نادر صدقة من أبرز قيادات الجبهة الشعبية وهو من سامري.

اسرائيليات/ عن الصهيونية الجديدة

نادر صدقة 2
المصدر / ​خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

​لقد كانت حرب أكتوبر عام 1973 بمثابة الصدمة للمجتمع الصهيوني بكل مكوناته الاجتماعية والثقافية والسياسي, فأحداث هذه الحرب وما حملته من تهديد للوجود الصهيوني كشفت للمجتمع مدى هشاشة الصرح الذي دأبت المؤسسة الصهيونية على تشيده على أساسات من الكذب والتضليل والغرور والاستكبار وهو ما ساهم في تدعيمه النجاح السريع و الخاطف للكيان وخصوصاً على المستوى العسكري والتي ركزت فيها السرية الرسمية الصهيونية على قدرة الكيان على تحويل وضعه من حالة الاستهداف والاستضعاف إلى حالة الثقة والهيمنة والفوز الإقليمي الواسع, هذا النجاح وفر للمؤسسة الرسمية الصهيونية طاعة عمياء وضمن لها غياب أي حس نقدي اجتماعي كان أم سياسي, وقد مثلت حرب الأيام الستة عام 1967 بما حملته من نشوة انتصار وجنون التفوق والاختيار قمة هذا الصرح الذي تربعت عليها المؤسسة الرسمية الصهيونية بكل طمأنينة ووداعة فمنذ الذي سيجرؤ على انتقاد أدائها مادامت هذه نتائجها, إلا أن حرب أكتوبر أعادت المجتمع إلى ارض الواقع وكشفت للمجتمع الصهيوني العديد من حقائق الواقع كما هي, وهو ما ساهم في تصدع الرواية الرسمية, وفتحت صندوق فندوره في المجتمع, وبدأت التباينات الاجتماعية والثقافية والسياسية بالكشف عن رأسها, ومن أبرز هذه التباينات ما اصطلح على تسميته في الثقافة الصهيونية بالعفريت الطائفي , حيث هيمنت طائفة يهود شرق أوروبا "الاشكناز" على مقاليد السلطة والثروة في المجتمع الصهيوني طوال أربعة عقود على حساب الطوائف اليهودية الأخرى كطائفة اليهود الأسبان يهود شمال إفريقيا " السفارديم" واليهود العرب من الذين هاجروا من دول المشرق العربي –المزراحيم- الذين عانوا من التهميش الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هذه الطوائف التي خضعت للسردية الرسمية الصهيونية كظمت غيظها طوال هذه السنوات لكون التيار السائد قادر على تبرير سيادته وهيمنته, إلا أن سنوات السبعين من القرن الماضي وتحديداً حرب أكتوبر وما تلاها كشفت لهؤلاء أن الاشكناز هم بشراً مثلهم يخطئون ويفسدون وقد تؤدي حماقاتهم إلى نتائج وخيمة جداً لذلك فمن الممكن انتقادهم والخروج عليهم وتجدر الإشارة هنا أن المجتمع الصهيوني احتوى دائماً على معارضة سياسية إنما استطاعت المؤسسة الرسمية احتوائها طالما لم تستطع تلك المعارضة الحشد جماهيرياً, إنما وبعد هذا الانقلاب في المفاهيم الذي شهده عقد السبعينات من القرن الماضي استطاعت المعارضة اليمينية اجتذاب الشارع ومدته بما يحتاجه من الشعارات الشعبوية التي تطلبتها حالة الغبن والتهميش التي عانت منها معظم مكوناته ومنذ العام 1979 يشهد الكيان حالة من الـلا استقرار السياسي تطول أحياناً أو تقصر, إنما وفي جميع الأحوال فإن عقد الهيمنة على السلطة لعقود قد ولى إلى غير رجعة.

هذا الاستهلال الذي بدأت به هذه الموضوعة السياسية عن الصهيونية الجديدة في المجتمع الصهيوني يحمل في سطوره بذورها الأولى فالتناقضات و التباينات التي مر بها هذا المجتمع اشتملت على تجليات أخرى كان لها آثارها ونتائجها على مجمل المكون الصهيوني من جهة وعلى السردية الرسمية بشكل خاص من جهة أخرى, فالسردية الرسمية التي تصدعت على المستوى الشعبي فتحت باباً على إمكانية نقد ما قدمته الرواية الرسمية في تفسير الواقع والتاريخ, وبالضرورة أن يكون من يتصدى لهذه المهمة مختص قادر على الوصول إلى الوثائق والأرشيفات الرسمية ومقارنتها وتحليلها ومع انتهاء عقد السبعينات وبداية العقد الذي يليه وتحديداً مع الغزو الصهيوني للبنان وما شمله من جرائم وفظائع عجزت اللغة الرسمية المعتادة عن تبريرها وأثارت الكثير من علامات الاستفهام لدى المستوى الأكاديمي والإعلامي صاحب التوجهات الليبرالية والذي كان بحكم الخارج عن الرواية الرسمية "وليس بالضرورة عليها", منذ أن تصدعت هذه الرواية للمرة الأولى استمر هذا التيار بالنمو والاتساع في أوساطه التقليدية إنما ببطء إلى أن جاءت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى عام 1987 حيث ساهمت صور المقاومة الشعبية وطريقة القمع الهمجية في دحض آخر حصون رواية التهديد الوجودي وطهارة السلاح وأسطورة الأخلاقية العالية في الجيش الصهيوني وهنا تجدر الإشارة على أن من تمرد على هذه السردية لم يكن المجتمع الصهيوني وإنما شريحة محددة من الأكاديميين والمثقفين الذين رفضوا بساطة وسذاجة التصورات التي يحملها المجتمع الصهيوني عن نفسه وحاولوا تقديم رواية مناهضة ومناقضة لتلك الرسمية وبناءً على روايتهم فإن المشروع الصهيوني ليس سوى مشروع كولونيالي امبريالي التقت مصالحه وأهدافه بالطموحات القومية لليهود وأن الحركة الصهيونية هي الأداة التي تمثلت هذه المصالح وجيرت تلك الطموحات لخدمة مشروع واحد, وإنها في طريقها قامت بما تقوم به كل الحركات الاستعمارية المشابهة بل وبشكل أكثر حدة وعنفاً, قتل وتدمير وتطهير وتهجير في هذه الأرض التي كانت مأهولة بشعب له حضارته وثقافته وتاريخه وتراثه.

كما أن هذا التيار قد نقد كل الرواية التاريخية الصهيونية عن شتات العذاب ووطن الخلاص وقدم رؤية منطقية تفسر ما حصل على أنه مشروع احتلالي إجلائي قامت به الحركة الصهيونية بدعم من القوى الغربية الامبريالية كما فند كل مدعمات صورة الضحية الأزلية للشعب اليهودي ودرس باستفاضة كل الأداء الصهيوني عبر سنين الكيان وكشف عن الكثير من الجرائم والمغالطات والمؤامرات بشكل ينسف خلاله الرواية الرسمية الكلاسيكية من أساسها.

ولأن هذا التيار أتى من الداخل ولأن رواده يهوداً إسرائيليون تم تلقينهم وتسميمهم بذات المحتوى الذي لقن فيه المجتمع الذين كانوا أعضاءً فاعلين فيه, وخرجوا عن الخط السائد ليقدموا رواية جديدة تختلف عن سابقتها ليس بالمحتوى وحسب وإنما لكونها مدعمة بالوثائق والحقائق العلمية والتاريخية ولأنهم كانوا كمن خرج من كهف الظلال وعادوا ليضعوا أمام ساكنيه مرآة تكشف لهم صورتهم الحقيقة المختلفة عما ألفوه من ظلالٍ خادعة, فإن المؤسسة الصهيونية رأت فيهم تهديداُ وجودياً لا بد من محاصرته ولفظه نهائياً, وقدمتهم للمجتمع و العالم بأنهم حفنة من اليهود الذين يكرهون ذواتهم, ويحالفون أعداء السامية للقضاء على الحلم الصهيوني وقمعتهم وكممت أفواههم وحاصرت رواياتهم وكتبهم, وكأنها بذلك لم تفعل سوى أن أججت نار الظلال في ذلك الكهف فتضخمت الظلال أمام ساكنيه وحاصرتهم من كل الجوانب.

وفي سعيها لمحاربة التيار النقدي فأقمت المؤسسة الرسمية من تهويل الصورة الكلاسيكية وشكلت كذلك نسخة جديدة قومية عرقية وغوغائية من الصهيونية تسقط وتخون كل القيم الأخرى في المجتمع, نسخة مفارقة للتاريخ جاءت كنتيجة للدمج الفاشي بين هذيان الإرث التوراتي وجنون القومية الحديثة, أورثا معاً لأعضاء المجتمع تصورات عن الذات لا يمكن السيطرة على عواقبها, فالشعارات الشعبوية والديماغوجية التي رفعتها أحزاب وحكومات الصهيونية المتدينة منذ انقلاب 1979 في محاولة منها لإرضاء الجموع الغاضبة على سنين تهميشها, واستمالة واستدامة ولائهم ركزت في جلها بشكل تكتيكي على الذات القومية والتهديد الوجودي شبح الإبادة, وإعادة تلقيم المجتمع بذات الوجبات القديمة إنما بعد أن أضافت إليها نكهتها الخاصة, إلى أن أصبحت التوجهات العامة لجميع الطيف السياسي الصهيوني تعبر في مجملها عن تيار ديني متطرف يعمل تحت ستار رسمي من الديمقراطية والليبرالية وصار من الصعب تميز ما يفرق الأحزاب السياسية الصهيونية لا في المظهر ولا في الجوهر, فدولة الكيان الصهيوني اليوم هي مزيجاً من القومية المتطرفة والأرثوذكسية المتطرفة والرأسمالية المتطرفة والعنصرية المتطرفة.

وهذا التطرف ممثلاً بالتيار الصهيوني الجديد والذي يقدم نفسه بشكل مختلف عما فعلت الصهيونية العمالية او تلك الليبرالية فهو يسيطر على المجتمع بآرائه وتصوراته وتفسيراته للواقع بشكل يجعل من الصعب على أي جسم سياسي صهيوني أن يحصل على القبول إذا ما خرج على هذه التصورات أو عنها, وقد تشكل هذا التوجه الجديد حسب ما حدده ابرز أعلام التيار النقدي سابق الذكر وهو المؤرخ إيلان بابيه في أربع عمليات متوازية كالتالي:

  1. تعزيز حالة التطرف لدى المجموعات القومية المتدينة في الكيان, وتتم هذه العملية في معاقل هذه المجموعات أي المستوطنات والمدارس الدينية, وأكثر من يمثل هؤلاء على المستوى السياسي هو حزب البيت اليهودي.
  2. العمل على صهينة اليهود المتشددين ودمجهم ضمن التوجه الجديد في حين كانوا إلى وقتٍ قريب ينحون منحاً سلبيا من الصهيونية ومشروعها بوصفها حركة علمانية معادية للدين وهم الحريديم أو الأتقياء وتمثلهم جملة من الأحزاب السياسية أبرزها حزب يهودية التوراة.
  3. اللعب على وتر التهميش والتميز الذي يتعرض له يهود السفارديم والمزراحيم في المجتمع الصهيوني, والتركيز على تهويد المجتمع ونبذ كل ما هو غير يهودي أو غير متدين, ويتمثل هذا التيار بشكل رئيسي بحزب شاس.
  4. الإسراع في دمج الكيان الصهيوني في تيار العولمة الرأسمالية على طريقة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة, وهو أكثر ما جذب فئة المهاجرين الروس تحديداً, وأكثر ما يمثلهم هو حزب إسرائيل بيتنا القومي المتطرف.

هذه التوليفة من التطرف القومي الديني أو العلماني مع التطرف الديني وجموع المهمشين اجتماعياً, تشكل اليوم تياراً سياسياً يمينياً ذو ثقل في الكيان الصهيوني يعرف بالصهيونية الجديدة, ويسيطر على الحكومة الصهيونية بشكل مطلق, ويعمل على تحيد أي توجه نقدي وتعزيز ودعم نمو تيارات وحركات اجتماعية وسياسية تحث على الطهورية العرقية كتيار لاهافا "الشعلة", أو تلك التي تحث على محاربة الأصوات النقدية وتجريمها كتيار امترتسو "إذا أردتم" والذي يعمل على شيطة مؤسسات التيارات النقدية والمؤسسات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني التي تتابع وتوثق وتناهض جرائم جيش الاحتلال الصهيوني في الأراضي الفلسطينية, وغيرها الكثير من الحركات والتيارات والأحزاب التي تتملق بالهوس الدائر في المجتمع عبر مزيد من الشعارات والممارسات الأكثر هوساً وتطرفاً.

إن أكثر ما يلفت النظر في الصهيونية الجديدة هو أولاً خطابها وثانياً طموحها وأخيراً فاعليتها وفعاليتها في الوصول إلى مراكز التأثير الأكثر خطورة في المجتمع الصهيوني سعياً للأخذ بحلقة أنفه.

أما بالنسبة للخطاب فالدفاع عن الوجود القومي اليهودي ضد كل ما يمكن أن يشكل تهديداً, وعلى هذا النحو فالممارسات الإجرامية لمؤسسات الكيان هي ممارسات شرعية وتغليفها بستار من الأكاذيب والبروباغندا الإعلامية وتقديم الكيان على أنه دولة القانون وواحة الديمقراطية كدأب السردية الكلاسيكية الصهيونية لا يعنيهم في شيء, فهذا التيار وبأثر رجعي  يعمل على تأكيد هذه الجرائم, وضمن التأكيد على أهميتها وحيويتها للحفاظ على المشروع.

ربما من المفيد التنويه هنا إلى ما قام به التيار النقدي من فضح وتكذيب لكل الرواية الكلاسيكية الصهيونية السابقة, وإدراج جرائم وانتهاكات واعتداءات الكيان حال دون إمكانية العودة إلى الروايات السابقة, وبالتالي فان الخطاب الصهيوني الجديد تمحور حول شعار (نعم فعلنا ونفعل وسنفعل كل ما يلزم لحماية وجودنا) فالمفاهيم الإنسانية تعتبر بنظرهم تجملاً فارغاً والممارسات الإجرامية التي كان الكيان في الماضي يحاول إخفاؤها أو تبريرها أصبح اليوم عملاً بطولياً, فلا بأس لديهم أن الكيان الصهيوني قام على أكوام الجماجم وتلال خرائب المدن والقرى الفلسطينية المدمرة, وانه كان لا بد من تهجير وتدمير الوجود الفلسطيني ليتسنى للكيان الصهيوني أن يحل محله.

وبما أن هنالك ارتباط وثيق بين الذاكرة الجمعية والتصور الذاتي للأخلاق فان السردية الكلاسيكية الصهيونية حاولت تحريك الذاكرة الجمعية في مجتمعها لكي تستطيع حماية التصور الأخلاقي للصهاينة عن أنفسهم, إنما وبمنطق الصهيونية الجديدة وتصوراتها عن ذاتها فان تلك الجرائم بماضيها وحاضرها ومستقبلها ليست سوى تطبيقا للوحي الحضاري المقدس, والذي ليس للعقل البشري وهذياناته المتعلقة بالحس الإنساني أي قيمة فيه, وعندما تخرج العقلانية القومية عن خط العقلانية الإنسانية في الخطاب والشعار فلا عجب في أي مما ستحمله الممارسة.

أما بالنسبة للطموح, فإقامة كيان قومي يهودي نقي خال من الشوائب (الأغْيار وغير المتدينين) بكل تجلياتهم على كل فلسطين التاريخية بكل ما يتطلبه هذا الطموح من إجراءات الطرد والتهجير كاستكمال ما بدأه الكيان منذ نشوءه بكل ما تحتويه هذه الأرض (المجال الحيوي للطموح) من آخر مختلف بما يشمله ذلك من يهود علمانيين أيضاً فمكانهم ليس هنا, فهم يلوثون الهدف النهائي بأفكارهم وأفعالهم ودورهم التاريخي قد انتهى بالنسبة لهذا التيار الذي يعتبرهم (حمار المشيح), والذي عبر في الثقافة التوراتية بالدابة التي تتلخص مهمتها على حمل  الملك اليهودي إلى وجهته فقط وهم لا يعتذرون عن ذلك ولا قيمة لهم لأي اتفاق أو وثيقة أو مؤسسة كانت وعندما يخرج الطموح عن دائرة الزمان والمكان فان الهلوسات والشطط الذهني يعدو آمالاً شرعياً.

وان كانت الشعارات والطموحات تركد خلف ذيلها في دائرة من الـلاعقلانية والهلوسات الفاشية فان الفاعلية والفعالية واقعيةً صرفة وشأن الصهيونية الجديدة  في ذلك شأن معظم التيارات الفاشية عبر التاريخ, وسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الأساليب التي تنتهجها هذه التيارات في سعيها لبسط نفوذها على دولة الكيان بشكل اخطبوطي في المجالات الأكثر حيوية كالسياسية والعسكرية والتعليمية والقضائية والديموغرافية.

فعلى المستوى السياسي وفي سعيه لفرض إرادته على السياسة الأقل تطرفاً في الكيان, تلعب الصهيونية الجديدة لعبة مزدوجة, فأعضائها في معاقلهم يبغضون حزب اليكود رغم يمينيته المبالغ فيها, فهو بالنسبة إليهم مازال معتدلاً وهنالك إمكانية دائمة بأن يجنح يساراً إذا ما فرضت مصالحه السياسية والاقتصادية الدولية ذلك, لذا فإنهم منتمون نظرياً انتماءً مزدوجاً, ففي موسم التسجيل لعضوية الحزب الأكبر في اليمين (اليكود) يذهبون بجموعهم إلى مراكز هذا الحزب, ويسجلون أسمائهم ضمن قوائم أعضاءه, مما يمنحهم حق التصويت لاختيار قوائمه للكنيست الصهيوني, الأمر الذي يمنح الجناح الأكثر تطرفاً في حزب اليكود ثقلاً إضافيا, وهكذا فأنهم يساهمون مباشرةً في اختيار الأشخاص الأكثر تطرفاً في تلك القوائم, أما في يوم الانتخابات العامة الصهيونية, فإنهم لا يصوتون لحزب اليكود, وإنما يدلون بأصواتهم لصالح أحزابهم الأصلية الأكثر تطرفاً لمنحها ثقلاً وقوة, تحديداً أمام حزب اليكود, وضمان أكبر قدر ممكن من الابتزاز في تشكيل الائتلافات الحكومية وفرض شروطهم واختيار الحقائب التي تعنيهم وبذلك يضمنون قوة مزدوجة, فمن جهة يضمنون في الكنيست يكوداً أكثر تطرفاً ومن جهة أخرى يضمنون عدد أكبر من أعضاء أحزابهم في الكنيست والحكومة ولا داعي للتفصيل في شرح نتائج هذا النهج الفعال, فنحن نعايشهُ يومياً.

أما على الصعيد العسكري, فعلى عكس التيار الديني المتشدد في دولة الكيان, يعتبر التيار القومي المتدين الخدمة العسكرية واجباً مقدساً, لذا فهو يسعى بكل الجهد للخدمة العسكرية في الوحدات الأكثر شعبية وفاعلية, ولأن التربية في هذا التيار تعطي المفهوم العسكري رمزية وقدسية فإن أعضائه لا يدخرون جهداً في الوصول إلى أبرز الوحدات وفي أبرز الرتب القيادية, وبذلك فإن الأجندة العلمانية للمؤسسة العسكرية الصهيونية تواجه تحدياً من خارجها على الصعيد السياسي وذلك بفعل أثرهم على هذا صعيد من الداخل على صعيد العدد والتأثير المتزايد لهم ولأجنداتهم وقيمهم وشعاراتهم وهذا النهج إضافة إلى انه يزيد من عدوانية وهمجية الممارسات العسكرية الصهيونية فهو يضمن لهؤلاء تسرب هذه القيم والشعارات إلى المجتمع من خاصرته الأضعف, ويدخله في دائرة من التغذية المتبادلة للتطرف بين المجتمع من جانب والمؤسسة العسكرية من جانب آخر.

أما على الصعيد التعليمي, فيمكن القول أن المؤسسة التعليمية شكلت هدفاً استراتيجياً للصهيونية الجديدة وهو ومنذ سنوات يسعى إلى استلام دفة القيادة في سفينته, وقد استطاع أن يفرض أجندته وبرامجه ومناهجه في المؤسسات التعليمية  الصهيونية من رياض الأطفال وحتى المراحل ما قبل الجامعية, بحيث تقوم وزارة الثقافة في الكيان بإصدار واعتماد المناهج المتخمة بالأفكار والمبادئ القومية الدينية والتي تحمل الفحوى عن التفوق العرقي والاختيار الإلهي والقدر المتجلي إضافة إلي روايتها عن التاريخ الصهيوني الحديث وتصرفاته الحيوية على غرار على غرار الظلم العادل ومفاهيم الحق الإلهي والشعب الإلهي والمشروع الإلهي وهلم جرة, هذا عدا عن محاصرة أي حس نقدي أو تأثير منطقي داخلي أو خارجي ومحاربته بأشد الأساليب تنظيفاً, فإن كانت الصهيونية الكلاسيكية قد عملت على غسل أدمغة المجتمع في مناهجها فإن المناهج الصهيونية الجديدة قد أعلنت الأدمغة الصهيونية منطقة معقمة من جراثيم الأفكار العلمانية أو تلك الملوثة بمفاهيم المنطق والواقع والحيادية, فليس صدفة أن يختار نفتالي بينيت رئيس حزب البيت اليهودي وزارة الثقافة في الحكومة الصهيونية الجديدة في حين كان بإمكانه أن يحظى بحقائب أكثر أهمية وجاذبية كالدفاع أو الخارجية.

أما على الصعيد القضائي, فوزارة القضاء الصهيونية غمزت للصهيونية الجديدة وتحديداً للتيار القومي المتدين بذات العين التي غمزت لها بها وزارة الثقافة, فمحاربة التوجهات التي مازالت تحاول تقديم صورة الكيان الصهيوني على أنه دولة تحترم استقلالية القضاء وحياديته ونزاهته على الرغم من كل ما تحمله هذه الصورة من مغالطات صار هدفاً لليمين منذ عقود وها هو اليوم يفرض أجنداته فيها من خلال تحجيم التدخلات القضائية في المؤسسة التشريعية المتطرفة في مشاريعها ومقترحاتها حد الهذيان والتخلص من الحاجز القضائي الحائل دون إقرار بعض المشاريع أو تطبيقها إذا ما أُقرت والحديث يدور بشكل رئيسي عن مشاريع قوانين تعمل على إطلاق السلطة التنفيذية في قمع وترحيل وتهجير أو حتى قتل الآخر (العربي) من جهة, ومحاصرة وتدشين والسيطرة على الآخر (العلماني) من جهة أخرى, وترسيخ وتجذير وشرعنه الأجندة القومية الطهورية المقدسة من جهة ثالثة.

 لذلك فإن استبدال الأصوات النافذة في المحاكم الصهيونية بأخرى محسوبة على الصهيونية الجديدة, والتحايل على الروتين القضائي الضروري للبحث والدراسة واستخلاص النتائج بحجة العملية والحسم وفتح جبهة تحريض منظم ضد سلطة المؤسسة القضائية وتصويرها على أنها معادية للديمقراطية وما إلى ذلك من الإجراءات والتوجهات التي تقوم وزارة القضاء الصهيوني بقيادة "آيليت شكد" وحزب البيت اليهودي وأجندته المتطرفة لا تهدف إلى تحيد  المؤسسة القضائية وحسب وإنما تجنيدها في خدمة المشروع المجنون لهذا التيار الفاشي وأجندته المتطرفة.

أما على الصعيد الديموغرافي, فإن الصهيونية الجديدة بمكوناتها الأربعة السابقة الذكر تعطي أولوية أساسية لمسألة التوزيع الديموغرافي, لذا فان ما تقوم به الجماعات الدينية المتطرفة القومية وغير القومية من عملية إعادة انتشار في المدن و التجمعات العلمانية والعربية والمختلطة في العقد الأخير حيث أصبحت نسبة تواجدهم فيها في تزايد مطرد له هدفيه إستراتيجية في برنامج هذه الجماعات من خلال حمل أفكارهم وقيمهم إلى فئات اجتماعية مناهضة واختراقها من الداخل بأساليب ناعمة وخبيثة تارةً أو عنيفة وصريحة تارةً أخرى فهذه التجمعات التي ظلت نسبياً عصية عليهم لسنوات طويلة ستوضع أمام خيار التعايش مع الفكرة بشكل يومي ,الحديث هنا يدور عن المجتمعات العلمانية على قاعدة أن التكرار والمثابرة والحضور المستمر في المشهد لا بد أن يؤدي إلى اختراق, وقد آتت هذه الأساليب أُكلها أكثر من مرة.

 أما المدن والتجمعات العربية المختلطة فإن الهدف يختلف فهنا المراد هو ليس الاختلاط وإنما التغير لذلك فالوسيلة هي تعزيز الصبغة اليهودية المدعومة رسميا بكل السبل المطلوبة وبالتالي التضييق على السكان العرب ودفعهم بالترهيب والترغيب لتغير مكان سكناهم والحيلولة دون السماح لهم بالعيش في مناطق محددة يزداد عددها وسعتها وتوسعها يوماً بعد آخر, إما من خلال الفتاوى الدينية التي تحظر بيع أو تأجير المساكن للعرب وتحرم حتى معاشرتهم أو التعامل معهم أو الاختلاط بهم بأي طريقةٍ كانت, أو من خلال التشريعات القانونية التي تشرع ممارسات شائعة في الكيان الصهيوني تمنع المواطنين العرب فيه من العيش في بعض المناطق التي يرغب نُظرائهم اليهود في أن تبقى خالية من العرب على أساس المُلائمة الاجتماعية أي على أساس الاختلاف في العرق والقومية.

 إن الصهيونية الجديدة وفق ما ورد أعلاه وغيره الكثير مما لم يتم ذكره في هذا المقال هي تيار فاشي تجدر محاربته وفضحه وتعريته من الستار الليبرالي الديمقراطي الذي يعمل الكيان الصهيوني على إخفائه خلفه, والعالم مليء بالآذان الصاغية التي يمكن لها فهم ما يحمله هذا التيار من أفكار تهدد ليس المصير الوجودي الفلسطيني فحسب, وإنما مصير المنطقة بأكملها على كل ما يحمله هذا التهديد من مضامين, فأكبر النار تأتي من أصغر الشرر.