بقلم الأسير: كميل أبو حنيش..

مقال بعنوان: "دورٌ يبحثُ عن بطل" الحلقة السابعة

كميل أبو حنيش.jpg

مركز حنظلة: فلسطين المحتلة

الحلقة السابعة: الثالوث المقدس

ليس بمقدور أي شعبٍ، أن يحسم معركته التحررية، وينتصر في ثورته بدون الثالوث المقدس لأيةِ عملية تحررية:

( الوحدة الوطنية- الكفاح الوطني- النضال السياسي)

بهذه الأقانيم الثلاثة المُقدسة، انتصرت الشعوب على المستعمرين، ولا يمكن لأيةِ حركة تحرر وطني ناضجة ومسؤولة أن تنتصر بدونها.

الأقنوم الأول: الوحدة الوطنية:

ينطوي مفهوم الوحدة الوطنية على روح الشعب وإرادته الثورية وقوته وعبقريته في الصمود، وإفشال أيةِ محاولةٍ لاقتلاعه واستلاب وعيه أو محاولة إبادته. وهذا المفهوم ليس مجرد شعار رومانسي أو مثالي يجري رفعه أو استخدامه في العلاقات السياسية الداخلية بقدر ما يُعبّر عن ضرورة تحتاجها الشعوب في كلِ وقت، لاسيما في أوقات الأزمات الكبرى والعاصفة، وأهم هذه الأزمات على الإطلاق تَتمثّل في الاستعمار وممارساته الهادفة إلى احتلال أراضي الشعوب واستغلال سكانها أو تهديد وجودهم، ونهب ثرواتها، مما يدفع الشعوب لخوضِ كفاحٍ وطنيٍ ودفع تضحيات جسيمة، وهنا يتجلى مفهوم الوحدة الوطنية، حيث تتكاتف وتتآلف المكونات السياسية والاجتماعية والطبقية في كيانٍ سياسيٍ موحد، يُعبّر عن التطلعات الوطنية العامة، وعن إرادة التحرير لدى عموم الشعب، وتجري عملية تحييد أو تأجيل أيةِ صراعاتٍ داخلية من شأنها أن تعيق مثل هذه الوحدة، أو تطيل من أمد المعركة التحررية، حيث تنبع أهمية الجسم السياسي الموحد، لإفشال محاولات المستعمِر بجعل التناقضات الثانوية تناقضات رئيسية، وفي هذه الحالة تدرك الحركة الوطنية التحررية أهمية إبقاء الصراع مع المستَعمِر، هو الصراع الرئيسي، وما عداه مجرد تناقضات وصراعات ثانوية يجري تسويتها أثناء المعركة التحررية أو بعدها.

وتسعى القوة المستعمِرة دائمًا، إلى إثارة الفتن الداخلية وتعزيز التَصدّعات الاجتماعية، بغية إحداث انقسامات عميقة في الجسم الوطني.

لذا يلجأ الاستعمار لسياسته المعروفة والثابتة (فرق تَسد)، من خلال دعم أطراف ضد أطراف أخرى، وإثارة كل ما من شأنه تحويل التناقضات الصغيرة والثانوية إلى تناقضاتٍ وصراعاتٍ رئيسية وتناخرية، بينما يَتَحوّل الصراع مع الاستعمار إلى تناقضٍ ثانوي.

 وفي هذه الحالة تصبح بعض الأطراف حليفة للاستعمار، تتلقى دعمه السياسي والعسكري والمالي، ويسعى الاستعمار لتنصيب تلك القوى كقوى مهيمنة وسائدة، سواء في ظل احتلاله للبلاد أو بعد الجلاء عنها.

غير أن الحركة التحررية الواعية والمسؤولة، تقطع الطريق على هذا المخطط، وتسعى بكلِ قواها لتوحيد قوى الشعب خلفها ومعها في المعركة ولا تسمح بإثارة أي فتنة أو تناقض ذات طبيعة طائفية أو دينية أو عرقية أو مذهبية أو قومية أو طبقية من شأنه أن يحرف البوصلة، أو يبعد المعركة الرئيسية عن أهدافها.

لذا تسعى الحركة التحررية لبناء إطارها السياسي الوطني الجامع والمُعبّر عن وحدة الشعب الوطنية والسياسية والكفاحية. وبهذا يفقد الاستعمار أهم سلاح يملكه ألا وهو الإبقاء على الشرذمة والانقسام والتناحر بين مكونات الشعوب المحتلة.

ويجد نفسه يقاتل شعبًا موحدًا متراصًا وقويًا، وليس مجرد قبائل أو طوائف أو طبقات متنازعة؛ فالمعركة التحررية في ظل انقسام المكونات الشعبية الوطنية، تكون محسومة نتائجها لصالح الاستعمار، والوحدة في هذه الحالة ليست خيارًا، وإنما ضرورة تفرضها شروط المرحلة التحررية ولا مناص أمامها سوى توحيد العناصر الداخلية المتنافرة التي يجمعها المصلحة في التحرر والخلاص من الاستعمار، متجاهلة أيةِ خلافات أو تناقضات قد تعيق انجاز التحرير؛ فتجربة الشعوب التاريخية في مكافحة الاستعمار تسلحت بالوحدة، وتعالت على التناقضات الثانوية، وانتصرت بفعل حشد قواها وجهودها وطاقاتها، وإمكانياتها في المعركة التحررية. 

الأقنوم الثاني: الكفاح الوطني:

ليس لأيِ ظاهرة استعمارية أن تنهي احتلالها وتفك قبضتها عن الشعوب المحتلة طواعيةً أو باختيارها، إلا إذا واجهت مقاومةً باسلةً ترغمها على الاندحار، أو إذا اكتشفت أن تجربتها الاستعمارية غير مجدية من النواحي الاقتصادية والسياسية أو العسكرية أو الأمنية، أما الحالة الثالثة فَتَتَمثّل في إرغامها من قبل قوة أخرى على الاندحار.

أما أن يغادر الاستعمار، ويفكك منظومته الاستعمارية من تلقاء نفسه من دون الحالات الثلاثة السابقة، فذلك مخالف لقوانين الصراعات الإنسانية، ولطبيعة الاستعمار العدوانية والتوسيعة والاستغلالية.

وفي حالات الظواهر الاستعمارية الإحلالية الاستيطانية والعنصرية كما هي حالة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني العنصري، لا يمكن لمثلِ هذه الظواهر أن تنتهي إلا من خلال النضال الطويل والمتواصل المُعبَر عنه بشتى أشكال الكفاح (المسلح، الشعبي، السياسي.. الخ)، وبتضافر جهود ودعم قوىً وشعوب أخرى لها مصلحة في دحر مثل هكذا تجربة استعمارية تهدد المنطقة برمتها.

ومع تواصل المعركة التحررية بترابط حلقاتها التاريخية، وتكامل شروط وعوامل انتصارها ووصولها إلى اللحظة التاريخية الحرجة حيث تتعدى موازين القوى وإن ببطئ، ويصبح لدى الحركة التحررية رسائلها وتجاربها الغنية التي تسمح لها بإطالة أمد المعركة والصمود بها، وتَحمّل خسائرها.

 ومن جانبٍ آخر تتعلم الشعوب المكافحة من تجربتها المريرة تحت نير الاستعمار، أهمية بناء المؤسسات والقوى السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية والخيرية والفنية والرياضية والإعلامية والمالية والاقتصادية والتنموية والتعبوية.. الخ، التي تُمثّل البنية التحتية لأيِ معركةٍ تحررية، وبدونها تَتحوّل أعمال المقاومة إلى ضربٍ من ضروب العبث والنزعات الثأرية، فهذه المؤسسات والقوى تُمثّل حجر الزاوية في المعركة، وعصب العمل الكفاحي وأساسه، وتمد النضال الوطني بالطاقات البشرية والمادية والمعنوية والروحية، وتمنع إمكانية الانهيار الاجتماعي التام، وتحول دون هزيمة الحركة التحررية بشكلٍ كامل.

 وهذه المؤسسات تُشكّل حاضنةً للكفاحِ الوطنيِ الطويل، وتساهم في امتصاص ضربات العدو الهمجية، وتحرمه من تحقيق انتصاراتٍ كاسحةٍ، لذا يحرص الاستعمار على زعزعة مثل تلك المؤسسات الأهلية وتحجيم دورها، وإفراغها من محتواها الوطني والنضالي، أو الحد من تأثيرها وفعاليتها وحيز أنشطتها، لأنها ببساطة تُشكّل البنية التحتية للمقاومة، وتُمثّل الوجه الحضاري والثقافي للشعوب المحتلة ووعيها لوجودها وتاريخها. بعبارةٍ أخرى يسعى الاستعمار إلى هزيمة وعي الشعوب وإرادتها، حتى لا يكون بمقدورها معاودة بناء مؤسساتها ومظاهر حضارتها.

ومن ناحيةٍ ثالثة تظهر الشعوب أثناء معركتها التحررية عبقريتها في ابتداعها لأشكالِ المواجهة، إذ أن التجربة التحررية الإنسانية أظهرت أشكالاً متنوعةً في النضالِ للوصول إلى غاية التحرير، فليس ثمة نظريات أو صفات جاهزة للتجارب الثورية.

فكل شعب محتل يبتكر وسائله النضالية الخاصة، ارتباطاً بظروفه الملموسة على الصعد كافة: الجغرافيا والديمغرافية والتاريخية والثقافية والمادية؛ فالتكتيك الكفاحي هو ابن شرعي للميدان وللظروف الملموسة، وهنا تتجلى ابداعات الشعوب في ابتكار أشكال مقاومتها للمستعمر، وهذا مرهونٌ بوحدتها أثناء المعركة، تلك الوحدة التي بمقدورها تحويل تلك الابداعات، مهما بدت بسيطة، إلى قوةٍ هائلةٍ ومؤثرة، يصعب على القوى الاستعمارية مواجهتها والتغلب عليها بسهولة.

الأقنوم الثالث: النضال السياسي:

يرتبط انتصار الحركة الوطنية التحررية على عدوها، بالنضال السياسي العنيد والمنظم، وإذا كان ثمة استراتيجية سياسية تُمثّل الهدف النهائي لعملية التحرير وبناء الدولة، فإن ذلك مرتبط بالتكتيك السياسي الذي تنتهجه الحركة الوطنية الموحدة.

أي أنه لا يمكن لحركةٍ تحرريةٍ انجاز انتصارها من دون خط سياسي سليم تجمع عليه كافة الأطياف السياسية المنضوية تحت لواءِ الحركة التحررية الوطنية، ذلك الخط الذي يرسم الطريق سياسيًا للوصول إلى الأهداف النهائية.

وهنا تنبع أهمية المؤسسات الوطنية العامة التي يقع على عاتقها تحويل المكاسب الكفاحية الميدانية إلى مكاسبٍ سياسيةٍ متراكمة، وتحمل القضية الوطنية إلى كل مكانٍ في العالم من الممكن أن يساهم ويُسرّع في انجازها لأهدافها، وتتويج انتصارها الميداني بانتصار سياسي واضح وملموس على العدو.

وتنتصر الحركة التحررية سياسيًا أولاً قبل كل شئ بقدرتها على توحيد صفوف الجماهير والحد من التناقضات الداخلية، وتحويلها من قوى متنافرة ومتصارعة إلى قوةٍ متحدةٍ تواجه المحتل، ومن هنا تبدو براعة وكفاءة قيادة الحركة الوطنية ومسؤوليتها التاريخية، وثانيًا تتجلى البراعة السياسية للحركة التحررية في القدرة على التحرك سياسيًا وميدانيًا في الإقليم الأقرب لها جغرافيًا ومحيطها الحضاري والثقافي، وكسب دول وشعوب ومكونات الإقليم لصفها، وضمان دعمه السياسي والعسكري والمالي والبشري؛ فبدون إسناد ودعم الإقليم للحركة التحررية سيصعب عليها إنجاز المعركة لصالحها، وثالثًا تحرك الآلة السياسية للحركة التحررية عالميًا، بهدف كسب موقف الدول والشعوب والمنظمات والأحزاب والمؤسسات الوازنة على مستوى العالم، وهو ما تُسمى بجبهة الرأي العام والعالمي، وتحرص أيةٍ حركة تحررية مسؤولة لزيادة معسكر أصدقائها وتقليص معسكر أعدائها، والسعي لخلخلة معسكر أصدقاء العدو وزيادة معسكر أعدائه.

كما ينبغي أن تعطي الحركة التحررية انتباهاً لمجتمع عدوها ودراسة الدولة والمجتمع والأحزاب والقوانين، ومراكز القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والسعي لإحداث خلخلات وتناقضات داخل هذا المجتمع، ولتعزيز حالة الرفض للأفراد والفئات والقطاعات من داخل الكيان المناوءة للسياسات.

إن ظهور مثل هذه المجموعات داخل مجتمع العدو من شأنه أن يضعف دولته وسياساته، ويُمَثّل ربحًا صافيًا لحركة التحرر الوطني.

إن النجاح في المعركة السياسية، مرهون بالخط السياسي والتكتيك السياسي الذي يُشكّل عنصر إجماع لمختلف المكونات السياسية، أما مقتل الحركة الوطنية فيبدأ بالانقسام السياسي بين مختلف المكونات، ويبدو عندها أن لكلِ مكون خطابه ونهجه وتكتيكه السياسي، مما يضعف من إمكانية العمل السياسي المجدي، ويظهر النضال السياسي أمام العالم كنضالٍ مجزأ ومُقطع الأوصال ومتعارض الأهداف والوسائل.

وفي المحصلة، لا يمكن لأيةِ معركةٍ تحرريةٍ أن تنجز أهدافها من دون هذه الأقانيم الثلاثة، التي تُشكّل شروطاً من شروط الانتصار التاريخي.

وإذا قمنا بإجراء مقاربةٍ تاريخيةٍ على الحالة الفلسطينية في صراعها مع الاستعمار الصهيوني، بوسعنا القول أن الكفاح الوطني الفلسطيني انطوى على هذه الشروط، وافتقد البعض منها حسب المحطات التي مر بها النضال الفلسطيني.

ففي مرحلة ما قبل النكبة، لم تجد هذه الشروط الثلاثة تعبيراتها بصورةٍ متكاملة، في التجربة الكفاحية ضد المشروعه الصهيوني في بداياته الأولى.

حيث افتقد الشعب الفلسطيني في تلك المرحلة للقيادة السياسية الناضجة والتي تعي وتدرك خطورة المشروع الصهيوني، وكانت هذه القيادة غير موحدة؛ بل متنافسة ومتصارعة وقسم منها متواطؤ مع الاستعمار ومشاريعه.

ولم تتمكن تلك النخبة من توحيد قوى الشعب الفلسطيني خلفها، ولم يكن لديها رؤية سياسية واحدة متماسكة، وبالتالي لم تتمكن من خوض كفاحها ضد الاستعمار بصورةٍ ناجعة فاستغل الاستعمار هذه الثغرة، وسعى لتوسيع الشقة واشعال نار الخلاف بين العائلات المتنازعة.

وفي المقابل، عندما اندلعت ثورة العام 36، كتعبيرٍ كفاحيٍ يخوضه الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار، لم تجد تلك الثورة قيادةً سياسيةً تُعبّر عنها وتقودها وتوجهها، وبقيت النخبة السياسية التقليدية على هامش الثورة، ولم تتمكن الثورة من توحيد صفوفها، مع أن الشعب كان موحدًا خلفها.

غير أنها ظلت ثورة بدون رأس يوجهها ويضبط حركتها ويترجم انجازاتها الميدانية إلى مكاسبٍ سياسية، أما الدول والشعوب العربية المجاورة وبالرغم مما قدمته من دعمٍ بالمال والسلاح والثوار، غير أن أنظمتها الخاضعة للاستعمار، أصبحت عنصرًا ضاغطًا لوقفِ الثورة، ودعوة الفلسطينيين بالتعويل على الحلول السياسية لبريطانيا "الصديقة".

ومنذ انتكاسة الثورة عام 39 وحتى عشية النكبة، افتقد الشعب الفلسطيني للقيادة السياسية، وانحسر الفعل الكفاحي، وكان ثمة فراغ سياسي ونضالي خطير، في حين أخذ المشروع الصهيوني بالتنامي على الأرض، وأحرز مكاسبًا على كافة الأصعدة، وقويت شوكة العصابات الصهيونية المُسلحة، التي ما فتئت تشن هجمات دموية ضد التجمعات والمراكز في المدن الفلسطينية، فخسر الشعب الفلسطيني معركته لصالحِ العصابات الصهيونية المعدة والمسلحة جيدًا، والمنضوية تحت قيادة الحركة الصهيونية التي جهزت نفسها عسكريًا وسياسيًا وماديًا ما مكن لها الانتصار على العرب الممزقين، وعلى الشعب الفلسطيني الأعزل عام 48.

وفي المرحلة الممتدة بين عام 48 وحتى نكسة العام 67 افتقد الفلسطينيون للقيادة السياسية والعقل الكفاحي، وتمزق المجتمع الفلسطيني، وتوزع على ثلاثة أقاليم (مناطق 48، الضفة، القطاع) علاوةً على مخيمات الشتات، وفي شتى بقاع العالم.

ولم تثمر تجربة الفصائل والمجموعات الفلسطينية طوال عقدي الخمسينيات والستينيات عن أي نتيجةٍ سياسيةٍ وميدانية.

أما منظمة التحرير فلم تكن في ذلك الحين (64-69) كيانًا وطنيًا وسياسيًا قادرًا على إحداث تَحوّلٍ على الصعيد الفلسطيني من ناحيةٍ سياسيةٍ وكفاحية، وكانت خاضعة تماماً للأنظمة العربية (عبد الناصر) ومتماهيةً مع سياساتها، وكانت بنيتها التقليدية المُشكّلة من الوجهاء والأثرياء والعشائر والأعيان، لا تُمكنّها من الإمساك بدورها التاريخي في توحيد الفلسطينيين وحشد طاقاتهم وقواهم في المعركة التحررية.

ومن جانبٍ آخر لم تفلح جهود عبد الناصر في توحيد العرب وحشدهم في المواجهة، فخسر العرب معركتهم ضد "إسرائيل" عام 67.

أما مرحلة الثورة الحديثة وبروز الفصائل الثورية بعد نكسة العام 67، وتمكنها عام 69 من الهيمنة الشاملة على منظمة التحرير، فقد كانت مرحلة واعدة، ويمكننا اعتبارها بداية مرحلة التحرر الوطني، وفي هذه المرحلة جرى تفعيل المنظمة وتثوير الشعب الفلسطيني وتوحيده خلف منظمة التحرير التي تكرست بالفعل كممثلٍ شرعيٍ ووحيدٍ للشعب الفلسطيني.

كما وأبدعت الفصائل في فعلها المقاوم ونشاطها السياسي الذي أوصل القضية الفلسطينية إلى كل زاويةٍ في العالم، واستمرت هذه المرحلة من عام 67-93 وتمكنت خلالها الثورة من انجاز الكثير من الأهداف السياسية الهامة رغم إخفاقها في انجاز انتصارها التاريخي.

من جانبٍ آخر اعترى المعركة التحررية الفلسطينية مجموعة من الاخفاقات، تَمثّلت بخسارتها للساحة الأردنية عام 70 ولاحقًا الساحة اللبنانية عام 82، أعقبه حدوث انقسام بين فصائل الثورة، لاسيما داخل حركة فتح، ونجم عنه اشتباكات بين الفلسطينيين، علاوةً على المذابح التي اُرتكبت ضد المخيمات الفلسطينية على أيدي الميلشيات المارونية والقوى اليمينية والانعزالية كما جرى في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وحرب المخيمات طوال عقد الثمانينات.

كما أن شعار "القرار الفلسطيني المستقل" وإن كان مبررًا لحماية القضية الفلسطينية من مهاتراتٍ والأنظمة العربية، غير أنه أفقد الفلسطينيون مع الوقت الدعم العربي الحقيقي، ونجم عنه صراعاتٍ سياسيةٍ ودمويةٍ مع عددٍ من الأنظمة كسوريا والأردن ولبنان، ولاحقاً مصر بعد اتفاقيات كامب ديفيد.

شَكلّت الانتفاضة الأولى فرصةً ذهبيةً للفلسطينيين لاستعادة الإمساك بزمام المبادرة الثورية، واستكمال المعركة التحررية، وإعادة بناء ما تهتك، وترميم الثالوث المقدس: الوحدة، والكفاح، والنضال السياسي. فقد كانت الانتفاضة تعبيرًا عن هذا الثالوث بوصفها أداةً كفاحيةً شعبيةً وحدت الشعب الفلسطيني، ورفعت شعار الحرية والاستقلال والدولة.

وكان بالإمكان تجسيد الوحدة الوطنية الحقيقية والضغط على القوى الإسلامية للانضواء في منظمةِ التحرير، وإعادة إصلاحها وتفعيلها لتمُثّل المؤسسة الوطنية الجامعة لعموم الشعب الفلسطيني، والعمل على تطوير الانتفاضة وتسليحها ببرنامجٍ سياسيٍ موحد، غير أن عدم نضج حركة حماس سياسيًا في تلك المرحلة، ومحاولتها تشكيل بديلٍ سياسيٍ ووطني، وعدم انضوائها في أطر الانتفاضة الشعبية كالقيادة الموحدة، فوت الفرصة أمام إمكانية إحراز تقدم على صعيد الوحدة الوطنية والسياسية، ومن جانبٍ آخر مَثّل جنوح حركة فتح نحو التسوية، ثغرةً خطيرةً ساهمت فيما بعد بالانحسار التدريجي للانتفاضة، ومع التوقيع على اتفاقية أوسلو ساد الانقسام والفرقة الساحة الفلسطينية.

وكانت هذه الحالة أفضل هدية "للاسرائيل" التي استغلت هذا الوضع، وأمنعت في قمع المقاومة وملاحقتها، وفي ذات الوقت لم تسمح للتسوية أن تتطور، بما يُمكّن الطرف الفلسطيني المفاوض من تحقيق  مكاسبٍ سياسية، وأحكمت قبضتها على الفلسطينيين جميعاً، وساهمت سياساتها العدوانية على الأرض في تسريع انفجار الانتفاضة الثانية.

لقد مَثّلت الانتفاضة الثانية الوسيلة الأكثر نجاعةً لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وفرصةً جديدةً للفلسطينيين لمراجعة مسار التسوية وانجاز الوحدة الوطنية، وإعادة بناء منظمة التحرير بما يضمن مشاركة جميع القوى وانضوائهم تحت لوائها، وتوحيد الرؤى السياسية برؤيةٍ واحدة، والتمسك بخيار المقاومة كخيارٍ وحيدٍ لانجاز الأهداف الوطنية غير أن تمترس كل فصيلٍ وراء موقفه وخطابه السياسي، وإهمال المنظمة لصالح السلطة من جانب فتح، أفقد المنظمة أهميتها السياسية والوطنية، وأبقى الانتفاضة بدون قيادة سياسية موحدة، وبدون استراتيجية كفاحية واضحة.

وكانت الأجنحة العسكرية التابعة للفصائل، خاضعةً لتطورات الميدان، ومع الوقت تلاشى تأثير الفصائل على الأجنحة المسلحة، فشنت "اسرائيل" حربها ضد الجميع. السلطة، الفصائل، الأجنحة المسلحة، الشعب الفلسطيني، وحاصرت الجميع، واجتاحت مدن وبلدات الضفة، وحاصرت عرفات، وارتكبت عدة مذابح (مخيم جنين، نابلس القديمة، غزة..) وكثفت من عمليات التصفية للقادة السياسيين وأبطال المقاومة في الميدان، فتراجعت الانتفاضة، وأخذت تتلاشى، وطوال سنواتها الخمس لم تتحقق أيةِ وحدة لا في الميدان ولا في السياسة، حيث أخفقت كافة الدعوات الجدية لتعزيز الانتفاضة من خلال دعمها بالأطر القيادية، في الميدان وفي السياسة.

ومن المؤسف أن الحالة الفلسطينية، لم تتفق إلا في نهاية الانتفاضة، ولم يجد الاتفاق الوطني تعبيره إلا في الانتخابات التشريعية، وبدلًا من الذهاب أولًا لترتيب المنظمة والاتفاق على رؤيةٍ سياسيةٍ موحدة، ذهبت الفصائل للانتخابات التشريعية برؤى وبرامجٍ وأجنداتٍ متباينة.

لقد أفرزت الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006 واقعاً مريرًا، وبدلًا من أن تكون الانتخابات وسيلةً لحل الأزمة الفلسطينية الداخلية، تَحولّت نتائجها إلى أزمةٍ لم تلبث أن أخذت بالتفاقم، واستغلت "إسرائيل" هذه النتيجة بإقناع العالم أن المشكلة تكمن بالفلسطينيين وليس بالاحتلال، ونجحت في تجنيد العالم بما فيها بعض دول الإقليم للضغط على الفلسطينيين، ومحاصرتهم سياسيًا وماليًا واقتصاديًا بهدف إجبارهم على القبولِ بشروطِ الرباعيةِ الدولية، بما فيها اعتراف حكومة حماس "بإسرائيل" وشرعية وجودها، وواصلت "إسرائيل" ضغطها السياسي والعسكري والاقتصادي، حيث أدت هذه الضغوط مجتمعة، لاندلاع اقتتال فلسطيني داخلي في قطاع غزة، نجم عنه الانقسام الوطني الذي لا يزال مستمرًا منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، وبهذا فقد الفلسطينيون مجمل أوراقهم: فالتسوية السياسية متوقفة وفاشلة في الأصل، والمقاومة ضعيفة ومحاصرة، وفوق كل ذلك ثمة انقسام وطني غير مسبوق في الحالة الفلسطينية.

لقد اعتبرت "إسرائيل" الانقسام الفلسطيني، فرصةً ذهبيةً لتعميق الشرخ الفلسطيني، وتحويل الضغط السياسي الإقليمي والعالمي نحو الفلسطينيين، بدلاً من الاحتلال من بعد أن نجحت في إقناع العالم أنه لا يمكن إحراز التسوية والعودة إلى المفاوضات الجدية في ظل الانقسام الفلسطيني، وأن المشكلة بالفلسطينيين أنفسهم الذين لا يجمعون على رؤيةٍ واحدة، وليس لديهم قيادة سياسية واحدة، وأن الاحتلال "الإسرائيلي" للأراضي الفلسطينية ليس هو المشكلة، وإنما المشكلة "بالإرهاب الفلسطيني".

وفي ضوء هذه النتائج المزرية أمعنت "إسرائيل" في حصارها وإضعافها للجميع، وفرض المزيد من الحقائق على الأرض، من نهب للأراضي والمياه والاستيطان وتهويد القدس، وشن الحروب، وملاحقة المقاومة، والإمعان في إذلال الشعب الفلسطيني.

والآن وبعد هذه السلسلة الطويلة من الانتكاسات، ألم يحن الوقت، لاستخلاص الدروس والعبر من التجارب التاريخية المريرة؟ أما آن الأوان للالتفات إلى الذات الفلسطينية لإصلاح أعطائها وتهتكاتها وتصويب مساراتها؟

إن مفتاح الحل للخروج من المأزق الحالي يتلخص بعبارة واحدة: إنهاء الانقسام وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، والاتفاق على برنامج سياسي وكفاحي موحد يقود الشعب الفلسطيني نحو الحرية والخلاص.

أما استمرار المقاومة أو بعض مظاهرها، لن يكن مُجديًا من دون وحدة وطنية وسياسية، وكذلك استمرار العمل السياسي والعودة إلى المفاوضات العبثية لن يكون مثمرًا بدون وحدة موقف وبدون مقاومة على الأرض تخلق بديلًا عن مسار التسوية العبثي، فالحلقة المركزية هي الوحدة الوطنية والسياسية، وهي الكفيلة بوضع النقاط على الحروف، وهي البداية في تقصير عمر الاحتلال، وإنجاز الانتصار التاريخي.

إن الدور الذي يتعين أن يلعبه البطل، مشروط بوحدته وقوته وذكائه السياسي، وإلا فإنه سيظل يلعب دورًا قاصرًا وضعيفًا، وإنجاز تلك الوحدة مرتبط بالإرادات أولاً وأخيرًا، فبدون إرادة صادقة من الجميع لن نفلح إطلاقًا في انجاز معركتنا التحررية.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني