بقلم الأسير/ كميل أبو حنيش

ستي الغالية

ام فلسطين
المصدر / مركزحنظلة للأسرى والمحررين

ستي الحبيبة... أخط لكِ هذه الكلمات وقد شارفت على التعافي من مرض الأنفلونزا الصيفية التي تصر على أن تزورني في حزيران من كل عام كما تذكرين، وهذه المرة تركتني طريح فراشي ثلاثة أيام متتالية، ولم تصدقي لو قلتي لكِ أنكٍ جئتِ إليّ في اليوم الأول، ومن وسط غليان الحمى في العتمة الصامتة برزت ملامح وجهكِ المبتسم كعادته، وبكفيكِ أعدتِ إسدال الغطاء على جسدي، ومسستِ جبيني وعاتبتني بأنني لا أرتدي ملابسي الثقيلة، ولا أتغطى "بالحرام" وبلسان يهذي من شدة الحمى أجبتك " بأنه الصيف يا جدتي" قبل أن تهزي رأسكِ وتغادري، ولم يجد رفاقي في الغرفة في اليوم التالي تفسيراً لإصراري على ارتداء بلوزتي الشتوية، والتمدد تحت غطائي ونحن في أجواء الصيف الحارة، فكيف لهم أن يفهموا سر علاقتي بكِ، وطاعتي لكل وصاياكِ، وقبل هذه الحادثة بأسابيع أصبت بلفحة هواء جعلتني طريح فراشي لأيام، وكاد ظهري يتمزق ألماً ولم تنجح كافة الوصفات التي أجراها لي الرفاق في فكفكة الألم وإحداها وصفة التدليك بزيت الزيتون الحار، ما أعاد لي ذاكرتي وأنتِ تدلكين آلام ظهري بهذه الوصفة وتصرين على ارتدائي ملابسي الثقيلة.

أعود يا حبيبتي إلى تلك الأيام البعيدة ومنذ أن كنت طفلاً وحتى سن الشباب اعتدت عليكِ وأنتِ تأتينني كل ليلة، وكنت أستيقظ متذمراً وأنتِ تصرين على إلباسي الملابس الثقيلة، وتعيدين الغطاء على جسدي رغم حرارة الصيف القاتلة. وفي الصباح أستيقظ على صوتكِ الذي يحثني على النهوض إلى مدرستي أو جامعتي بينما رائحة الشاي المطعّم بالزعتر الجبلي تنبعث بأنفي وتيقظ كل حواسي.

كم أفتقد لشايكِ يا غاليتي؛ فأنا منذ أكثر من ستة عشر عاماً لم أذق الشاي إلا دماءً؛ فالشاي هنا ينقصه نكهة يديكِ، لا تقلقلي لدينا هنا كل أنواع الشاي، وتصوري أنهم يعدون الشاي بعملية مفككة، الماء، السكر، كيس الشاي، النعناع، ولكن أعدكِ أنني لن أشرب الشاي إلا من تحت يديكِ، اجمعي المزيد من الزعتر الجبلي ريثما أعود، وتعود إلينا تلك السعادة الغائبة. وعليكِ أن تطمئني فما زلت أحفظ وصاياكِ عن ظهر قلب، وسأظل أتغطى في النوم، وأحاذر البرد لأنه سبب كل علةٍ كما كنتِ تقولين، وكم كانت سعادتي كبيرة حين تلقيت هديتكِ الثمينة قبل أكثر من عشرة أعوام، ذلك " الحرام" الدافئ والكبير، والذي لم أبدّله طوال تلك السنين، وحرصت أن يظل هو ذاته غطائي حتى آخر رحلتي في الأسر.

أفتقدكِ يا غالية في كل وقت، واحتاجكِ في كل حين، مضت سنوات ولم تبخريني، ولقد كنت في طفولتي وشبابي أضحك كلما جئتِ إلىّ أثناء المرض أو الاكتئاب أو الامتحانات، وكنتِ تضعين في كفي الضئيل الملح، ثم تبدئين بطقوسكِ، وتعويذاتكِ، وتلك التمتمات التي لا زلت أجهلها، وفي كل مرة كان ينجح مفعول العملية، فتعالي يا حبيبتي عبئي كفيكِ بالملح، وتعالي في حلمي لتبخريني، فلقد باتت كل شياطين العالم تتقافز في رأسي ومن حولي.

يا جدتي أتتذكرين فجر الأول من عام 2000 عندما جاءوا لاعتقالي مدججين بأسلحتهم وكلابهم ووحداتهم الخاصة، ولم يعثروا إليّ على اثر يومها، ثم جاءتني أمي بعد بضعة أيام لتزورني في نابلس، يومها قالت لي معاتبة " ما الذي تخبئه لدى جدتك؟، كادت الكلاب البوليسية أن تفترسها قبل أن تصرخ بهم وبكلابهم؟ بعد أن غادروا قالت لنا أنها تحتفظ لك بأمانة كانت تخبأها في صدرها". وتملكتني الحيرة والدهشة يومها " ماذا تخبئ هذه الجدة؟! وعن أي أمانة تتحدث؟". وحين أصرت أنها لن تسلم الهدية إلا يداً بيد طلبت منهم أن يحضروها لزيارتي في نابلس، وبعد لقاءنا وعناقنا الدافئ وضعت يديها في صدرها، وأخرجت ذلك المظروف الأحمر، وعندها شهقت بدهشة، في حين راحت أصابعي تفك ذلك المظروف ليخرج عبق وطيف الانتفاضة الأولى، بضعة أوراق شفافة مكتوبة بخط رفيع، تتعلق بمعلومات عن العملاء والجواسيس، وعدسة مكبرة بهدف قراءة الخط، وثلاثة رصاصات عيار 9مم، تلك كانت الأمانة التي احتفظتِ بها طوال أكثر من عشر سنوات، وكنت قد نسيتها، أما أنتِ فبقيتِ وفية لتلك الأزمنة وذلك الواجب، فتعين عليّ أن أذكرك بما رويتي لنا ذات يوم عن أحداث ثروة 36، وقد كنتِ حينها طفلة صغيرة حين داهمكم في القرية الانجليز وكان أن صادف وجودهم سلسلة من الفشك في بيت أهلك يسمونها " السلحلب" ولم يجد أهلك من يغامرون به سواكِ عندما لفوا "السلحلب" حول جسدك الصغير، وألبسوكِ عدة أثواب فوقها، وبقيتِ لساعات تحافظين على رباطة جأشك، وحينما غادروا شعرتِ أنكِ قد انتصرتِ في المعركة، يومها كان قدرك أن تعاقبي كل الاحتلالات، والمآسي، والنكبات، والنكسات، والسجون، وتتذوقين كل أصناف المعاناة.

آه يا عزيزتي الحنونة مضت سنوات طويلة على هذا الغياب، ولا أدري كيف أصف لكِ ذلك الوحش الذي يسمونه السجن المؤبد، إنه وحش خرافي مرعب، وأنا عالق بين أنيابه وأتشبث وأقاومه بكل لحظة، وأتسلح بأمل هو طاقتي الوحيدة في المقاومة، وإلا فإنه سيبتلعني ولن يكون مصيري سوى الاستقرار في أعماقه المظلمة، وقبل أن تقولِ حزناً على حالي من خلال عبارتكِ المعروفة " موتوا بعزة وكرامة"، وقبل أن تسقط دموعكِ يا غالية عليكِ أن تؤمني أنني تغلبت على السجن، وتصالحت مع جدرانه وأبوابه الموصدة، لا أقول أنني سعيد، ولكنني متصالح مع نفسي، ولقد أنجزت ستة كتب حتى الآن، وسوف أواصل إنجاز المزيد، ولدينا جامعة في السجن، أنشأناها رغماً عن أنف السجانين، وأنا أستاذ فيها، ولدينا دكانة كبيرة نسميها " كانتينة"، لدينا مدفأة وتلفاز وثلاجة، والطعام لدينا متوفر بكميات كافية، وأرى الشمس كل يوم في ساحة نسميها " الفورة"، ولكنني أشتاق أن أرى قرص الشمس الدائري، فأنا منذ سنوات لم أرى إلا مربعاً من بين مربعات سقف الفورة، أما عن الإضرابات عن الطعام فلا تقلقي فإنها أشبه بالنزهة، وتخسيس الوزن، وعليكِ أن تثقي بأنه لن يصيبني أي مكروه، شاهدتكِ قبل فترة على التلفاز أثناء إحدى الحلقات المسجلة، وأصغيت باهتمام لكل كلمة تحدثتِ بها، وكان قلبي يتراقص فرحاً، وأضحك من الأعماق، كنتِ تتحدثين بعفوية، ودون ارتباك، وكنتِ تروين عني وعنكِ وعن الدنيا، وكأن الزمن الماضي مجرد سويعات فقط، ورويتي كيف هزمتي جنود الاحتلال حينما جاءوا لنسف البيت، وقررتِ أن تظهري أمامهم الفرح واللامبالاة، ومع انطلاق انفجارات نسف البيت أطلقتِ زغاريدكِ التي أربكتهم، وعجزوا عن فهم لغة التحدي فيها، كيف لمثلهم أن يفهموا سر صمودنا وإصرارنا على البقاء ونحن نحتسب الشهداء، وقد تحوّلت جنازاتهم إلى فرح، وتحوّلت النكبات والمآسي والعذابات إلى حكايات تعلمنا سر البقاء على هذه الأرض، ونحن نقارع جيلاً بعد آخر ومنذ فجر التاريخ ذلك السيل الطويل من الاحتلالات، نكفكف الدموع، ونضمد الجراح، ونواصل رحلتنا في الحياة، أما أنتِ فقد خبرتي أكثر من فاجعة، وعاصرتي كل تلك النكبات والمآسي، وربما كانت فجيعتكِ وفجيعتنا جميعاً في استشهاد سامح هي الأكثر وقعاً على نفسكِ، كان سامح هو حفيدكِ الأجمل والأحب إلى قلبكِ، ولكنه سقط في ميادين الشرف والكبرياء، وفادي، هل تذكرين فادي؟ ذلك الشاب الذي اعتاد أن يأتي إلى بيتنا في كل يوم، ولكنه سقط هو الآخر في الميدان، ليورث في قلبي جرحاً لم يندمل بعد، أما منذر فهو معي في الأسر كما تعلمين، وقد تساقطت نصف أسنانه، أما أنا فقد تساقط شعري، ومعي حكمت في الغرفة، وثائر أيضاً الذي أسمعكِ القصيدة، وفي كل يوم نستحضر سيرتكِ وحكاياتكِ.

آه يا حبيبتي اشتاق لكِ شوق الأرض الجائعة لمطر الشتاء... آه على مطر الشتاء الذي أعشقه بجنون، منذ سنوات لم يتساقط المطر فوق رأسي؛ فمطر السجن ليس له طعم، ولا نكهة، ولا رائحة... أحن إلى رائحة الأرض بعد الشتوة الأولى، وأتمنى لو تلوثت ثيابي بالتراب، واشتاق لرؤية الربيع في بروزه الأول، وبيت النمل، والعصافير، وزهور النرجس، هل تذكرين عندما تحدث إليكِ ذات يوم، قد أحضرت لكِ بضعة زهور من النرجس الجبلي، وقلتِ لي يومها " في المرة القادمة اقتلع بوصيلات النرجس كي نزرعها في ساحة البيت"، وهذا ما كان بعد أيام زرعناها سوياً، ومع كل شتاء كانت تتكاثر البوصيلات إلى أن غدى في البيت حوضاً من النرجس صار يكبر في كل عام، وكما كنت أعشق رائحتها اثناء تساقط حبات المطر، هل ما زلتِ تتابعين أخبار السياسة؟ أم أنكِ يأستِ؟ منكِ تعلمت كل شيء، منكِ عرفت عن ثورة 36، وعن النكبة، والنكسة، والأعور ديان، وبيغن، وأتذكركِ في سنوات التسعينيات وأنتِ تتابعين بقلقِ فوز " نتنياهو" وكنت تقولين عنه " الياهو"، وتؤيدين فوز " باراك" وتقولين عنه " برك" وإذ بك تحدسين ما كانت  تخبئه الأيام، ولا أدري إن كنتِ ما زلتِ تقولين عن التلفزيون " فلزيون" والنيون " لوليو"؟، وما هي أخبار ساعة المنبه خضراء اللون، ألا زلت تحتفظين بها، وتفاخرين بها أنها لكِ وحدكِ وأنك الوحيدة من بين العجائز التي تعرفين بأوقات الساعة؟.

آه يا جدتي، أشكو إليكِ هذه الجدران العالية من حولي، وأنا الذي لم تكن الجبال النائية والسهول الواسعة تتسع لأقدامي، أشكو لكِ هذه الأبواب الموصدة ألوانها زرقاء قاتمة يا جدتي لتظل تنطق بالوجع والاكتئاب، ولكن اطمئني يا جدتي؛ فالسجن مهما بلغت قسوته يظل محطة اختبار، ولن أقول لكِ كما اعتاد الناس أن يرددوا " السجن للرجال"، بل هو محك اختبار لمعادن البشر، إنه أشبه بالفرن الحار الذي لم يصمد به سوى معدن الذهب؛ فليس كل الرجال لديهم قدرات من احتمال الأسر، وثمة نساء يدخلنه ويخرجن منه برؤوس مرفوعة، وعزيمة لا يعرفها الرجال؛ فالسجن يا جدتي هو لأولئك الطراز من البشر الذين يتذوقون طعم الحرية، ويأبون أن يعيشوا في اغلال العبودية، ويظلون أوفياء لقناعاتهم حتى الرمق الأخير، ومع ذلك أعرف أنه قد طال الغياب هذه المرة، فكل اعتقالاتي السابقة كنت أعود إليكِ سريعاً هل تذكرين؟ كل اعتقالاتي كانت في يوم الثلاثاء، وكنتِ تعدين لي الأيام، ولم تكن تتجاوز الشهر أو الشهرين وأعود إليكِ سريعاً، وفي هذه المرة يا غاليتي أيضاً كان اعتقالي يوم ثلاثاء، فكم أحصيتِ من الأيام حتى الآن؟ أم أنكِ مللتِ من الحساب؟، أتراكِ تعبتِ من الانتظار وأنتِ من أمضيتِ جل عمرك في انتظار ما يأتي، وانتظار أن تكثر أشجار الزيتون والبرتقال، وانتظار مواسم الحصاد والقطاف، وتعاقب الفصول، انتظار أن يكبر الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد، في انتظار أن يتحرر من في الأسر، وأن يعود الغائبون.

كما وعدتكِ يا جدتي فحين أتحرر سأحملكِ، وأصعد بكِ على سطح البيت، ونتأمل القمر والنجوم، وأغفو على صدركِ وأنتِ تقصين عليّ حكاياتك القديمة... آه يا جدتي، في كل مرة أسأل والدتي عنكِ عن سبب عدم زيارتك لي، تقول لي " أن جدتك تنال تصريح الزيارة، ولكنها لا تأتِ لأنها تخشى ركوب الباصات"، ولكنني كنت ابتسم فأنا أعرف أنها تشتاق لي بجنون، وليس الخوف من ركوب الباصات، ولا يوجد ما يمنعها من الزيارة، فوحدنا أنا وهي نعرف سر هذا الامتناع، أعرف أنها لا تحتمل رؤيتي من خلف زجاج الزيارة، فعندها من المؤكد أنها ستثور وقد تحطم الزجاج، وتتصادم مع  السجانين.

آه يا جدتي، لهذا ربطتي لقاءنا بالقدر، إنه سر إيمانكِ وطمأنينتكِ بأن لنا لقاء آخر تحت الشمس، وها قد جاء رمضان آخر وأنا أفتقدكِ، فكل عام وأنتِ بخير، وإنشاء الله يكون لقاءنا في رمضان القادم. لن يكون بمقدوري الآن أن أقبّل جبينكِ ويديكِ، ولكنني سأطيّر هذه الكلمات من بين جنبات السجن لكي أهديكِ أجمل باقات المحبة والأمنيات بدوام الصحة والعافية، ومن المؤكد أنكِ سترهقين نداء وتجعلينها تعيد قراءتها عليكِ مراراً، خبئي لي الحاجات الصغيرة من سكاكر وحلويات كما كنتِ تفعلين في طفولتي، فطعمها لا زال عالق في نفسي، حين كنت آتيكِ لتضعي في كفي الصغير بعضاً منها، ولا تنسي أن تجففي المزيد من الزعتر الجبلي وأعود لشرب الشاي معكِ، ولكِ أن تطمأني فلن أخبئ لديكِ أية ممنوعات؛ فعندما أعود سيكون الزمن قد تغير، وقد زال الاحتلال عن أرضنا وتحررنا من سطوة الاغراب الغادرين، وماذا بعد يا غاليتي؟ لن أطيل عليكِ، وأحسب أنني بعد أن كتبت لكِ هذه السطور قد تعافيت تماماً من مرضي، وأعدكِ أن أظل أحفظ وصاياكِ وأن أتغطى ليلاً مهما كان الجو حاراً، وأن أبقى قوياً وصلباً مهما تعاظمت المعاناة، واصلي الدعاء لي في صلاتكِ، وواصلي الحلم فلن يمرض الحلم، انتظريني أسفل شجرة الترياق في بيتنا الجديد حيث رأيتكِ في احدى الصور كأنك في حالة انتظار، انتظريني ريثما أعود فلقد سقط الكثير من المطر، وكبر الأولاد الصغار، وكبر الغياب، فربما أخرج منه ذات يوم وأتسلل من وسط شجر الزيتون وأقف أمامك كأنني لم أغب إلا سويعات قليلة من عمر هذا الزمن الطويل، وإلى أن يأتي هذا اليوم، وألتقيكِ تحت الشمس، وإلى أن تنكسر القيود وتفتح الأبواب الموصدة، وإلى أن يأتي رمضان آخر، وإلى أن يولد طفل جديد من أحفاد أحفادكِ، وإلى أن تعود البلاد.. لكِ مني أجمل باقات المحبة والاشتياق، ودمتِ لنا شجرة ياسمين تظللنا وتعبق بأريجها من حولنا، ومنحك الله الصحة والعافية والسعادة.

حبيبك كميل