بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

مقال بعنوان: "دورٌ يبحثُ عن بطل" الحلقة الرابعة

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة الرابعة: أصنام القبائل السياسية

كنا في الحلقة السابقة قد أطلقنا اسم "القبائل السياسية" في محاولةٍ لتوصيفِ الحالةِ الحزبيةِ الفلسطينية في مرحلتها التحررية، وهذه الحالة تُذكرنا بحالة القبائل العربية قبل ظهور الإسلام، عندما كان لكلِ قبيلةٍ صنمها أو أصنامها المُقدسة، التي اعتبرت في ذلك العهد رمزاً لهوية القبيلة.

وفي ذلك الحين اعُتبرت الأصنام وسيلة لعبادة الخالق، أي أن الأصنام كانت تعبيرًا عن كيانٍ مجسدٍ يرمز إلى القوة المتجاوزة للطبيعة، وكانت هذه الأصنام تُعبد ويجري تقديم القرابين لها. وكان ثمة أصنام يجري صناعتها من التمر، وحين يجوع صاحبها كان يقدم على التهامها.

ومن المؤسف الفصائل الفلسطينية باتت لها أصنامها وطقوها المقدسة، وثمة أحزاب صغيرة ليس لها وزن أو تاريخ نضالي باتت مثل (أصنام التمر) تقام بغرض الاسترزاق السياسي والمالي، ولإطعام قادتها وكوادرها وإبقائهم على قيدِ الحياة السياسية.

إن حالة الصنمية الحزبية/ الفصائلية، كإحدى مظاهر ورموز القبائلية السياسية، باتت تُعبّر عن شكلٍ وليس عن مضمونٍ. وصار الهدف والغاية هو الحزب والفصيل فيما أصبحت القضية الوطنية مجرد وسيلةٍ للبقاء الحزبي.

ويُمكننا أن نبرز بعضًا من مظاهرِ الصنمية القبائلية السياسية:

الصنم الأول: السردية الفصائلية:

من المعروف أن لكلِ فصيلٍ فلسطيني سرديته الخاصة، تُعرف بهذه السرديات، وتتحدث السردية الفصائلية عن نشأة الحزب ومؤسسيه والمناخ العام الذي ظهر به وشهدائه وقادته ومحطاته الهامة ومؤتمراته، وأبرز عملياته الفدائية وهويته الفكرية.. الخ.

ويُمكننا القول أنه لا غبار على مثل هذه السرديات، طالما لها غاية وطنية، ومن حق الفصائل أن تطلع أعضائها على تاريخها ونشأتها، وأن تعتز بتاريخها وقادتها ومسيرتها الثورية، غير أن السرديات الفصائلية باتت تحتل قداسة لدى الفصائل، بحيث أصبحت تطغى على السردية الوطنية التاريخية وتزاحمها؛ فالكثير من الأعضاء الذين ينتمون إلى الفصائل يعرفون السردية الخاصة بفصائلهم في حين يجهلون تاريخ فلسطين الحديث على الأقل، وثمة كادرات بل وقيادات في الفصائل لا يفقهون حتى أبجديات التاريخ الفلسطيني قديمة وحديثة، وبهذا حلت السردية الحزبية الفئوية مكان السردية الوطنية، وتُعد هذه المشكلة، أحد أوجه أزمة الحركة الوطنية في هذه المرحلة، التي يجب أن تعلو فيها السردية الوطنية على أيةِ سرديةٍ أخرى.

الصنم الثاني: الانطلاقات:

يُمثل إحياء الفصائل الوطنية والإسلامية لذكرى انطلاقاتها إحدى الطقوس الثابتة في الساحة الفلسطينية، حيث تقام الاحتفالات الحاشدة، ويجري إلقاء الخطب والكلمات واستعراض القوة والسلاح والشعارات السياسية، وقد كان إحياء الانطلاقات في السابق له معنىً ثوري وسياسي، ويجري التأكيد من خلالها على استمرارِ النضال وتجديد العهد للشهداء، وإبراز المواقف السياسية، وفي الأراضي المحتلة كان يجري إحياء الانطلاقات من خلال الصدامات مع قوات الاحتلال، وتُمثّل شكلًا من أشكال استمرار المواجهة وديمومة النضال الوطني.

بيد أن إحياء ذكرى انطلاقات الفصائل، تَحوّل منذ أكثر من عقدين إلى مهرجانات لا روح فيها ولا طعم لها وفارغة من أي مضمونٍ، ليس لها أي هدف سوى الحفاظ على الطقس والاستعراض الحزبي وإثبات الحضور، وفوق كل ذلك باتت مرتفعة التكاليف، ومن الملاحظ أن الفصائل جميعًا تحرص على إحياء ذكرى انطلاقاتها، حتى الفصائل التي ليس لها أي وزن أو حضور سياسي وجماهيري أو حتى رصيد نضالي تُصّر على إحياء ذكرى انطلاقاتها.

وفي الوقت الذي تُصّر فيه الفصائل على إحياءِ ذكرى انطلاقتها فإنه يجري تجاهل مناسباتٍ وطنيةٍ بارزةٍ ومهمة، أو يجري إحيائها على استحياء، ومن هذه المناسبات: وعد بلفور، هبة البراق، ثورة 36، مذبحة دير ياسين، مذبحة كفر قاسم، ذكرى معركة الكرامة، يوم الأرض، يوم الاستقلال، الانتفاضة الأولى، الانتفاضة الثانية.. وغيرها العشرات من المناسبات الوطنية التي يجري المرور عليها مرور الكرام.

الصنم الثالث: الرايات الفصائلية:

لا تكاد تخلو مناسبةً أو مظاهرةً أو تشييع شهيد من دون تسابق الفصائل على رفع راياتها الخاصة، وكثيرًا ما كانت تغيب الراية الوطنية (العلم الفلسطيني) عن مثل هذه الفعاليات، أو يبدو علمًا يتيميًا أو صغيرًا أمام غابة رايات الفصائل المُلوّحة والمتنافسة.

إنه طغيان مشهد الرايات الفصائلية على العلمِ الفلسطيني يعكس أزمة الحركة الوطنية، إذ يعلي من شأن الحزب أو الفصيل على حسابِ القضية الوطنية، ويُعبّر عن تراجع التعبئة الوطنية لصالح ما أسميناها "القبائلية السياسية".

الصنم الرابع: الشهداء:

من حق الشهداء علينا تكريمهم بما يليق بهم وبتضحياتهم، ومن الجيد أن تبقى قضية الشهداء، تحتل الأهمية والقداسة العظيمة لدى الشعب الفلسطيني، ويعد هذا الإجلال للشهداء جزءٌ من الواجب الوطني العام تجاه الشهداء وذويهم، وأحد محفزات استمرار العملية النضالية المتواصلة؛ فالشهداء هم رموز وطنية يجمع عليها الشعب، ومن حق الفصائل أن تُكرم شهداؤها وتحيي ذكرى استشهادهم.

غير أن تحويل الشهداء  إلى رموزٍ حزبيةٍ أو فصائلية، فإن ذلك ينتقص من قيمة الشهادة، ويُحولّهم من رموزٍ وطنيةٍ إلى رموزٍ حزبية.

فقد بات أبو جهاد وكنفاني والشقاقي وياسين ودلال المغربي مجرد شهداء حزبيون بتحويلنا إياهم إلى رموزٍ للقبلية السياسية، فهذه القامات الكبيرة وغيرها الآلاف من الشهداء أكبر وأعظم من اختزالهم إلى شهداء للحزب وحسب.

ومن ناحيةٍ ثانيةٍ فإن التركيز على شهداء الثورة المعاصرة وإحياء الفصائل لذكرى شهدائها وتخليدهم، فإن ذلك من شأنه أن يحرم بقية الشهداء من التكريم اللائق لاسيما شهداء فلسطين في المراحل السابقة للثورة المعاصرة، فلماذا لا يجري تكريم شهداء الثلاثاء الحمراء عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم، شهداء هبة البراق، شهداء ثورة 36 كفرحان السعدي وعبد الرحيم الحاج محمد..؟!

لماذا لا نحيي ذكرى شهداء النكبة كعبد القادر الحسيني وعبد الرحيم محمود؟! لماذا لا نُكرم الشهداء العرب الذين ارتقوا على ثرى فلسطين ودفاعًا عنها كعز الدين القسام وسعيد العاصي وشهداء الجيوش العراقية والأردنية والمصرية والسورية واللبنانية، ومن الممكن أن يشمل التكريم أيضًا شهداء أمميون، استشهدوا دفاعًا عن القضية الفلسطينية.

إن التركيز على الشهداء، بوصفهم شهداء لهذا الفصيل أو ذاك من شأنه أن يُحوّل الشهيد من شهيدٍ وطني إلى شهيدٍ حزبي، ويلحق ضررًا بمعنى الشهادة في الوجدان الجمعي الفلسطيني، ويُحولّهم إلى أصنامٍ حزبيةٍ بدلًا من أيقونات ونماذج كفاحية وطنية الصنم.

الصنف الخامس: القادة والرموز الوطنية:

لقد أنجب التاريخ الكفاحي الفلسطيني عشرات القادة والرموز الوطنية منذ البدايات الأولى لمقارعة المشروع الصهيوني، ولا يجوز اختزالهم بالقادة والرموز الحزبية، فثمة قادة ورموز كفاحية وسياسية ومجتمعية وثقافية وأدبية وأكاديمية وفنية وشعبية، في مختلفٍ محطات الصراع، وقَدمّوا إسهامات عظيمة كلٌ في مجاله في خدمة القضية الوطنية، وهذه القافلة الطويلة من القادة والرموز، لا يجوز إهمالهم، والتركيز على قادةٍ ورموز الأحزاب وحسب.

وثمة أصنامٍ أخرى للفصائل الفلسطينية كالشعارات والنشيد والقسم.. الخ، حيث تَحوّل الحزب بحد ذاته إلى صنم مُقدس لا يجوز نقد تجربته ومواقفه ورموزه وقياداته وتاريخه. مع أننا نحتاج إلى نقد تجربتنا التحررية برمتها والعمل على تصحيح الأخطاء القادمة التي تُرتكب في كلٍ مرحلةٍ، وتصويب مساراتنا المتعرجة.

إن الصنمية الفصائلية، تَحولّت في التجربة الثورية الفلسطينية إلى شكلٍ من أشكال تقديس الذات الحزبية على حساب الذات الوطنية، وهو من شأنه أن يعطل المسيرة التحررية لأن الوحدة المنطوية على تركيز الجهود والطاقات في الصراع مع العدو، تُعد شرطًا أساسيًا من شروط عملية التحرير، ولإصلاح هذه الحالة، والانفكاك من أزمة الصنمية الحزبية يستدعي إعادة المراجعة، وتشجيع النقد الذاتي من داخل الأحزاب وكذلك النقد من الخارج، والذي يهدف إلى تصويب المسار وليس التجريح أو ما بات يُعرف "بالردح السياسي" البعيد كلِ البعد عن الروح النقدية الأصيلة. 

ومن الجدير ذكره أن مبدأ النقد الذاتي في الحياة الحزبية الداخلية غدًا طقسًا إما مُعطّلًا أو أنه أصبح عديم المعنى، وحل مكانه النقد الإيجابي أو المجاملات، في حين تحتاج الفصائل الفلسطينية ربما أكثر من أيِ وقتٍ مضى، لمراجعاتٍ عميقةٍ لسياساتها وبرامجها وطقوسها، والسعي لتطوير أدائها حتى يكون بوسعها أن تلعب دورها النضالي والسياسي على نحوٍ أفضل.

إن سرديات الفصائل عن ذاتها يجب أن لا تحل محل السردية الوطنية، لأننا أحوج ما نكون إلى تنشئةٍ أجيالنا وتعريفهم بتاريخ فلسطين الثري لا سيما كفاح شعبنا ضد المشروع الصهيوني، أما انطلاقات الفصائل فينبغي ألا تكون على حساب المناسبات الوطنية الجامعة، وهذه المناسبات يجب إحياؤها بصورةٍ جماعيةٍ وتوظيفها كمناسباتٍ للفعل النضالي.

أما الشهداء، فيتعين أن يجري تشكيل لجنة وطنية عليا لتوثيق أسمائهم وبطولاتهم، وتخليد الرموز الكبيرة من الشهداء من خلال إطلاق أسمائهم على الشوارع والمدارس والأماكن العامة، وضرورة الالتفات إلى الشهداء القدامى في المحطات السابقة لمرحلة الثورة المعاصرة.

أما الرايات الفصائلية، فلا معنى لها، وهي تُجسد الفرقة والتنافس بدلًا من الوحدة والتعاون، وينبغي أن يبقى العلم الفلسطيني هو الراية الوطنية الوحيدة في الميادين.

لا يجوز لشعبٍ يعيش مرحلة تحرر وطني ويدفع من دماء أبنائه أثماناً باهظةً، أن تبقى حركاته وفصائله الثورية، أسيرةً لتجاربها وتاريخها ومصالحها الفئوية، لأن ذلك من شأنه أن يحدث ثغرةً خطيرةً في المعركة التحررية، فهذه المسلكيات لا تنم عن نضوجٍ وإنما عن مراهقةٍ، ولا تنطوي على الإحساس بالمسؤولية الوطنية، وإنما تنطوي على تقديسٍ فارغٍ للذوات الحزبية، وإعلان عن انتصاراتٍ وهمية في الوقت الذي تصول به عصابات رعاع المستوطنين وتعيث في الأراضي الفلسطينية فسادًا، وتتنامى الممارسات الإجرامية الاحتلالية، من دون أن نشهد محاولاتٍ جدية للتصدي لها وردعها، فلا معنى لمواصلة عبادة أصنامنا الحزبية، طالما نحن عاجزون عن لجمٍ العدوان الاحتلالي اليومي ضد الأرض الفلسطينية، وضد الشعب الفلسطيني، وضد حركته الأسيرة. 

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش