من أبرز قيادات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

نصف حرية يصنع نصف معجزة بقلم الأسير شادي الشرفا

المصدر / ​خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

الأسير رشدي أبو مخ ينادونه الأسرى باسم " صالح" تهكماً لأنه لم يبقَ في جسده شيئاً صالحاً بعد أكثر من (32) عاماً في الأسر .

الرفيق صالح اعتقل عام 1986 بتهمة الانضمام إلى خلية عسكرية تابعه للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأسر جندي صهيوني وقتله مع رفاقه وليد دقه وابراهيم ابو مخ . وحكم بالمؤبد والذي حُدد لاحقاً ب(35) عاماً.

لا تغيب البسمة عن وجه الرفيق صالح رغم إصابته بكتلة امراض صحيه خلال أعوامه الطويلة بالأسر،  فإنه يعاني من كافة الأمراض المعروفة ومنها الضغط والقلب والكولسترول ونقص الحديد وضعف الدم وقرحة المعدة وهشاشة العظام والتشنج العضلي والدسك وضعف النظر وصلافة القدر . وغير المعروفة النية السوداء والتهكم المزمن واللغة الفجة واللسان اللاذع . ولعل أبرز أمراضه المزمنة هي السكري حيث اعتاد أكثر من عقدين على تناول أربع حقن للسكري يومياً، ناهيك عن 12 حبة دواء لأمراضه الأخرى .

يعتاش الرفيق صالح على دزينة الدواء اليومية والتي حددت وتيرة يومه في الأسر وإيقاف حياته . رغم ذلك فإنه تحدى هذه الظروف عبر فرض نظام حمية خاصة تحرمه من أغلب أصناف المأكولات، لكن كل محاولاته لضبط إعياءه تتكسر أمام صعوبة الأسر والعوارض الجانبية لدزينة الدواء التي يتلقاها .

في بضعة الشهور الأخيرة حصل تغير نوعي في حياة الرفيق صالح في الأسر، فقد انتقل إلى سجن النقب مع رفيقه وابن عمه إبراهيم، وهناك لأول مره يعيش في أقسام الخيم بدل الزنازين الصغيرة التي شب وشاب بها .

ظروف الحياه في أقسام الخيم كان لها وقعاً وأثراً كبيراً على الرفيق صالح، فعدا عن إمكانية التواصل الهاتفي اليومي فإن ميزة الخيم مقارنةً مع الزنازين في باقي السجون هي الأجواء شبه المفتوحة. فلا وجود لأقفال الأبواب ولا وجود لسجان يحدد متى الخروج إلى الساحة، وأيضاً لا وجود لسياج يحجب عنك رؤية السماء صافيه كما عرفناها يوماً .

هذا التغير على حياة صالح بعد 32 عاماً من الأسر أدخل بهجة وسرور إلى قلبه لا يمكن وصفهما، لدرجة أنه استخدم تعبير " نصف حرية " على هذه الظروف الجديدة التي يحياها لأول مره في أسره .

نصف حرية... نصف إشباع ... نصف زيارة... نصف حب ونصف هواء. هكذا حياتنا في السجون بين الأرباع والأنصاف؛ فالربع في الزنازين المنتشرة في أصقاع الوطن والنصف في الخيم في النقب الصحراوي .

طرأ تحول على نفسية الرفيق صالح وهو المعروف دوماً بابتسامته ومزاحه ولسانه السليط ... وبعد بضعة أسابيع في الخيم تراجعت عدة أمراض عنه فالكلسترول لم يعد موجوداً، ولم يعد بحاجة إلى دواءه، وكذلك الضغط حيث لم يعد يشعر بالصداع الملازم له، والأهم أنه لأول مره لأكثر من عقدين يتناول حقنتين لعلاج السكري بدل أربعة كما اعتاد .

عند سؤالي له عن سبب هذا التحسن المفاجئ لصحته أخبرني أن السر يكمن في " نصف الحرية "، قال لي:

" أنا أرى الشمس والسماء الصافية دون سياج لأول مره منذ أكثر من 32 عاماً، يعني أكثر من 384 شهراً أو 11520 يوماً أو 276480 ساعة أسر.

كدت أن أنسى مشهد السماء الزرقاء واعتقدت أن ذاكرتي محت صورة القمر، لكن ها هو القمر أجمل مما عرفته يوماً ... " وراح صالح يروي لي معنى أن تمشي ليلاً في الساحة وغرق في روحانيات تبين مدى التعطش للحرية والتي باتت قاب قوسين أو أدنى بالنسبة لصالح، والذي اعتاد القول" سأعيش مريضاً وأموت مريضاً وأبعث يوم القيامة مريضاً ومقهوراً ". وها هو " نصف الحرية" على حد تعبيره يصنع نصف معجزة .

بعض الأسرى المحررين يروون لنا قصص عن تخلصهم من أمراض عانوا منها داخل الأسر. هكذا . وكأن شيئاً لم يكن كحادث تحرر تختفي جملة الأمراض الملازمة حتى المزمنة منها .

قد يبدو ذلك وهماً أو ربما أمنية تلازم الأسير كي ينفض عنه غبار الإعياء ما أن تلامس قدميه يابسة الحرية ... فقدامى الاسرى وفي قرارة أنفسهم  يحلمون بملاقاة الأحبة بعد طول غياب بذات الجسد اليافع والامل اليافع الذي ودعوهم به .

لكن الحرية لا تعيد عقارب الساعة، ولا تزيل الشيب الذي خط شعر الرأس ولا تعيد نظارة الوجه ولا الكرش إلى الوراء، لكنها - الحرية – كفيلة ببث روح الشباب من جديد. ولربما أحد أسباب الشفاء من الأمراض تعود إلى العامل النفسي، حيث هناك مجالات علمية واسعة تتحدث عن أهمية العامل النفسي في مواجهة المرض .

ومن أسباب الشفاء على ما يبدو خارج الأسر هو العلاج الطبي السليم الذي يتلقاه الأسير المحرر بخلاف العلاج الشكلي الذي نتجرعه كالسم في الأسر؛ فسياسة العلاج الطبي في السجون كما هو معروف مبنية على أساس الاهمال المتعمد وأيضاً على أساس منع الموت؛ فالعلاج لدينا يبقي الاسير في الخط الفاصل تماماً في منتصف الطريق بين الحياة والموت بمعنى احتجازه حياً وكفى في المكان المخصص لاستمرار المعاناة وتفاقم الأوجاع وبنفس الوقت الحرمان من الموت. يزعجها إدارة مصلحة السجون مشهد أسير ميت أمام وسائل الاعلام ولا يزعجها البتة أنينه وصراخه وألمه المستمر. وإذا كان الأسير محظوظاً أو مغلوباً على أمره سيخضع لعلاج تجريبي جديد ضمن بحث تجريه احدى شركات الدواء المتعاقدة سراً مع إدارة مصلحة السجون التي توفر لها عينة من فئران التجارب من الأسرى السياسيين في نطاق صفقة ربحية معينة. وفي أكثر من مره يستبدل الدواء الذي يتلقاه الأسير بدواءٍ آخرٍ ثم آخر ثم آخر ثم يعود إلى الدواء الأول دون إبداء أسباب لذلك، والشوائب لدينا كثيرة عن عقاقير جديدة سمع عنها الأطباء في الخارج لأول مره فيما يتسنى لنا استشارتهم .

لا نطلق الاتهامات جزافاً حين ندعي أننا فئران تجارب؛ فحتى مطلع الثمانينات كان بعض الوحدات في جنود الاحتلال أنفسهم حقول تجارب لشركات تصنيع الأدوية المتعاقدة مع الجيش الصهيوني، وقد كشفت الصحف العبرية فضائح كثيرة بهذا الخصوص، وهذا ليس بغريب عن منظومة استعمارية استيطانية خالية من القيم ومجردة من الأخلاق الإنسانية . وها قد تم استبدال الجنود ( الشرقيين في غالبهم ) بالأسرى السياسيين الفلسطينيين لندخل مختبراتهم عنوةً لأننا لا نملك خياراً آخراً أصلاً . فليس لدينا سوى عيادة واحدة وطبيب واحد أو بالأحرى نصف طبيب؛ فالنصف الآخر سجان برتبة رائد  فهو ذات الشخص الذي يحمل الهراوة تحت الروب الأبيض عند أي قمعه تمر علينا . فمرة تراه حامل حقنة طبية وجهاز فحص الضغط، ومرة أخرى هراوة غليظة وجرة غاز .

ومن الجدير ذكره أن مصلحة السجون الصهيونية تستخدم " أطباء " لم يتم استيعابهم لقلة الكفاءة وأسباب أخرى في نقابة الاطباء الصهيونية، فهم بمثابة بطالة مقنعة  في المجتمع مما يسمح لمصلحة السجون استخدامهم  وفق لشروط المهنة كسجان وليس طبيب، أو وفقاً لقسم الولاء القومي بدل الطب الانساني.

ختاماً نقول أن تحط السنين الذي عاشه صالح وهو ليس حاله استثنائية أبداً في ارشيف معاناة الحركة الوطنية الأسيرة جعل استقباله لهذا القليل من رذاذ الحياه يبدو كأنه طوفان أعاد الخضرة لصحراء عمره وصنع نصف حريته ونصف معجزته .