بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

قراءة أولية في التَحولّات "الإسرائيلية" الحلقة الخامسة

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة الخامسة: نظام السلطة الواحدة

تنزع قوى وأحزاب اليمين في أيِ نظامٍ سياسي نحو المحافظة والشمولية والشعبوية، والرغبة الجامحة للإمساك بالسلطة بصورةٍ دائمة، وتحاول تجميل شعاراتها وخطابها ببعضِ الديباجات الديمقراطية الشكلية، فيما هي فعليًا تُعتبر معاديةً للديمقراطية وقيمها، ولا تعترف في الواقع بمبدأ المساواة ولا بتداول السلطة، أو الفصل بين السلطات، وهي بحكمِ طبيعتها تنطوي على الشوفينية والعنصرية والنزعات القومية المتشددة.

ونجد القوى اليمينية في مختلفِ بلدان العالم، تُشكّل امتدادًا للقوى التاريخية المنُدثرة التي فقدت مكانتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي هيمنتها على الدولة والمجتمع، كالعائلات الاقطاعية، وفي ذات الوقت تُعتبر القوى والحركات اليمينية انعكاساً للطبقات السائدة في المجتمع، والمحكومة لمصالحها الطبقية الضيقة.

ولا تختلف القوى والأحزاب اليمينية في "إسرائيل"، عن سائر الحركات اليمينية في العالم، بل نجد نزعاتها اليمينية تظهر مستوىً أكثر تطرفًا، وذلك ارتباطًا بمرجعيتها اليهودية التوراتية، وما تنطوي عليه هذه المرجعية من أفكارٍ رجعيةٍ وعنصريةٍ وغيبية، (كفكرة الشعب المختار)، والنظرة الفوقية تجاه الشعوب والمكونات الأخرى بوصفهم أغيارًا، وتقديس "الشعب اليهودي" وتاريخه، والنظرة الضيقة للتاريخ الإنساني، بوصفه إما تاريخًا حضاريًا ساهم فيه اليهود مساهمةً مميزةً وفريدةً، وإما تاريخيًا دمويًا شاهدًا على المأساة اليهودية في مختلفِ العصور والمراحل التاريخية وكان آخرها حادثة "الهولوكوست" التي اعُتبرت "ذروة المأساة اليهودية".

ومن ناحيةٍ ثانية، تتميز الأحزاب اليمينية الصهيونية عن غيرها من الحركات اليمينية في العالم، في أنها وليدة لمجتمع استيطاني إحلالي عنصري ومُدجج بأيديولوجيا أسطورية، فإلى جانب أنه مُتشّبع بالفكر الاستعماري - الاستشراقي الأوروبي فنجده أيضاً يعيش على أوهام التاريخ، التي تفترض أن الدولة الصهيونية الحالية، هي امتداد للممالك "الإسرائيلية" المزعومة قبل حوالي ثلاثة آلاف عام.

كان اليمين "الإسرائيلي" تاريخيًا، بتياراته المختلفة الدينية والقومية والليبرالية، متصادمًا مع مؤسسات "الدولة"، لا سيما مؤسسة القضاء، إلى حدٍ ما مع المؤسسات الإعلامية والمنظمات غير الحكومية التي تعني بالديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام، بوصفها مؤسسات تُشكّل معاقلًا للقوى اليسارية و"الديمقراطية" التي تَحّد من اندفاعة قوى اليمين ونزعاتها الشمولية للإمساك بزمامِ الدولة والمجتمع، لأن تلك القوى بطبيعة تكوينها وأيديولوجيتها، ترى بنظام السلطة، سلطة واحدة، وليست مجموعة من السلطات المنفصلة والمستقلة عن بعضها البعض، ولطالما ساور تلك القوى القلق والريبة، من تدخلات القضاء والحيز الذي يشغله في بنية الدولة، والحساسية والخشية من قوة الإعلام وتأثيره.

وقد أدرك "بنيامين نتنياهو" أكثر من غيره من شخصيات وقوى اليمين، أنه يتعين عليه الهيمنة على مؤسستي الإعلام والقضاء، إن أراد ضمان بقائه وبقاء معسكره في سدة الحكم لسنواتٍ طويلة. لذا ليس من قبيل الصدفة أن ملفين من الملفات الثلاثة، التي يُتهم "نتنياهو" بها بالفساد وتجري محاكمته بارتكابها، يتعلقان بالإعلام (ملف صحيفة إسرائيل هيوم واتفاقه بالباطن مع بني موزيس رئيس تحرير يديعوت أحرنوت إلى جانب ملف موقع "والا").

فمن ناحية اليمين العلماني/ الليبرالي، الذي يُمثله "حزب الليكود"، فإن هذا الاتجاه، يرى ضرورة الحفاظ على هوية الدولة العلمانية مع بعض الملامح الديمقراطية والليبرالية الشكلية، وفي ذات الوقت تعميق الهوية اليهودية للدولة بالمعنى القومي لا الديني.

أما الأحزاب الدينية الأرثدوكسية ( شاس ويهدوت هتوراة) فثمة عداء واضح وملموس من جانب هذه الأحزاب لمؤسسة القضاء، لأن هذه المؤسسة علمانية بالكامل، وهي الحصن المدافع عن الطابع العلماني للدولة، ومن ناحيةٍ ثانية فإن القضاء العلماني يُعتبر هو المرجعية العامة للمحاكم الدينية وليس العكس، وأن هذا القضاء بتفسيراته للقانون ومقاومته لأي تشريع ديني من شأنه أن يخل بالنظام العلماني السائد، فإنه يُشكّل رأس الحربة في العداء للأحزاب الدينية وأجنداتها الاجتماعية والسياسية.

ومن ناحيةٍ أحزاب الصهيونية الدينية ( الصهيونية الدينية وعتسماة يهوديت) اللذين يقودهما "سمويترتش وبن غفير"، هما امتداد لمدرسة "الحاخام مائير كهانا" الذي كان يدعو صراحةً إلى إقامة دولة الشريعة اليهودية وطرد العرب من "أرض إسرائيل"، فإن أكثر ما يُركز عليه هذين الحزبين، يَتمّثل بالاستيطان وضم الأراضي الفلسطينية، وتضييق الخناق على العرب، وصولاً إلى طردهم.

وتجد هذه الأحزاب بسلطة القضاء، سلطة ليبرالية رخوة، لا تسعى إلى تعميق الهوية اليهودية، بل تسعى لتوسيع آفاق الديمقراطية وحقوق الإنسان، "فيجد العرب بهذه السلطة منبرًا لهم في الدفاع عن حقوقهم وملكياتهم، وأن هذه المؤسسة تُعطي العرب حقوقاً متساويةً لليهود ( ولو من حيث الشكل)".

ومن ناحيةٍ أخرى فإن سلطة القضاء تضع عراقيلًا قانونيةً "تُقيّد الجشع الاستيطاني للمستوطنين في الاستيلاء على المزيد من الأراضي، أو تضييق الخناق على الفلسطينيين"، لذا تجد هذه الأحزاب، أن مصلحتها تكمن في إضعاف القضاء الذي يمُثّل آخر معاقل اليسار في بنية الدولة.

أما إشكالية "نتنياهو" مع القضاء، فهي شخصية بالأساس، إلى جانب مواقفه اليمينية من هذه المؤسسة، فهو يتهم القضاء علانيةً بالفساد، واتهمه بملاحقته وفبركة ملفات له لمحاكمته والزج به بالسجن، إضافةً إلى نزعة "نتنياهو" التسلطية التي لا ترغب بالخضوع لأيِ قانونٍ، ويرى بنفسه الأكثر جدارة بكرسي "رئيس الحكومة"، لذلك سيدافع عن موقعه باستماتة، ولو أدى ذلك لمحاربة الدولة ومؤسساتها في سبيل الإفلات من المحاكمة واستمراره في تولي الحكم مدى الحياة.

وقد تضمنت خطة الإصلاح القضائية، بعضًا من القوانين الخاصة "بنتنياهو"، كقانون العزل السياسي، الذي يحول دون إمكانية عزله عن الحكم بسبب ملفات الفساد التي يُحاكم بشأنها، وهو القانون الوحيد الذي جرى إقراره في "الكنيست" قبل أن تجري عملية تجميد الخطة الإصلاحية بسبب الاحتجاجات الغاضبة، والخطة الإصلاحية للقضاء، هي جزء من استراتيجية اليمين بالهيمنة على السلطات الثلاث، لتغدو عمليًا سلطة واحدة يُهيمن اليمين على مفاصلها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولا يمكن الوصول إلى هذه الغاية إلا من خلال:

1. إضعاف مؤسسة القضاء وتقليص دورها، عبر سن قوانين جديدة تَحدّ من فعاليتها.

2. إضعاف الإعلام المعادي لليمين، والسيطرة على الإعلام بالكامل.

3. إضعاف أحزاب الوسط واليسار، وضمان الأغلبية الدائمة لليمين.

إن انجاز هذه الأهداف يعني الإجهاز على سلطة القضاء واستقلاله، والتَحوّل إلى نظام السلطة الواحدة والقضاء على الديمقراطية، وتَحولّ "إسرائيل" إلى "دولةٍ دكتاتورية ودينية"، وهو ما أثار حفيظة أحزاب المعارضة وعدد من القوى المدنية، فهذه الاستراتيجية اليمينة تُمثّل انقلابًا جذريًا من شأنها أن تُشّكل تهديدًا لمستقبل (الدولة)، وهذا التخوف قد يُفسر الاحتجاجات العارمة غير المسبوقة التي تواصلت طوال ثلاثة أشهر، وأسفرت عن تفاقم الأوضاع السياسية، إلى أن رضخ الائتلاف الحكومي، وأرغم "نتنياهو" على تجميد الخطة الإصلاحية.

لكن وبالرغم من تجميد الخطة الإصلاحية، وفتح حوار بين القوى السياسية برعاية (رئيس الدولة)، بهدف الوصول إلى تسويةٍ إلا أن حركة التظاهرات والاحتجاجات لم تهدأ. إذ أن ثمة شكوك جدية في قدرة القوى السياسية المختلفة على الوصول إلى تسويةٍ، ومن المرجح أن تعود وتتفجر الأوضاع الداخلية في الأسابيع القليلة القادمة، في ضوء إصرار الائتلاف الحاكم على المضي قدماً في خطته الإصلاحية، في حال فشلت المفاوضات بين الأحزاب السياسية.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني