمثاً ومبتسماً على الدوام، سيكون بمثابة الترياق بالنسبة لوليد ليغدو كاتباً لا يشق لقلمه غبار، ستغرقه بمئات الكتب التي تحرص على توفيرها في كل زيارة، ووليد يكتب كل يوم وملهمته سناء وستكون هي أول قارئ يخطر في باله أثناء الكتابة، وسيمارس رقابة ذاتية على كتاباته لأنه يفهم كيف تفكر سناء، وسيحرص دائماً على الكتابة ليبهر سناء قبل أي قارئ آخر، وسأستفزه مرة أخرى وأسأله " أنا لا أعرف لماذا تكتب عن كل شيء بينما أنت بخيل بالكتابة لسناء لو كانت لي زوجة أو محبوبة لكتبت لها طوال الوقت " فيثور غضبه ويقسم أنه كتب لها آلاف الرسائل، وأن سناء تحتفظ بها وتنظمها في ملفات خاصة".

 ولا أدري من قال أن الحب هو فن الانتظار، وأظن أن سناء تسخر من هذا التعريف وستقول لنا "جئت بتعريف آخر يليق بحب تجاوز لهفة الانتظار، فلن يعلم أحد منا سناء معنى الانتظار ومع ذلك ما تزال سناء تواصل وقوفها على حواف الزمن الموازي ترقب انبلاج قمرها الأسير من عتمة السجن الطويلة.

أما صديقي علام كعبي فكانت له هو الآخر حكاية درامية تمازجت بها كل عناصر الإثارة وسأشهد فصلها الأول أثناء مطاردتنا خلال الانتفاضة الثانية، كنا في صيف العام 2002 في عز مرحلة الاجتياحات والحصار، وكان علام في حينها مخطوباً لمنار، ومن مخبئنا السري داخل البلدة القديمة في نابلس كان يتسلل إلى بيت منار الذي لا يبعد عنا سوى بضعة مئات من الأمتار، يمضي عندها سويعات قليلة قبل أن يعود يانعاً ومزهراً كأزهار الدفلي، وفي ظل احتياطاتنا الأمنية في الدخول والخروج كان علام بشخصيته الصاخبة يظل يتململ ولا يلبث إلا أن يفتعل مشكلة كي يغادر البيت ويذهب إليها، وبعد بضعة أشهر سندخل تباعاً عالم الزمن الموازي، وهناك في الأسر ستغدو منار منارة ليله الدامس، ولم يتأخر حتى حكم عليه بالسجن المؤبد تسعة مرات، وفي العام 2005 سيطحن علام بين رحى الزمن الموازي، وكان متشائماً من إمكانية التحرر من الأسر، ولهذا ظل يشعر بتأنيب الضمير، كيف له أن يربط فتاة في مقتبل العمر بمصيره الأسود وسيحترق غضباً ويكتشف معناً جديداً عن الحب بعد أن غدى حباً مستحيلاً، وفي سهراتنا الليلية كان يحدثني عنها، ويريني صورها ويطلعني على رسائلها وكنت منبهراً برسائلها لعلام ومفرداتها ونسقها الأدبي الجميل ونفسها الموزون الأقرب إلى الشعر، رسائل عاشقة تنذر نفسها انتظاراً على مذبح الحب المقدس، وأقول له " أن خطيبتك ستكون روائية كبيرة وعليك تشجيعها" وعلام العملي الصاخب يمطرني بسيل من اللعنات فيهتف " حل عني انتهى وقتك"، وفي تلك الأيام سننحت مصطلحاً بنكهة السخرية السوداء على عشاق الأسر ومنهم علام، وهذا المصطلح المنحوت من اللغة العامية في اللهجة القروية " البربكة" والفعل الماضي منه " تبربك" والمضارع " يتبربك" فهو كناية عن تباكي العاشق الأسير الذي ينزف ألماً وقهراً ويلوذ معظم ساعات يومه بقوقعته هائماً في محبوبته وحائراً فيما يتعين عليه فعله، وستبدأ الضغوط الخارجية على علام وسيبدأ صراعه الداخلي مع النفس، إنه يرغب ببقائها معه، وفي الوقت ذاته يأنبه ضميره على مستقبلها، ومن جهتها عاهدته منار في البقاء على العهد مهما كلفها الثمن، ومن ناحيتي عايشت تلك المرحلة وشجعته على استمرار الارتباط بحكم تفاؤلي بإمكانية تحررنا في قادم الأيام، وبحكم تشاؤمه من هذه  الإمكانية حسم أمره ووقع الانفصال.

علام " يتبربك بصمت" ومنذ العام 2005 لم ألتقي مع علام، وكنا نتراسل وفي إحدى رسائله كان لا يزال " يتبربك" رغم مرور سنوات على الانفصال، وأشار لي إلى أنه عاد للتدخين، وهذا يعني ورود أخبار لا تسره على الصعيد العاطفي، وبعدها التقينا وفي ظروف أكثر قسوة، وفي إضراب سبتمبر 2011، جرى تجميعنا في أحد الأقسام القديمة في سجن " أهوليكدار" وكان عددنا يقارب المائة رفيق مضرب عن الطعام، وكانت الغرف التي نحتجز فيها مغلقة على الدوام، ولم يكن مسموحاً لنا باللقاء أو الخروج للساحة، وكلما طلبتني الإدارة بهدف المساومة والضغط لإنهاء الإضراب كنت في طريق عودتي أمر على باب غرفة علام نتحدث قليلا ًونسخر ونضحك، وفي اليوم الخامس عشر على الإضراب علمنا أن صفقة التبادل المعروفة بصفقة " شاليط" قد تم التوقيع عليها وأنه سيجري إنجازها خلال أيام، ووقع الخبر علينا كالصاعقة، ماذا سنفعل؟ كنا مضربين بهدف إخراج المعزولين وعلى رأسهم القائد سعدات من العزل، وكانت تتوارد أنباء عن إمكانية تحررهم في هذه الصفقة، كما أن جزءاً من المضربين كان يتوقع أن يتحرروا أيضاً، وكثر الجدل بيننا وصار الإضراب في خطر، ولم تلبث أن طلبتني الإدارة، وعادت تساوم على الإضراب ولم تتحدث إطلاقاً عن الصفقة المرتقبة، ولا عن إمكانية تحرر بعضنا بها.

 وفي طريق عودتي للغرفة كنت بالممر بين صفين من الغرف، الجميع ينادي ويسأل عن الصفقة، فمررت على علام فكانت غرفته الأولى في صف  الغرف وأخبرته بما حدث، وكان لا يزال متشائماً من إمكانية تحرره، وفي نهاية المطاف قررنا الاستمرار بإضرابنا مهما كلفنا الثمن، وبعد يومين جاء ضباط الإدارة يحملون سبعة ملفات لرفاق مشمولة أسمائهم في صفقة التبادل، وكل واحدٌ فينا كان يأمل أن يشمله التبادل على قاعدة "إذا أمطرت الدنيا بلحاً فافتح فمك"، أما علام فكان لا يزال متشائماً، وكنت أنا لا أزال متفائلاً وبعد قليل وصلوا عند غرفة علام ودعوه ليجهز نفسه بسرعة وبأن اسمه مشمول بصفقة التبادل، كاد أن يسقط أرضاً من ذهول الفرحة، وبعد ساعة تحرر سبعة رفاق بما فيهم علام المتشائم، تحرر المتشائم وبقي المتفائل بالأسر.

 بعد يومين أنهينا الإضراب وسيجري نقلنا بالتدريج، وتوزيعنا على السجون، وكانت رحلتي هذه المرة إلى سجن " إيشيل" ببئر السبع، وهناك عرفت أن علام جرى إبعاده إلى غزة، وصباح اليوم التالي أيقظني أحد الرفاق وكان يحمل كرتونة بسكويت صغيرة الحجم، اعتقدت أنه أيقظني ليطعمني البسكويت فاعتذرت منه وعدت لنومي، ولكنه أيقظني ثانية وأشار إلى العلبة وهو يهمس " تليفون تليفون" وذلك الحين لم أكن قد لامست هاتفاً نقالاً في السجون، شرع الرفيق بإعداد الهاتف وربط الأسلاك بعملية معقدة ودعاني للتحدث مع أهلي، ولكن مع من سأتحدث لا أحفظ أرقاماً إطلاقاً، لكن جاء برقم علام وها هو علام تحرر من بيننا وصار له هاتفاً أكلمه عليه، وأصغي لعلام وكان مبتهجاً في عالم الحرية، وضحكنا وسخرنا، ثم هتف من أعماقه " سأتزوجها قريباً" فرحت له، بعد شهرين غادرت منار الضفة في رحلة طويلة ستمر خلالها على الأردن، ومن ثم إلى مصر ومن هناك على غزة ، وفي غزة ستعقد قرانها وستتزوج من علام وستحدث المعجزة، ويكمل الزمن الطبيعي دورته وينتهي هذه المرة بنهاية سعيدة، وتمر السنوات وأهاتفه كلما تيسر لي ذلك، وظل علام يتذمر وسيكون أكثر صخباً ويفتح النار على من حوله، وأداعبه بالقول " لقد نلت حريتك المستحيلة، واستعدت منارك فلماذا تتبربك" وفي غزة سيعيش علام ومنار زمناً آخر تحت الحصار والحروب، وكلما حملت منار كانت تضطر للسفر إلى الضفة لانجاب مولودها هناك لينال مواطنة الضفة، وهذه إحدى سخريات الأقدار الفلسطينية، وإحدى أوجاع معاناتنا تحت الاحتلال، وبهذا تكون حكاية علام ومنار قد عايشت ثلاثة أزمنة، الزمن الأول زمن الانتفاضة، حين يمتزج الحب بالثورة والتضحيات، وحين يتراقص على الدوام قبالة الموت، وسينجو علام من الموت بعد اشتباك مسلح برفقة رفيق دربه أمير ذوقان وسيكتب الجنرال بدمائه على الجدار عبارته المشهورة " كونوا على العهد" وتلك رسالة لكل من يهمه الأمر لرفاقه ولشعبه وربما لمناره التي بقيت هي الأخرى على العهد، والزمن الثاني هو الزمن الموازي في الأسر وكان الحب حينها يشهد لحظات توتر وآلام، وهناك ستغدو منار قديسته بلا منازع، والزمن الثالث هو زمن الحرية، حين يتعانق الحب مع الحرية، ولكن بنكهة الحصار وأدخنة الحروب في أرض غزة الإباء، وفي هذا الزمن سيولد أسامة ثم تولد نايا وأثناء حمل منار بابنها الثالث أحمد كان علام " يتبربك" ويشكو سوء أحواله المادية، ولن يكون بوسعه هذه المرة تسفيرها إلى الضفة، وقال ساخراً " سأوصلها إلى المستشفى وأولي هارباً" ولد أحمد، وذات مرة سألته عن أحوال ابنه الصغير عندها شتمه بشتيمة بذيئة وعندها انفجرت ضاحكاً " لن يتغير علام سيبقى صاخباً وفي غزة سيتشاجر مع الجميع " ومنار ابنة المدينة التي عشقت ابن الأزقة والمخيمات عجزت عن تهذيب علام، ربما أرادته هكذا وكما هو، ربما عشقت فيه صخبه وثورانه وبساطته وثورته الدائمة، كان حب على الطريقة الفلسطينية المليئة بأوجاعها وسخريتها، ومرة أخرى تكون المرأة صاحبة الانتصار في هذه المعركة.

أما حكاية خالد الحلبي وكلير فلها مذاق مختلف، فبدأت علاقتهما عام 1999 وفي زمن الانتفاضة الثانية اضطربت العلاقة بسبب ظروف مطاردة خالد، لم يشأ ربط مصير كلير بمصيره لمعرفته المسبقة بما ينتظره في حال أسره، واعتقل خالد عام 2002 واستمرت علاقته بكلير لمدة عامين ثم تنقطع، وحكم عليه بالسجن لمدة 28 عاماً وبعد انقطاع علاقته بها لمدة 8 سنوات عادت وتجددت عام 2012 وفي انبعاث العلاقة من جديد كانت كلير هي صاحبة المبادرة بعد أن نذرت نفسها لخالد مهما كان الثمن، وخلال خمس سنوات من هذه العلاقة تغير خالد وهو المعهود عنه بشراسته وسرعة غضبه، فتهذبه كلير وسيغدو عاشقاً وصامتاً وهادئاً وحالماً معظم الوقت، ولا يمل الحديث عن كلير التي استوطنت كل خلية في جسده واحتلت روحه وروضت فيه الشراسة والغضب، وتربي فيه العاشق الحالم والنبيه.

 ويروي لي خالد في كل محطة ألتقيه عن كلير، وفي كل مرة كان يروي حكايته معها وكأنه يبدأ من جديد، يعشقها بكل ما أوتي من شراسة وعزيمة، تلمع حدقاته كلما استحضر طيفها، وبوسعك أن تجد تلك السجينة الراكدة في أعماقه، لقد طبخه الحب على نار هادئة وصار أكثر صفاءً وبهجةً وثقةً بالنفس.

 أما الجديد مع خالد وكلير فكان ذلك القرار الشجاع بالارتباط وهو في زمن الأسر، وسيتعانق الزمنان على ضفاف المستحيل، ولن يسمحا للأسر بأن يشوش سعادة الحب النابضة، وتبقى لخالد اثنتي عشر عاما للتحرر، وخلال الأيام القادمة سيتوج خالد وكلير علاقتهما بعقد قرانهما بالأكليل متحديان كافة مستحيلات الأزمنة، ويظل خالد يحلم أن تنجب له كلير طفلة سيسميها كنزي، وستغدو كنزي في عالمنا الموازي كائناً حياً موجوداً في الحياة قبل أن يولد، وسيشترط على كلير أن يكون المولود انثى  وستصبر كلير على دلال ودلع خالد لترهن ذلك للمعجزات التي يصنعها الحب المستحيل، أما نحن وقبل أسابيع سنشهد إحدى الطقوس التي لم يعرفها أي بشر على وجه الأرض، وسيهرب خالد النطفة التي ستحمل كنزي إلى الحياة، وتجري بعدها عملية فحص مخبرية للتأكد من سلامة النطفة، وبعدها ستتجمد كنزي في حضن الزمن إلى أن يجري عقد القران، ومن ثم عملية زراعة النطفة في أحشاء الأم، وبهذا سيتحدى الحب على الطريقة الفلسطينية كل الأزمنة المستحيلة وسينتصر الحب وسيسقط حجر آخر من قلعة " إسرائيل" الحصينة.

 ومن يعرف خالد عن قرب فسيدرك أن الحياة لديه لا تتشكّل إلا من لونين الأسود والأبيض، وبفعل كلير غدى خالد فسيفسائياً يضج بالألوان وما أعظم المرأة حين تربي العاشق وتعيد تشكيله من جديد، ويأتي خالد لمحادثة كلير ويكون قبلها أشبه بالصحراء الجافة، وبعد المكالمة يخرج يانعاً كالزهور ومزهراً كالبساتين وباسماً كالشمس وصافياً كسماء نيسان، ونداعبه من الآن بابنته كنزي ليصغي إلينا بطريقة حالمة يسابق الزمن عشرين عاماً للأمام حين تغدو كنزي صبية جميلة ومتحررة ويكون هو عجوزاً لا حول له ولا قوة وتخرج كنزي رغماً عن أنفه لملاقاة عشيقها، ولأن خالد يعيش هذه الحكاية ويصدقها كما لو كانت في الواقع سترتفع وتيرة استفزازه ويبدأ منذ الآن بالاحتياط لهذا السيناريو، لننتظر ونرى ماذا سيخرج لنا العشق الساحر من قبعة الزمن الموازي، ومرة أخرى تكون الميزة في العاشقة وليست في العاشق فبهذه هذه المرأة العاشقة على حواف الزمن الموازي سيتركز العالم بكامل جلاله وجماله.

ولدى صلاح وشيرين نقف عن حكاية أخرى لا يقل سحرها عن الحكايات الأخرى، أتذكر صلاح حين كان شاباً طويل القامة ممتلئاً بالصحة يتجول دائماً على دوار المنارة في رام الله ولا يمكنك أن تتخيل صلاح مرتبطاً بذلك المكان برفقة عدد من الأصدقاء، أما شيرين فأتذكرها فتاة في الثانوية تأتي مع أخواتها أحياناً إلى الجامعة وهناك نشاكسها قليلاً، ستكبر شيرين وتدخل الجامعة ويأتي زمن الانتفاضة الثانية ويغدو صلاح ملاحقاً من الاحتلال، وستنشأ علاقة حب بينهما، حبٌ يصارعُ البقاء على ضفاف الثورة والنضال والمخاطر، وفي العام 2004 سيصاب صلاح في ساقه إصابة بالغة وسيجري اعتقاله ليدخل عالم الزمن الموازي، ويحاكم بخمسة عشر عاماً ولكن شيرين ستتمسك به، عرض عليها أن تعيش حياتها رفضت وأصرت على الانتظار، وتوجت العلاقة بالزواج على طريقة الزمن الموازي، وتمضي السنوات ولم يتحرر صلاح بدفعات الإفراجات، ولم يعد أمام العاشقان سوى الانتظار والتحلي بالصبر الجميل، كنا نناديه بأبي علي صلاح ولم يكن عليٌ قد جاء إلى هذه الدنيا بعد، واليوم نناديه بأبي علي صلاح وقد صار عمر علي عامين، كيف حدث السحر وهو لا يزال معنا بالسجن، شيرين هي من جعلت الحلم حقيقة قررت أن تهديه طفلاً، سيجري تهريب النطفة وسيجري زرعها في العروس البكر وستهديه مع ابنه علياً محبباً مكللاً بالوفاء الأبدي، ولا يستغربن أحداً تلك من غرائب عالمنا الموازي ونحن نحيى في قلب واحة " إسرائيل" الديمقراطية التي ينبح قادتها ليلاً نهاراً بالتغني بحضارتها، ومرة أخرى تنتصر المرأة؛ فبالمرأة الحرة يتركز جلال العالم وجماله.

أما صديقي العزيز نادر صدقة، فحكايته هي إحدى غرائب عالمنا الموازي، عرفت نادر منذ أكثر من عشرين عاماً وعايشت حكايته الغرامية ووقوعه في أكثر من حفرة عشقية منذ الجامعة وجنونها، مروراً برحلة النضال والمطاردة في زمن الانتفاضة الثانية، وليس انتهاءً بعالم الزمن الموازي، وفي هذا العام سيداوي جراحاته وينهمك من رأسه حتى أخمص قدميه بالعمل والنضال الاعتقالي، حيث يقضي حكمه بالسجن المؤبد، كنا قبل عام في سجن " جلبوع" منشغلين في التحضير لإضراب نيسان، وفي هذه الأثناء وعلى الهامش وفي لحظة صمت فاصلة باح لي بلامبالاة عن فتاة أردنية أرسلت له رسالة مطولة، وترغب من خلالها بإلحاح أن تتعرف إليه، ووصفها لي بالمجنونة وتظاهر بعدم الاكتراث، رمقته بطرف عيني وابتسمت ثم همست " هذه المجنونة ستكون قدرك " رد عليّ بهمس "بتحلم" وهمست ثانية " أعرفك أكثر من أمك سلام"، ومضت الأيام ونسينا الأمر وانشغلنا بالإضراب وبإشكالياته وملابساته، وبعد الإضراب وفي موسم الهجرة إلى الجنوب نقلتني إدارة السجون إلى سجن ريمون، وسيلحق بي نادر بعد أسبوعين، وهناك تواصل نادر هاتفياً مع الأهل والأصدقاء ليفاجئ بأن ثمة فتاة تقلب عليه العالم منذ ثلاثة سنوات، لم تترك سفارة ولا موقعاً الكترونياً ولا صديقاً محرراً ولا مؤسسة حقوقية إلا وبحثت عنه وتتبعت أخباره، وكان نادر لا يزال يتظاهر بعدم الاكتراث، وفي هذه الأثناء خرجت في زيارة لأحد الأقسام مدة شهر، وسيأتيني ثائر سكرتير المنظمة في جولته الأسبوعية على الأقسام، وجاءني مرة ينم على نادر بطريقة ساخرة ويتساءل " ألا تعرف ما هي آخر أخبار نادر؟ " أجبته بلامبالاة " كلا لا أعرف" أجابني بخبث " لقد وقع في الحب" تظاهرت بالغضب وهتفت"وهل هذا وقت غرامياته هل نسي أنه سيعود إلى جلبوع قريباً إذا تعلق بها سينسى كل شيء، وسينشغل بها" ابتسم ثائر وقال متخابثاً " حسناً اكتب له رسالة" هتفت " ماذا سأكتب لهذا المجنون؟" رد ثائر " اكتب له أي شيء" أخذت من ثائر قصاصة ورقية " ماذا سأكتب له ولم أجد ما أكتبه سوى هذه المقطوعة الشعرية " احذر لدغة الأمل الجريح"، وسأعود بعد شهر إلى القسم سأجد نادر هناك وأكاد أحبس برعماً يكاد يتفتح في أعماقه، شرع نادر يحدثني عن حكاية فتاة اسمها دانا تعمل في الصحافة قرأت تقريراً عن نادر في صحيفة مصرية أثناء زيارتها لمصر قبل سنوات، أحبت حكايته نبض شيء جميل في داخلها بحثت عنه في مواقع الشبكة العنكبوتية، وهناك عثرت على صورته وبعض المعلومات والتقارير، وعندها اكتمل المعنى عشقته برسم كيمياء الاسم والصورة والحكاية، وقلبها حدثها " أن نادر قدرها وهو تحديداً من تبحث عنه " وطوال ثلاث سنوات قلبت عليه العالم، أرسلت له رسائل معظمها لم تصل، اتصلت بالسفارات والمؤسسات وتتبعت أخباره، ولم تكن دانا في هذه الحالة تزاول مهنتها الصحافية، لقد كانت تتصرف كعاشقة بحثت عنه بإصرار بالإبرة والخيط إلى أن سمعت أنه في سجن " ريمون" وأنه ستسنح له الفرصة بالاتصال بها، عندها جن جنونها كثفت اتصالاتها للأهل والأصدقاء إلى أن نجحت أخيراً في سماع صوته وكانت تضحك ووصفها بالمجنونة وضحكت بهستيرية صارحته بحبها منذ المكالمة الأولى، فشرح لها أوضاعهم وحاول تطفيشها لكنها رفضت وتشبثت به أكثر من قبل، قالت له  " سأنتظرك حتى آخر لحظة في العمر" .

سألني نادر بعد رواية هذه الحكاية عن رأيي أجبته ساخراً " أنت تعرف رأيي منذ البداية" رد بسخرية " أنت واهم" أجبته " ستعشقها" ثم أضفت " أنا شخصياً لا أثق ولا أحترم إلا هذا الطراز من النساء "وعندها استسلم نادر وقال " تعال معي " دخلنا غرفته وكنا وحدنا أخرج مظروفاً مكوناً من ستة أوراق إنها رسالة كتبها لها خلال الأيام الماضية وقال لي " اقرأ" وشرعت بقراءة الرسالة، لم أقرأ في حياة رسالة ببلاغتها وصراحتها وعمقها ودفئها الإنساني... رسالة يختلط فيها الحب بالثورة وبالفلسفة والأدب والشعر وكان يشرح وضعه محاولاً صدها، وكبح جماح جنونها، سألته " أين مسودة الرسالة" أجابني " إنها المسودة والرسالة كتبتها هكذا" قلت له " ستطير دانا فرحاً بها لم يسبق لي أن قرأت رسالة بهذا العمق" صمت نادر ثم هتف قائلاً" أنت تظن أن الأمر بهذه البساطة كيف لي أن أتظاهر بالحب أنت تعرف تفاصيل حياتي، كيف لي أن أحب فتاة تكاد تعرفت عليها؟!" أجبته " أن دانا تنتمي إلى ذات الطراز من النساء اللواتي لا  يجود الزمان بها كل يوم، هذا الطراز من النساء بجنونهن ونقائهن ووفائهن ستجدهن يبرزن في كل زمان ومكان وينذرن أنفسهن بشئ أسمى من ما يعرفه البشر، وفوق كل ذلك إنها تستحقك كجائزة"، وعندها سكت نادر وأحسست أنه كان بحاجة إلى من يريحه بهذه الكلمات، قلت له " أما عن الرسالة كانت رائعة مع أنك كنت مرتبكاً ومنقلب الفؤاد أثناء الكتابة، وأنا واثق أنك ستكتب لها في قادم الأيام ما لم تكتبه في حياة أي امرأة أخرى" ولدى خروجنا إلى الساحة أمسكت به من ذراعه وقلت له ساخراً  متشفياً " هذه الفتاة عظيمة قلبت عليك العالم طوال ثلاث سنوات، وبحثت عنك بين الركام إلى أن أمسكت بك من ذيلك ثم حاولت إخفاء وجهك بالأقنعة، وسرعان ما بدأت تنزع عنك الأقنعة قناعاً بعد الآخر إلى أن أوقعتك في حبها" ابتسم نادر ابتسامة واسعة، واكتفى بالصمت. وفي هذه الصحراء عثر نادر على عشيقة مجنونة، ظنها سراباً في البداية لكنها كانت حقيقة لا سراباً، لفحت أنفه بعبيرها من بعيد، وأمطرت على صحرائه ولم تلبث أن تفتح زهورها في أعماق قلبه.

وفي هذه الأثناء جاء اسم نادر للنقل إلى " جلبوع" أحسست أن لديه رغبة بالبقاء بهدف التواصل الهاتفي مع دانا، قلت له " لا بأس عد إلى مهمتك في الشمال، وأنا واثق أنك ستكتب لها من هناك أجمل الرسائل، وهي ستكتب لك كذلك أروع الرسائل، فالحديث على الهاتف سيضيع في الهواء، أما الكتابة فهي خالدة سيتاح للناس أن تقرأها في يوم ما، تلك التي سيكون لها نصيب في التاريخ من أدب السجون".

ومرة أخرى نقول أن الحب في هذه الحالة هو من الأسماء الحركية للمرأة وليست للأسير العاشق، لطالما تغنى الناس بالأسرى ممتدحين صمودهم الأسطوري، بينما ننسى النصف الآخر من القمر، ننسى أو نتناسى ذكر هؤلاء النساء القديسات المنتظرات بصمت وصبر على حواف الزمن الموازي، انهن مسجونات مرتين مرة لأنهن ربطن مصائرهن بمصائر أسرى يعيشون مستحيل الحرية، ومرة ثانية وهن يقاومن كل إجراءات العالم وينذرن أنفسهن على مذبح الحب المقدس، أما الأسير  فهو لا يمتاز أكثر من كونه أسيراً، فهو لا يدفع ثمناً للحب كما تدفعه المرأة، وسيكون بمقدورنا سرد مئات وربما آلاف من الحالات المشابهة من زوجات وخطيبات الأسرى طوال تجربة الأسر الفلسطينية في تاريخها الطويل.

 وهؤلاء النسوة لسن هاويات ومغامرات والمسألة ليست مجرد تعاطفٍ مع أسير، أو مشاطرته النضال الوطني وإنما المسألة أعمق بذلك بكثير إنها تعبّر عن حالة ثقافة راقية في رحلة نضال شعبنا نحو الحرية، وتعبّر عن حالات فريدة في الحب ربما لم تعرفها التجربة الإنسانية وبالذات دروسها الصعبة والقاسية والاستثنائية، وسيذكر تاريخنا العربي حكايات قيس وليلى، وكثير وعزة، وعنتر وعبلة وجميل وبثينة، وسينشغل النقد العربي بغراميات ولادّة بنت المستكفي مع ابن زيدون، وهي تعيش في قصر والدها المترف بينما تشكو في أشعارها لهيب حنينها لابن زيدون الذي لم تراه منذ أربعة أشهر، ماذا ستقول سناء دقة وهي تقرأ هذه الأشعار وتعليق النقاد عليها؟، وسيهتم التاريخ الأدبي بنقل حكايات الحب الارستقراطي والماجن في قصور الخلفاء والأمراء والسلاطين، وسينشغل النقد بفنون وصف الشفاه والعيون والسيقان في الشعر والنص الأدبي العربي، بينما لا يتذكر أحد أن يصف لنا روعة وصفاء ووفاء هذا الطراز من النساء العاشقات من أمثال سناء ومنار وكلير وشيرين ودانا والمئات من أمثالهن اللواتي يجسدن الحب في كمال حضوره الإنساني، وسينقل لنا تاريخ الأساطير حكايات عن آلهة الحب والجمال لدى الشعوب الغابرة، وسيتحدثون عن عشتار وفينوس وافروديت واللواتي كن نساء عاشقات وملهمات قبل أن يجري أسطرتهن وماذا سنقول عن هذه الأساطير المجسدة في الواقع هذه النساء اللواتي سجلن لنا صفحات ناصعة في تاريخ الحب والوفاء والإخلاص والتضحية والانتظار الجليل على حواف الزمن الموازي.

 هذا من النوع لن نجد له تعريف لدى ابن حزم في طوق الحمامة، وهذا النموذج من النساء نادر في وجوده يعكس ثقافة في جمالية النفس البشرية التي طمستها التكنولوجيا والثقافة الاستهلاكية والذوق الرخيص في هذا العصر، فبماذا سنصف هذا النوع من النساء وهن يجسدن المعنى في أتم حضوره وقداسته ؟ هل سنتحدث عن عيونهن وقوامهن وشعرهن؟ أم نمتدح بطولاتهن وصمودهن ؟ أم نكتفِ بشعارات التكريم الفارغة، إذن فليبدأ الأدب العربي باشتقاق مفردات جديدة تليق بهذا السمو المجبول بالكبرياء والأصالة والنقاء، وبهذا الطراز من النساء المعجون بالتلقائية والوفاء والذوق الرفيع الذي يتجسد فيه معنى الحب الحقيقي، ويكتسي معناً تجريدياً لا حسياً لا علاقة له بتجارب العشق العادية، إنه حب عابر للأزمنة... وعابر للأديان... وعابر للجدران... وعابر للمستحيل، وهي أصعب حالات العشق وأكثرها جنوناً وعمقاً ونقاءً ووفاءً، وهذا الطراز لا يحتاج إلى المدائح، لن يحتجن لأحد كي يعلمهن معنى الحب وهن يجسدن المعاني كلها، لم يعتبن على الزمن، ولا يندمن على الاختيار، ولا يندبن حظوظهن ولا يتظاهرن بالتميز، ولا تغريهن المظاهر ولا المال والشهرة والمجد، طراز لا يتباكى تجدهن مثقفات ومتعلمات وجميلات وعاملات فلماذا لا يتمتعن بمسرات الحياة ومباهجها؟ وما الذي يدفعهن لربط مصيرهن بهذا المصير القاسي؟! انهن ببساطة يتصرفن بتلقائية الشمس والطبيعة فهو المعنى الجمالي للحياة، لشئ لا يفهمه البشر، وسيقال عنهن حالمات مجنونات مغامرات، وسيقال عنهن أيضاً كلمات تمتدح صمودهن وبطولاتهن وفي كل الأحوال لن تهتم احداهن بما سيقال عنهن إنهن بعشقهن الواحدة منهن تكون كالزهرة التي تنغلق على نفسها وتحتفظ بعبيرها وشذاها بداخلها، يلامسن عالماً غير مرئياً هو عالم الحب المقدس، وهكذا يكن قد رفعن قيمة الحب إلى مرتبة الجلال والشرف، وهي أرقى حالات الحب في الزمن، ستتبرم أمهات الأسرى وآبائهن وسيطلق المغرضون سهامهم وسيقولون " كبرت في العمر، وذهب سحرها وجمالها" سيقولون " لم تعد قادرة على الإنجاب" لكنهم لن يقولوا " كبر الأسير وترهل ونهشته الأمراض " وسيظلمون المرأة للمرة المليار ولن يفهموا عالمها أبداً، وبهذه الحالة فليسقط الرجال وتحيا النساء، وهذا الطراز من النساء لن يفهمهم بعمق سوى المتصوفين على مذهب ابن عربي، وسيجدون أن الحب مجسد في المرأة من هذا الطراز بكل صفائه وبهائه ونقائه، وحينها سيطلق عليهن ما قاله أحد المتصوفين " رَقّ الزُّجاجُ وَرَقَّت الخَمرُ، فَتشابَها فَتَشاكل الأَمرُ، فَكَأَنَّها خَمرٌ وَلا قَدح، وَكَأَنَّها قَدحٌ وَلا خَمرُ "، وهكذا يتجسد حب المرأة ويقول فرناندو بيسوا " أن نفكر معناه ألا نعرف كيف نمارس الهدوء " وبهذا النوع من النساء يصح أن نقول " أن نحب معناه أن نعرف كيف نمارس الهدوء ".

وفي كل الأحوال تشّكل المئات من نساء الأسرى جزءاً أصيلاً من الحكاية الفلسطينية بأوجاعها وتضحياتها وبهذه الثقافة في المقاومة وبهذا الشكل من الحب المقاوم نكون قد سجلنا أهدافاً في مرمى الاحتلال، واكتشفنا زيف ادعاءات دولته في الحضارة والتنور، وبهذا نعبّر عن نضالنا الراقي، ويكون أحد أسلحتنا في الدفاع عن حقنا في الوجود، وإلى أن ينكسر عالم الزمن الموازي ويولد العاشق من ظلمته، ستظل المرأة العاشقة على حواف الزمن الموازي تنتظر بزوغ قمرها من الأسر، لينير سمائها وتكون في هذه الحالة قد انتصرت مرتين بحبها مرة حين أحسنت فن الانتظار، والأخرى حين حظيت بعاشقها تحت الشمس، وعندها تكون قد تربعت على عرش القلب في كل الأزمنة.

 

 

  • أحد أبرز قيادات الحركة الوطنية الأسيرة، مسئول فرع الجبهة الشعبية في سجون الاحتلال.