بقلم الأسير: كميل أبو حنيش..

مقال بعنوان: "دورٌ يبحثُ عن بطل" الحلقة السادسة

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة السادسة: زوايا حادة

انطوت المعركة التحررية الفلسطينية في تاريخها الطويل على سلسلةٍ من الاشكاليات والمآزق والزوايا الحادة، والتي كان الشعب الفلسطيني يجد نفسه محشوراً فيها، وفي كل مرة كانت الثورات والانتفاضات خير وسيلة للانفكاك من تلك الزوايا.

لقد تَمثّلت الزاوية الحادة الأولى، في الاستعمار البريطاني لفلسطين، وتبنيه رسميًا للمشروع الصهيوني، في ظل وجود زعامة فلسطينية تقليدية ومتخلفة ومتصارعة، ولم يفلح تشكيل الأحزاب في تلك المرحلة، حيث كانت مجرد واجهة للعائلات الاقطاعية المتنافسة، والتي شَكلّت فيما بعد "اللجنة العربية العليا"، ولم ينجح هذا الإطار السياسي في قيادة الشعب الفلسطيني، وبقي مسمًا سياسيًا شكليًا خاليًا من أيٍ مضمون، بسبب تخلفه السياسي والفكري من جهة، وتواطؤ بعض أطرافه مع الانجليز الصهاينة من جهةٍ أخرى. ولم يحرر الفلسطيني من تلك الزاوية الحادة سوى ثورة العام 1936، حيث وفرت للشعب الفلسطيني فرصةً لمجابهةِ المشروعِ الصهيونيِ والقضاء عليه في بداياته، أما الزعامات التقليدية فقد بقيت على هامش الثورة، من بعد أن صارت زمام الأمور في أيدي الثوار في الميادين.

بيد أن إخفاق الثورة، نتيجة لعوامل متعددة، أبرزها غياب قيادة سياسية وثورية تقود وتوجه الثورة، أفقد شعبنا القدرة على المواصلة، ووضعهم في زاويةٍ حادةٍ جديدة، واستشرس المشروع الصهيوني، وظهرت العصابات الإرهابية الصهيونية المعروفة كالأرغون والهجناه وليحي، التي أثارت عملياتها الإرهابية الدمار والفزع طوال عقد الأربعينيات، وفي المقابل وجدت بعض القوى الفلسطينية المتخاذلة، فرصةً سانحةً أمامها مع نهايات الثورة للهيمنة وتوطيد العلاقة مع الانجليز والصهاينة، وشَكلّ ما عُرف بـ (فصائل السلام) والتي أخذت تلاحق الثوار وتقوم بتسليمهم للانجليز، وبقيت هذه الحالة قائمة إلى أن حل مشروع التقسيم، ووجد الشعب الفلسطيني نفسه يخوض حربًا قاسيةً في سبيلِ الدفاع عن وجوده، وتعرض للإبادة والاقتلاع، أما الهروب الجماعي لطبقة الأثرياء والملاكين فقد ساهم في انهيار المجتمع الفلسطيني، ولم تفلح الجيوش العربية الضعيفة في منع الكارثة التي اصطلح على تسميتها بالنكبة.

كانت مرحلة النكبة وما تلاها، هي من أصعب المراحل التي مَرّ بها الشعب الفلسطيني، من بعد أن تلاشى وجوده السياسي والاجتماعي، وبات يعيش في أربع تجمعات، أوجدت مع الوقت أربع مجتمعات، لكل مجتمع منها خصوصيته وواقعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي (مناطق 48، الضفة الغربية، قطاع غزة، الشتات).

وبهذا حشرت التجمعات الفلسطينية في زوايا الأنظمة العربية ودولة الكيان، ولم يحظَ بأيٍ متنفسٍ سياسي يُعبّر فيه عن إرادته التحررية، وبقي الشعب الفلسطيني محشورًا في الزاوية إلى أن حلت نكسة العام 67 لتنفجر في أعقابها الثورة الحديثة.

وفي تلك المرحلة الثورية العاصفة، حاولت الأنظمة العربية إبقاء الفلسطينيين محشورين في زواياه، وأراد البعض منها استخدام القضية الفلسطينية، فواجهت الثورة وهي لا تزال فتية محنة التصفية في الأردن، ومحاولات ضربها وإضعافها في لبنان، وملاحقتها في العديد من البلاد العربية، وتضييق الخناق على أنشطتها في عددٍ من دول العالم، وكانت الثورة أفضل تعبير عن انفكاك الفلسطيني من أزمته ومن حصاره، إلى أن وقعت حرب العام 1982، وجرى إرغام المقاومة على الخروج من لبنان، وفي هذه المرحلة أعيد الفلسطيني إلى الزاوية، ووجد نفسه عاجزاً عن فعل أي شئ، فلا هو قادر على الدخول في مفاوضات مع عدوه، ولا هو قادرٌ على الاستمرار في الثورة من الخارج، بعد خسارته لساحتي الأردن ولبنان، لتأتي الانتفاضة الأولى عام 1987 لتفتح للفلسطيني بوابة الانعتاق من الزاوية، وتفتح آفاقاً جديدة، من بعد أن عادت ساحة الوطن هي الركيزة الأساسية للعملية النضالية التحررية.

غير أن هذه الانفراجة، التي من الممكن تحويلها إلى أداة ورافعة للتحرير وتحقيق انجازات سياسية ملموسة، أخذت تتلاشى مع الوقت، وتفقد زخمها بفعل مسار التسوية الذي بدأ في مدريد وانتهى في أوسلو، لتبدأ محطة جديدة لا نزال عالقين في مصيدتها.

واليوم وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على انطلاقِ قطار التسوية وما نجم عنها من تداعياتٍ، وتسارعت أحداثها وتكاملت عواملها لتصنع مأزقاً تاريخيًا، وفي هذه المحطة، وجد الفلسطيني نفسه محشورًا في ثلاثة زوايا حادة، تُمثّل ثلاثية الأزمة الفلسطينية المُركبة، وهذه الزوايا:

أولًا/ زاوية المرحلة الانتقالية:

عند التوقيع على اتفاقيات أوسلو، عرفت المرحلة التي أعقبت تطبيق الاتفاق بالمرحلة الانتقالية، ومدتها خمس سنوات تبدأ في أيار عام 1994، وتنتهي في أيار 1999، حيث تجري خلالها مفاوضات الحل النهائي لتسوية الصرع. بيد أن تعثر عملية المفاوضات، نتيجة الاختلال في موازين القوى لصالح العدو، ورؤيته للحل السياسي النهائي، أدى إلى استعصاء عملية التسوية وعجزها عن الوصول إلى حلٍ، فقد تعاقبت الحكومات "الإسرائيلية" ومواقفها المتباينة من عملية التسوية (حكومتي رابين - بيريس 1992-1996، حكومة نتنياهو الأولى بين 1996 - 1999)، حكومة باراك 1999-2001) أدت إلى إخفاق عملية التسوية لتندلع الانتفاضة الثانية، وتتفاقم أزمة التسوية في عهد حكومة (شارون 2001-2005)، وكذلك في عهد (حكومة أولمرت 2006-2009) والتي انطلقت في عهدها مفاوضات أنابوليس، ولم يحدث أي اختراق حيث تمددت المرحلة الانتقالية من تلقاء نفسها منذ العام 1999 وحتى العام 2009، بعبارةٍ أخرى جرى التمديد للمرحلة الانتقالية بقوة الأمر الواقع، ليجري تجميد عملية التسوية في عهد (حكومات نتنياهو المتعاقبة بين 2009-2021) لتتواصل المرحلة الانتقالية، حيث عَمرّت مدة تناهز (30 عامًا) بدلاً من خمس سنوات، وهو ما أبقى الشعب الفلسطيني محشورًا في زاوية التسوية ومرحلتها الانتقالية الطويلة التي أصبحت مرحلة دائمة، وعلى ما يبدو لن يتغير الحال كثيرًا في ظل حكومة نتنياهو السادسة.

ثانيًا/ زاوية استعصاء المقاومة:

يتعين علينا الاعتراف أن المقاومة أيضاً تعيش مأزقًا حادًا، ووصلت في الآونةِ الأخيرة، إلى حالةٍ من العجز والاستعصاء. فمن بعد أن كانت الثورات والانتفاضات تاريخيًا، تُشكّل انفراجًا للفلسطيني من الزوايا الحادة التي كان يُحشر بها وكسرًا لأية حلقةٍ مفرغة يمر بها النضال الفلسطيني، أصبحت اليوم مقاومة عاجزة ومثقلة بالأخطاء والتخبطات، مما يجعل من إمكانية تحويلها إلى رافعةٍ لانجاز الحقوق الوطنية مهمةً عسيرة، ما لم تمتلك الشروط التي تُمكّنها من الانتصار على العدو، إن هذا الاخفاق يقتضي مراجعة التجربة الثورية الفلسطينية برمتها، أي منذ أكثر من مئة عام وحتى اليوم.

وحتى لا نمعن في جلد ذاتنا الفلسطينية، يمكننا القول أن الشعب الفلسطيني لم يستنكف يومًا واحدًا عن النضال، ودفع التضحيات الجسام في سبيل الدفاع عن قضيته العادلة، بيد أنه في كل مرحلة ثورية عادةً يخفق في انجاز الانتصار وتحويله مكاسبه النضالية في الميدان، إلى مكاسبٍ سياسية تقربه من انجاز حقوقه الوطنية.

وفي المرحلة الحالية، ومنذ انتكاسة الانتفاضة الثانية أخفقت مجمل الهبات الشعبية منذ العام 2006 وحتى اليوم في لجم الاندفاعة العدوانية الصهيونية، وما يجري حاليًا ما هو إلا موجات تشهدها الحالة الفلسطينية الغاضبة والمتوترة بسبب تفاقم الأوضاع على الأرض، وتنامي الممارسات العدوانية الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية، وهذه الهبات أو الموجات الثورية الصغيرة لن يكون بمقدورها التَحوّل إلى انتفاضةٍ ثالثة، ما لم تنتهي حالة التشرذم والانقسام، ولن تنجح العمليات الفردية غير المنظمة في تثوير الشارع، وإحداث حالة من الانفجار الثوري العام، ونحن على هذه الحالة من الضعف والتخبط.

أما المقاومة في قطاع غزة، وبالرغم من قدراتها النوعية التي تطورت خلال العقدين الماضيين، وتصديها لأربعةٍ حروب عدوانية كبيرة، إلا أنه لن يكون بميسورها تحقيق انجازات ذات طابع استراتيجي، وستبقى مقاومة ذات طبيعية دفاعية، معتمدة في الغالب على نمطية إطلاق الصواريخ، التي جرى تطوير منظومة القبة الحديدية للتعامل معها، وبالرغم من بسالة المقاومة الغزاوية وحسن أدائها وتنظيمها وردعها للعدو، وما تتمتع به من مزايا تكتيكية، غير أنها لا يُمكنها تَحمّل أعباء المعركة التحررية لوحدها، بسبب الكلفة الباهظة التي تدفعها في كل مواجهة مع العدو، ومن ناحيةٍ ثانية بسبب حصارها على كافة الأصعدة السياسية والجغرافية والمالية والتقنية.. الخ.

وفي المحصلة فإن المقاومة الغزاوية، لا يمكنها الوصول إلى تطوراتٍ نوعية، أكثر من الذي وصلت إليه، ويكفيها حماية القطاع من العدوان. أما الضفة فإنها تحتاج إلى انتفاضة شاملة، وبإمكان المقاومة الغزاوية أن تلعب دورًا مساندًا.

ثالثًا: زاوية الانقسام الوطني:

يُمَثل الانقسام الوطني الفلسطيني الزاوية الحادة الثالثة في مَثلّث الأزمة الفلسطينية. فمنذ العام 2007 وأوضاعنا في حالةٍ من التراجع على كافة الأصعدة، وأثمر هذا الانقسام عن ولادة سلطةٍ ثانية في غزة، وفي حال استمرار تأزم المشروع الوطني، فمن الممكن أن يشهد الواقع الفلسطيني ولادة سلطات أخرى.

إن استمرار الانقسام، من شأنه أن يطيل من أمد المرحلة الانتقالية، وتصبح مرحلة دائمة بحكم الأمر الواقع، وبالتالي يطيل من عمر الاحتلال ومن ناحيةٍ ثانية، يمنع إمكانية انطلاق مقاومة سليمة ناجعة ومؤثرة، من شأنها أن تُشّكل رافعة جديدة في عملية التحرر.

إن إنهاء حالة الانقسام الوطني يُمثل الحلقة المركزية في كسر زوايا المثلث الحادة؛ فالوصول إلى محطة إنهاء الانقسام يعني العودة إلى مربع الوحدة، وإعادة الاعتبار للمؤسسات الفلسطينية المُعطّلة، ويعني مناخًا وطنيًا يسمح بولادةٍ مقاومةٍ مؤثرة، ويعني خطابًا سياسيًا موحدًا أمام العالم، أما من ناحية العدو فإنه يعتبر الانقسام الفلسطيني الفرصة الذهبية السانحة للإمعان في إضعاف الفلسطينيين وتجرديهم من وسائل قوتهم، وتكريس انقسامهم، وفرض المزيد من الحقائق على الأرض، من خلال تسريع وتيرة الاستيطان، وتهويد القدس، واقتلاع الفلسطيني من وطنه.

إن هذه الأزمات الثلاث تُعبّر عن وصول المشروع الوطني الفلسطيني، إلى مأزقٍ حاد، ودخوله في نفقٍ مظلم، ومن يعتقد أنه بالإمكان اندلاع انتفاضة ثالثة أو العودة إلى مربع التسوية والمفاوضات، ونحن على هذه الحالة من الضعف والتشرذم، فهو مخطئ.

ولكن إذا تمكنا من حل إشكالية الانقسام، فإننا سنكون على الطريق الصحيح في استكمال معركتنا التحررية، مما يعني حاجتنا إلى التحلي بروح المسؤولية الوطنية والتاريخية.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش