بقلم الكاتب والباحث علاء الأعرج..

الاقتراب من الموت.. ما تحكيه الأمعاء عن الإرادة

علاء الأعرج.jpeg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

هذه المقالة، هي الجزء الأول لسلسة من ثلاثة أجزاء، يتناول فيها الأسير المحرّر علاء الأعرج، الذي سبق له وأن خاض تجربة طويلة في الإضراب الفردي، بعضًا من تجربته، يفنّد من خلالها إدعاءات تُساق ضدّ هذا النوع من الإضراب.

سلسلة لوحات: ما تحكيه الأمعاء عن الإرادة
سلسلة لوحات: "ما تحكيه الأمعاء عن الإرادة"، أعمال إسراء صمادي

سجن الرملة، صباح يوم الجمعة، اليوم السادس والأربعين للإضراب، 24 أيلول/ سبتمبر 2021، كان آخر مشهد رأته عيني هو حلقة من الأطباء والممرضين تلتف من حولي، غمضة عين استغرقت ساعةً من الزمن، وجدت نفسي بعدها في مستشفى "أساف هروفيه" الإسرائيلي! 

استغرقني الأمر دقائق كي أفهم أنني دخلت في غيبوبة نتيجة انخفاض حادّ في سكّر الدم، وكان أول صوت تنبّهت إليه بعد إفاقتي صوتَ ضابط الاستخبارات يقول: "كدتَ تصاب بشلل دماغي، ما الذي يدفعكم إلى هذا الجنون؟"، ابتسمت، غير أن سؤاله أدخلني من جديد في نوعٍ مغاير من الغيبوبة.

كان ذلك الموقف بمنزلة ميلاد فكرة الكتابة عن الموضوع، تحديداً وأنّ السؤال ذاته تكرّر في أثناء اليوم التسعين من الإضراب، يومها كنت أخضع لتحقيق قاسٍ رغم تلاشي الجسد ووهنه، لدرجة أني أُساق إلى التحقيق على الكرسي المتحرك تارةً وعلى الحمّالة تارةً أخرى، ولم أملك من القوّة لأقول أكثر من كلمتين عن التهم المنسوبة: لم يحصل. لم يلفت انتباهي من كل ما سمعته من المحققين على مدى اليومين وأنا في تلك الحالة سوى سؤال: لماذا تضربون؟

بعد انتهاء الإضراب وقبل الإفراج، كنتُ بين عددٍ من الأسرى، استمعتُ حينئذٍ لطيفٍ واسع من الآراء عن مسألة الإضراب، تساؤلات المبدأ والجدوى والتحفظات، ووضعتُ على إثرها الخطوط العريضة لما بات واجبًا أن يُكتب.

وهنا لا نكشف سرّاً إذا قلنا إنَّ أكثر قضايا الحركة الأسيرة إثارةً للجدل (وإن كان غالبها يجري من وراء الستار)، هي قضية الإضراب الفرديّ عن الطعام، تلك التي تركّزت في ملف رفض الاعتقال الإداري انطلاقًا من عام 2011، حين افتتح الشيخ خضر عدنان بإضرابه هذا المسار، وحتى يومنا هذا، ولعل ميل بعض المُتحفظين على الفكرة إلى ضبط تصريحاتهم عائدٌ إلى نبل ذوقي، إذ لا يرونه لائقاً أن يدلوا بدلوهم في مسألة - سواءٌ اتفقنا أو اختلفنا معها - تُصنّف في باب العزائم ومراغمة الاحتلال، أقول "بعض" لأن بعضاً آخر يرفضها انسجاماً مع رفضه المبدئي لأي مناوشة مع الاحتلال، داخل حدود الأسر أو خارجها. 

لقد استمعت لكثير من الناقدين وطلبتُ نقدهم في أكثر الأحيان بعد استشعاري تحرّجهم من طرحه أمامي على الأقل، ثم وجدت أن أكثر النقد مبنيٌ على صورة غير واضحة للمسألة، مع وجود صنوف أخرى من النقد بطبيعة الحال. والنقد الوازن مطلوب أيضًا باعتباره أداة للتقويم واجتراح أفضل الوسائل في هذا الملف (ملف مجابهة الاعتقال الإداري) وحساب الجدوى من هذه الوسائل، تماماً كما هو الحال في ملفات الحركة الأسيرة كافّة، والقضية الوطنية بشكل عام. 

تأتي هذه المقالة في ثلاثة أجزاء، وهي تعد القارئ بالكلام بنبرة نقديّة وصوت مرتفع، وما يزيل الحرج عن صاحبها، كونه أحد الذين خاضوا هذه التجربة ولمدة طويلة بلغت 103 أيام عام 2021، لا أكتب عن المسألة لأنني خضتها فحسب، أو لأنني أستشعر الحاجة إلى توضيحها لصلتي بها، فإنني ما خضتها لقرارٍ لحظيّ خارج إطار قناعاتي، أو على غفلةٍ مني عن تحديد موقفي فيها سلفًا، وأزعم أنني سأتحدث فيها بصراحة لم تسبق، مع قناعتي أن المسألة لن تحسم بعد هذا النقاش، لكنه - بلا شك - سيضيف إلى أدبيات نقاش المسألة ما يُثريها.

أتحدّث في هذه المقالة عن أربعة جوانب أساسية تَحْضُرُ المضرب عن الطعام، وهو يأخذ قرار الإضراب ويجيب ذاته: لماذا أُضرب؟ سواء كان ذلك عن وعي كامل منه أو لربما في لا وعيه، وهذه الجوانب الأربعة بمنزلة توطئةٍ للمقالة التالية، والتي فيها تحتدم المجادلات.

لماذا نُضرب؟ 

كي نجيب عن السؤال ينبغي إدراك أنه ما من أحد يخرج إلى الإضراب ترفًا وكأنه خارج إلى نزهة، وأن الأسير لا يصل إلى هذه المرحلة إلا وقد استنفد جميع الوسائل الأخرى ووصل حدّ الاختناق لِتتابع الاعتقالات الإدارية، وانعدام فسحة الحرية، وتعطل مسار الحياة كليًا، وقناعته أنَّ سيف الاعتقال الإداري المسلّط عليه في آنه لن يقف عند هذا الحد، وسيظل يجتز من عمره ما لم يأخذ قرارًا مفصليًا، يعلم جيدًا أنه وحده سيدفع ثمنه على الصعيد الجسدي، عدا عن عائلته التي ستشاركه التضحية الوجدانية في ظل إدراكه ضعف حالة الدعم والمساندة الشعبية والترهل السياسي على الصعيدين الرسمي والفصائلي، وفي ظلّ انشغال بقية الحركة الأسيرة بقائمة موضوعاتها الطويلة على الصعد اليومية والعامة.

وبصورة أو بأخرى، فإنه يمكن تصوير واقع الأسير الذاهب إلى خيار الإضراب ببيت الكميت بن زيد الأسدي، الذي يقول فيه:

وبصورة أو بأخرى، فإنه يمكن تصوير واقع الأسير الذاهب إلى خيار الإضراب ببيت الكميت بن زيد الأسدي، الذي يقول فيه: "إذا لم يكن إلا الأسنّة مركب.. فلا رأي للمحمول إلا ركوبها "

أو بيت المتنبي الذي يقول فيه: "والهجر أقتل لي مما أراقبه.. أنا الغريق فما خوفي من البلل"

هذا هو الجانب الأول.. من جانبٍ آخر، فإنّ فلسفة الاعتقال الإداري تكمن في إبعاد الشخص عن منطقة تواجده، تفاديًا لتأثيره فيها، وهي التهمة العامة التي توجه إلى المعتقل الإداري عادة: "خطير على أمن المنطقة"، وبهذا، فإن فلسفة الإضراب رفضًا للاعتقال الإداري تقوم على كسر هذا، من خلال فرض الأسير لعودته إلى المنطقة التي أُبعِد عنها وتأثيره فيها تحريكًا وتفعيلًا من خلال الوقفات المساندة والحملات الداعمة، وأهم من ذلك التأثير على الوجدان العام من خلال إعادة موضعة الاحتلال في نظر الشعب عدواً وقاتلاً، وهو موضعه الطبيعي الذي قد يغفل عنه الناس في ظل انشغالهم بهموم العيش اليومي. 

بمعنى آخر، فإن فلسفة الإضراب هي إفراغ الاعتقال من هدفه وتحويله إلى أداة تأثير مقابلة، فتصبح وسيلة التغييب هي ذاتها وسيلة الحضور. وفي حالات كثيرة لمسنا جميعًا أن حضور بعض المضربين في المساحة العامة في أثناء الإضراب وعقبه تجاوز حتى قدراتهم ومؤهلاتهم لهذا الحضور على مستوى الإمكانات، وأن كثيرًا منهم لم يكن ليترك أثرًا على الساحة العامة كما تركه في إضرابه لو بقي في بيته عمرًا بلا اعتقال وإضراب. 

تضاف إلى ذلك مسألة ثالثة، هي في أصلها مسألة مبدئية، وهي أن قضيتنا الفلسطينية ملأى بالمظالم وتراكم القهر، والفكرة المركزية التي ينبغي أن تجلّل كل موقف تجاه هذا المحتل هي "قول لا" كيفما اتفق، وبأي طريقة يستطيعها المرء، وأن “قول لا” واجب لا مِنّة، وهو المسار الطبيعي للمحرومين إن كانوا كرامًا، وأداء الواجب يحمد عليه المرء من بابه، أي من باب أدائه واجبه لا من باب تفضله وتنعمه وتكرمه، ولذا يصير الشاذ أن لا ترى من المقهور التمنع وأن تراه سادرًا عن اجتراح كل وسيلة يجابه بها خصمه ومحتله.

وهنا يغيب الزعم بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لقول "لا" في هذا الموضع، ويحضر الادعاء بأنها الأصل فيه مع قبول العدول عنها إلى سواها من وسائل الممانعة الأقل حدة، ما لم يتمكن المرء من خوضها أو ما لم يحمل قناعتها، فالمهم هو قول "لا" كلٌّ وسع طاقته وقدرته. 

أما الضلع الرابع من أضلاع مربع فهم فكرة الإضراب، فمقرون بفهم مدى أهمية الاعتقال الإداري لدى الاحتلال، ففي لقاء جمع قيادة الـ"شاباك" بقيادة الحركة الأسيرة بُعيد إنهائي للإضراب، في مطلع عام 2022 تحديدًا، وكان الأسرى الإداريون وقتها يخوضون خطوة مقاطعة المحاكم "الإسرائيلية" ويلوّحون بإضراب جماعي عن الطعام، صرّح الشاباك بأن لديه ثلاث وسائل مقدّسة لـ "محاربة الإرهاب" في الضفة الغربية لا يمكن المساس بها: التنسيق الأمني، والاعتقال الإداري، والاغتيالات، وذلك عند انعدام الوسائل الأخرى.

وإن كان الكلام في سياق إيصال رسالة مفادها أن خطواتكم ستصطدم بحاجز مقدس، فإنه واقع تعيشه الحركة الوطنية التي لا تكاد تبذر بذور العمل حتى تأتي رياح الاعتقال الإداري لتذهب بها بعيدًا، ما جعل الحركة الوطنية عمومًا تدرك مع السنوات أن خصمها الأول في إعادة تجذّرها وتنظيمها هو الاعتقال الإداري. 

ربما لا يحضر بعض من خاضوا التجربة المعاني جميعها، لكنّها تظلّ حاضرة في واقع الأمر، إذ يدركها الاحتلال جيّدًا ويعمل بمقتضاها، لهذا يتعنت الاحتلال في موقفه تجاه المضربين، ويناور حتى اللحظة الأخيرة، ويعمد إلى إطالة أمد الإضراب لا ضغطاً على المضرب فحسب، وإنما قبل ذلك رفعًا لسقف الإضراب في محاولة منه لإغلاق هذا الملف عبر خلق رهاب من الاقتراب منه، وعلمنا بذلك من خلال تعميم مكتوب وصلنا من قيادة الحركة الأسيرة ونحن في سجن مجدو، أنّ قيادة الشاباك صرّحت لقيادة الحركة الأسيرة في أثناء إضراب الأخ خليل عواودة، مبدية موقفها من أنها ستعطي المضرب في النهاية حلاً لكن بعد أن ينهك جسده، فيعتَبِر بذلك هو وكل من يفكر مِن بعده في خوض التجربة.

بقلم علاء الأعرج كاتب وباحث، وأسير محرر، ومهندس مدني يُعدّ رسالة الماجستير في هندسة المياه والبيئة