بقلم الأسير: رائد نزار عبد الجليل

مقال بعنوان: "الأسرى ما بين خلايا سرطانية فاعلة وخلايا ثورية خاملة"

الأسير رائد نزار عبد الجليل.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

كش ملك... قالها أخي إسلام لي وهو يضع أمام ملكي الأسود قلعته البيضاء، والتي كانت تساندها إحدى خيولة، وبعد أن أطلق النظر محاولاً أن أجد مخرجاً لملكي، أزحت رأسي محاولاً الهروب من هزيمتي، وقلت حيلتي في إيجاد مخرج من موتي المحقق، فرأيت أخي أبو جامع هو الآخر يطيل النظر إلى رقعة الشطرنج، وشيء من القلق يعلو وجه.

سألته أن كان بحوزته حيلة أو مخرجاً، لأنقذ الملك؟ فابتسم وقال: المخرج الوحيد والمتوفر للملك ولك ولي، ولنا جميعاً هو الموت، فدع الملك يموت بسلام، وحرر روحه من عجزه وقهره، فلا مفر إلا الموت ولا تجعله رهين محابس الخزي والذل، فقادته وبنادقه انهزموا وتساقطوا في غير ساحات الحرب والثورة.

حينها نظرت إليه وشيء من الدهشة والحيرة تتملكني أنا وأخي إسلام، وذلك لأننا لم نعهد على أخينا أبو جامع هذه الأحاديث والتعليقات العميقة بعمق ظلام زنزانته والمغطاة بشيء من فلسفة العارف، فهو صاحب الروح المرحة والبسيطة التي زرعت على مدار سنوات أسره المستمر أكثر من ثلاثين عاماً البسمة على وجوه من حوله، وهو الذي كان يوزع الأمل غير المرتبط بالأسباب أو الأحاديث، لأنه المتوكل على ربه في السراء والضراء والحرية والأسر.

وعندما اجتمعت عندنا كل عوامل الفضول والقلق مما يرزح تحت ثقل تلك الكلمات، سألته عن سبب حديثه هذا، فما هي إلا رقعة شطرنج ولعبة نلعبها حتى تقتل أيامنا المؤبدة قبل أن تقتلنا بالفراغ وضيق المكان!

عندها أدار وجهه عنا ونظر إلى نقطة معلقة في فضاء المكان وبدون أي مقدمات قال لنا:

(لقد أخبرني اليوم ضابط عيادة السجن أنهم سوف يأخذون مني خزعةً، لأنه يشك أني أصبت بمرض لسرطان)، وبشكل عفوي وانفعالي نهضت من مكاني وأخذته في حضني، وأنا أطبطب على كتفه قائلاً له: (ألف مبروك يا أخي وأخيراً سوف يتم الإفراج عنك أو عن روحك الأسيرة في المرحلة الأولى ويستقر حالك واسمك وصفنتك، وأشكر تلك الخلايا السرطانية التي وبحمد الله وفضله العظيم، بدأت تعمل بكل إخلاص وتفانٍ، حتى تحررنا من أسرنا بعد أن عجزت خلايانا الثورية والعسكرية، من أن تفرج عن أحدنا، فها هي مجموعات وخلايا السرطان استطاعت أن تفرج عن ميسرة أبو حمديه، وسامي أبو دياب، وكمال أبو وعر، وناصر أبو حميد، وبسام السايح وغيرهم، هذا ناهيك عن باقي الخلايا والمجموعات التابعة لبعض الأمراض الأخرى).

إن هذه الواقعة وما تم فيها من حوار ليست قصة من روح الخيال، ولا هي حوار في مسرحية أو مشهد من فيلم، بل هي قصة حياة رجل حقيقي من دم ولحم وروح، وليس من خيال كاتب. رجل وهب حياته ليعيش شعبه بكرامة وحرية، ولم يكن دوري سوى أن قمت بنقل هذا الحوار الذي وقع في ساحة قسم (٨) في سجن رمون، إلى من قد يهمه الأمر.

لا شك بأن هذا المقال وعلى أقل تقدير سوف يدخل بعض الحزن أو الكثير منه إلى كل قلب ينبض بالكرامة الوطنية وتعتريه المشاعر الإنسانية، ولكن ماذا بعد؟

لا شيء، فلن يحرك هذا المقال إلا كما تتحرك دكة الميت، لكي توصله إلى قبره بسلام، ومع الأسف حتى فكرة القبر أصبحنا محرومين منها، فعلى الرغم مما تقوم به الخلايا السرطانية، والتي تساندها القوانين العنصرية، وكان آخرها قانون حرمان الأسرى من العلاج، وقانون إعدام الأسرى وجرثومة بن غفير وسموترتش ونتنياهو العنصرية على مساعدتنا، للخروج من هذه السجون ملفوفين... بأكياس سوداء اللون، إلا أنها في غلب الأحيان تعجز عن الإفراج عن أجسادنا...!

إن ما يقتل أرواحنا ليس موت أجسادنا بسهام الأمراض، وعنصرية الاحتلال، وليس قلقنا وإحباطنا برماح السنين التي انغرست في قلب شبابنا وحولتنا إلى شيوخ وكهول، بل إن ما يقتلنا هو هذا الصمت الذي يعتري قيادة شعبنا تجاه ما يحدث معنا في هذه الأيام، الأصعب والأكثر ظلمة في تاريخ نضال حركتنا الأسيرة في ظل قوانين وقرارات هذه الحكومة الصهيونية النازية، فأين هم من قانون الإعدام للأسرى الذي تم المصادقة عليه بالقراءة الأولى؟ وأين هم من قانون حرماننا من العلاج؟ وأين هم وشعبنا أيضاً من الممارسات القمعية التي تتم بحقنا كل يوم؟

فنحن نشاهد على شاشات التلفاز الأعداد القليلة جداً التي تقف في وقفات خجولة، لا تغني من فسحة أمل في حرية هي حق أصيل لنا أو ترفع من ذرة ظلم يقع كل يوم علينا، بل إن أغلب الذين نراهم في تلك الوقفات، إما موظفون في المؤسسات التي تعتني بشؤون الأسرى أو بعض الكوادر التنظيمية، بالإضافة إلى بعض من أمهات الأسرى وأهاليهم المغلوبين على أمرهم، والذين من شأنهم أن يكرموا في بيوتهم، لا أن يتم استدعاؤهم في كل مرة لإكمال العدد وتجميل المشهد.

ثم أين عشرات الآلاف من الأسرى الذين عاشوا معنا قيد الأسر والألم؟